بنطال دوشامب
ليلى سلامة
كاتبة أردنيّة مقيمة في البحرين
في المرّة القادمة التي أسافرُ فيها سأحملُ حقيبة سفرٍ حقيقيّة! عندما كنت أعزبَ مغامرًا تشاجرتُ كثيرًا مع حظّي فألقيته معي في البحر. أن يقذفك الموجُ نحو الساحل على قيد الحياة يعني أنّك أصبحت فكرةً ومعنى، وستُعامل كسؤالٍ مفاهيمي. أضاءت لي الدنيا مصابيحها السماويّة فاهتديتُ إلى قدري. سكنتُ مع مجموعةٍ من الشباب- الذين مثلي قيّدوا حظوظهم حول خواصرهم- في منزلٍ وسط البلدة، واعتدنا أن نترك الأبواب مفتوحةً. في إحدى المرّات نسينا الشبابيك مشرعةً على آخرها وكعادتنا لم نقفل الأبواب، في تلك الليلة قفزت الظلالُ كأنَّها أفياءُ نسائم تحلّق داخل المنزل فالتزمتُ الصمت، وعضّتني سكينةٌ مفرطةٌ حتى صرتُ جمادًا. سرق لصٌ بنطالي فحقنني الفزعُ والقلقُ ومرّتِ الأيام عليَّ فصول شتاءٍ متتالية. مرّ أسبوعٌ ثم أسبوعان، مرّ الزمن دون خارطةٍ تفسره. اتّصل بي اللصُّ وروى لي ما روى حتى أنّني كنتُ منصتًا ومنزوعَ الضغينة. عضّ أذني سؤاله المحرج: هل أنت صاحب البنطال المسروق؟ أجبتهُ: وهو بنطالي الوحيد! فتعجّب قائلًا: هو! إذن أنت لم تخرج من المنزل منذ ذلك الحين! قلتُ له بنغمةِ وترين ملتصقين ببعضهما: ولن أستطيع الخروج حتى تعيد لي بنطالي!.
تأتأ اللصُ بشفتين عاريتين: للأسف اشتراه رجل محترم يقول إنَّه متخصّصٌ في شيء اسمه الفن المفاهيمي! صدقني، كنت أودُّ أن أعيد لك بنطالك مع محفظتك وجميع البطاقات بواسطة صندوق البريد، ولكن لسوء حظّك أنّ ذلك السيدّ تأمل بنطالك وأُعجب به؛ فاشترى كلَّ محتوياته.
كان لصًّا مثقفًا ويملك قلبًا رحيمًا، تمنيّت لو أنّه يعيد لي أيَّ بنطال، إذ لا مشكلة عندي إن كان قصيرًا أو فضفاضًا أو مهترئًا، المهم بنطال والسلام. قال لي اللصُّ إنّ بنطالي صار فكرةً عامة وتعبيرًا طبيعيًّا يجوب بلدان العالم تحت اسم بنطال دوشامب. تعجّبت أنَّ بنطالي صار له اسمٌ وشأنٌ، وأنّني الآن بلا بنطال، لم يعد لديّ ما يثبت اسمي وأصلي وفصلي.
خرجتُ عاريًا أفتّش عن بنطالي قبل أن يصبح شحنةً على متن سفينة كبيرة تنطح المحيط. تشاجرتُ مع حظي وقيّدته من ذيله، حاول أن يجرّني بقوة إلى داخل معرض الفنِّ، لكنَّني خشيت من أن يضعني الفنّانُ بجانب بنطالي؛ فأفلتُّ ذيلَه مطلقًا سراحه. من بعيد رأيت أبواب المنزل مغلقةً والنوافذ تغازل الشمس، رأيت ظِلًّا يهجم على صندوق البريد الصدئ في محاولة لدفع شيءٍ ما في داخله.