الدكتورة هند غسان أبو الشعر
مدخل:
سمتها المصادر الإسلامية " الأقحوانة "، وعرفتها العصور الحضارية المتعاقبة، فكانت سهولها التي تمثل الامتداد الطبيعي لسهل حوران، جزءًا من أهراء روما التي اعتمدتها الامبراطورية الرومانية للتزود بقمح حوران، وعندما اخترت أن تكون (إربد وجوارها) محور دراستي لنيل درجة الدكتوراه في عهد التنظيمات العثمانية، لم أجد دراساتٍ أكاديمية تتناولها غير دراسة للدكتور يوسف غوانمة في مرحلة تاريخية مبكرة، وبدأت رحلة البحث عن المصادر، كان الخوف من أن تكونَ المصادر قاصرةً عن تغطية البحث لرسالة بحجم درجة الدكتوراه، ولكن كنوز إربد في العهد العثماني (1516 م – 1918 م) كانت وافرة، فاضطررت لتحديد الدراسة بناحية واحدة فقط من النواحي الإدارية التابعة لقصبة إربد، وبدأت رحلة لا تنتهي مع تاريخ إربد، أقحوانة سهل حوران.
الجغرافيا أولًا:
جيولوجية إربد تشكِّل الأساس الذي تقوم عليه مظاهر الحياة فيها، فهي تقوم على تكوينات من الطين المخلوط بالجبس، وتليها طبقة من الصلصال، تمتد من شمال إربد وحتى الجزء الجنوبي الغربي، وتنتشر تكوينات من خليط من الرسوبات الطينية والرملية والحجر الكلسي والحصى والرمال البازلتية في تل إربد، وعلى امتداد إربد القديمة (وسط القصبة)، في حين ينتشر البازلت في جنوبي إربد ممتدا لمنطقتي حوارة والحصن، وبالتالي؛ فإنَّ تربة إربد مكوّنة من الطين الأحمر نتيجة تحلل الصخور المحلية؛ من جيرية، ورملية، وترتفع فيها نسبة كربونات الكالسيوم والبوتاسيوم، وهي معروفة بتربة البحر الأبيض المتوسط الحمراء. ولأنَّ معدل سقوط المطر في إربد يزيد على 350 ملم في السنة، فتربتها تخزن الماء وتحتفظ بالرطوبة، وهي مواصفات تصلح لزراعة الحبوب، والكروم، وأشجار الزيتون، والفاكهة، وهذا هو أول أسس الاستقرار وتشكيل الحضارات على أرضها.
الموقع والتضاريس:
عُرفت قصبة إربد عبر تاريخها بارتباطها بحوران، وهي منطقة واسعة من دمشق وحتى حوض اليرموك وعجلون، وتمتدُّ غربًا من سفح الحرمون إلى الحولة، ومنه إلى بحيرة طبريا حتى مصب اليرموك، وشرقا إلى جبل العرب (الدروز). والمنطقة ذات سطحٍ مستوٍ على الأغْلب، وفيها البقايا البركانية البازلتية، وتقطع سهولَها الواسعةَ أوديةٌ متعددة، وتربتها قابلة للزراعة وخاصة زراعة القمح، لذا فقد كانت هذه المنطقة مركزًا للاستقرار عبر التاريخ، وارتبطت إداريا بدمشق خلال مراحل تاريخية متعددة، وكان الأهالي يترددون على دمشق سيرًا على الأقدام للتجارة، في حين كانت طريق "تراجان" المعبدة والمارة ببصرى الشام، سببًا لزيادة الاتصال بين إربد وجوارها وبين دمشق عبر التاريخ، من خلال قوافل المكارية، الذين تخصّصوا بنقل حبوب السهول الخصبة إلى دمشق، وقد وصف الرحالة الذين زاروا منطقة إربد وجوارها تلك القوافل، التي لا تتوقف عن المسير بين إربد وقراها وبين المركز، وخاصة في العهدين المملوكي والعثماني.
إنَّ موقع إربد بين دائرة عرض 32 فاصلة 32 وخط طول 35 فاصلة 51 أعطى إربد ميزة خاصة، فهي لا تبعد عن البحر المتوسط أكثر من 60 كيلومترا فقط، وعن غور الأردن 32 كيلومترا، فهي المعبر من الشرق إلى فلسطين، وحلقة الوصل بين أجزاء بلاد الشام الشمالية والجنوبية، وهذا يعني أنها تتمتع بمناخ متميز، تصلها رياح البحر المتوسط، وتتأثر بقربها من منطقة الأغوار الدافئة، ومن قربها من منطقة عجلون الجبلية المرتفعة. والمنطقة بصورة عامة قليلة الارتفاع تميل للانبساط، مما يجعل هذا الموقع والمناخ المعتدل من العوامل الحاسمة في تحديد حركة السكان التي ظلت متتابعة عبر العصور، من إربد وجوارها إلى أجزاء بلاد الشام، ومن بلاد الشام، وشبه جزيرة العرب، ومصر، وبلاد المغرب العربي، وهضبة الأناضول، وبلاد البلقان إلى إربد وجوارها، فاستقطبت المنطقة عناصر حيوية من سكان الحواضر؛ سواء من دمشق، أو المدن والقصبات في بلاد الشام، وخاصة من حلب، وحمص، ونابلس، وطبريا والناصرة، وصفد، والجليل، ومن باقي الأطراف.
تفتقر منطقة إربد إلى عنصر أساسي من عناصر الاستقرار وهو المياه الدائمة أو الجارية، وقد أدى هذا الفقر في المياه إلى مشكلة حقيقية، حيث عانت إربد دائمًا من نقص في الموارد المائية ؛ سواء في المياه الجارية الدائمة، أو العيون، لذا كان لا بدَّ من الاعتماد على مياه الأمطار التي تشكّل الأساس في تجميع مياه الشرب، في البرك، أو الآبار التي يحفرها الأهالي لتأمين حاجتهم من المياه، والبرك ظاهرة معروفة في كل منطقة حوران، التي لا يتوافر لها مياه جارية أو سيول دائمة أو ينابيع، وقد عرفت إربد تجميع المياه في بركة بقيت حتى زمن قريب، حيث استغنى الأهالي عنها بوصول مياه الشرب من راحوب، إلّا أنّ هذا لم يمنع من الاستمرار بحفر الآبار واعتمادها، ويمكن العودة لكتب الرحالة في القرن التاسع عشر الذين رصدوا مواقع الآبار الرومانية الكبيرة، التي كان لها أدراج لسعتها، وتسميها دفاتر الطابو العثمانية (بالآبار الخاربة) لأنها غير مستخدمة، وبعضها استخدمه الأهالي، وهي آبار رومانية، وقد وجدنا في دراستنا بالعودة إلى سجلات الطابو العثمانية وإلى سجلات تسوية الأراضي، تسجيلًا دقيقًا لملكية الآبار في المنطقة، وحاولنا ربط عدد السكان بتزايد حفر الآبار، ومعظم الآبار التي رصدناها موجودة في جُدر القرى، لأنها عادة تُحفر في البيوت السكنية أو قريبة منها، علمًا أنَّ ملكية الآبار هنا ربما كانت مشاعًا لأفراد العائلة، وعادةً ما يستخدمها أصحاب البئر ومَن جاورهم عندما تشح مياه الشرب، وتقل نسبة هطول المطر. وننوه هنا إلى أن إربد ترتبط في موروثنا بالآبار، فهي (إربد الخرزات)، حيث استقرت العشائر التي استوطنتها كل عشيرة بجوار بئر، أو (خرزة) بئر، ولا نفهم من هذا أن العشائر هي التي حفرت هذه الآبار، لكنّها امتلكتها واستقرت بقربها، ولاحظنا أنَّ دفاتر الطابو لم تُشر إلى الخرزات، وهناك إشارة متأخرة تعود للعام 1914م إلى (آبار قديمة على التل لا مالك لها) وهي حالة معروفة بوجود آبار مشاع، تستخدم لسقاية الماشية والشرب بشكل جماعي، أمَّا الآبار التي ذكرتها السجلات العثمانية، فتتوزع على الحارات الشرقية، والغربية، وحارة الشرابجة، ووسط القرية، وظهر التل، وقد لاحظنا أنَّ عددَ الآبار في الحارة الشرقية أكبرُ من عددها في الحارة الغربية، ونستنتج من هذا أنَّ الحارة الغربية أقربُ لبركة إربد من الحارة الشرقية، مما يجعل سكانها يعتمدون على البركة في التزوّد بالماء، ولا نعتقد بأنَّ السبب عائد لعدد سكان كل حارة.
السكان:
لا تعطينا المصادر معلوماتٍ متتابعة ووافية لكل العصور، ولا نجد إحصاءات نعتمدها إلا في العهد العثماني، بالعودة إلى سجلات الدولة، لكن المصادر المملوكية تساعد في الوصول إلى معلومات عامة عن إربد في العهد المملوكي، قبل دخول العثمانيين لبلاد الشام سنة 1516م، حيث نجد في كتب اليوميات والموسوعات إشارات غير مكتملة، عن واقع السكان في إربد، خاصة عند الحديث عن الأوبئة، أو المعارك، أو مواسم الحج، فقد عرفت بلاد الشام في آخر العهد المملوكي الكثير من الأوبئة، مما جعل أهالي دمشق يلجؤون خوفًا من الطاعون إلى " بلاد عجلون ". ووردت إشارات لإربد وقراها في فترة هجوم تيمور لنك على دمشق، وتسميه المصادر المحلية (اللنك) أي الأعرج، وتسمى هجمته ب (فتنة اللنك)، حيث ذكرت كثير من المصادر المحلية لجوء الأهالي من دمشق إلى قرى عجلون، وهذا يعني إربد أيضا، كما وجدنا الكثير من الإشارات لشخصيات من إربد وقراها، في دمشق، والقدس في العهد المملوكي، ممن عملوا في المدارس والتدريس، أو ممن درَسوا في مدارس دمشق والقدس، أو ممن أشرفوا على الأوقاف، أو عملوا بالتجارة، وعادةً ما كانوا ينسبونهم إلى قراهم، فمنهم الإربدي أو الحصني أو الجمحي أو العجلوني أو الباعوني أو الحسباني أو الرمثاوي أو الجراحي أي من أهالي المزار، أو الأيدوني أو السلطي أو الكركي وهكذا.
أما في العهد العثماني (1516 م – 1918 م) فيمكن العودة لسجلات التحرير التي اعتادت الدولة تحريرها، أي تسجيل كل ما على الأرض من موجودات، كالمرافق، والممتلكات والأهالي من السكان، مع تسجيل كل بيت، وعدد الأفراد، وعدد غرف البيت ومرافقه من آبار، وحاصل، ومُغر، وطابون، وتبان، وبيدر، وعراق، وياخور، كما كان يتم تسجيل أسماء الأهالي سواء أكانوا أرباب أسر أو عُزاّب، وتحديد غير المسلمين ممن يدفعون الجزية، ومقدارها، وتسجيل مقدار الإنتاج من المحاصيل الزراعية، والثروة الحيوانية، ومقدار العشر الذي يدفعه كل فرد، وهذا يعني أننا نتمكن من معرفة واقع حال إربد عبر سنوات الحكم العثماني وعدد أهاليها بأسمائهم، وما كان يزرعونه، من حبوب وأشجار، وما يربونه من ماعز ونحل، وهو ما يدفع عليه العُشر.
يبدو من مراجعتنا للسجلات أن إربد كانت دائمًا مسكونة ولم تكن مهجورة، وكان الأهالي فيها يزرعون القمح، والشعير، والكرسنة، والذرة، والمال صيفي؛ أي أنواع المحاصيل الصيفية، ويربون الماعز، وينتجون العسل من تربية النحل، وهذا مؤشر على أنَّ المنطقة كانت دائمًا مركزَ حياة زراعية نشطة، ولكنها فقدت في العهد العثماني موقعها التجاري الذي تمتعت به في العهد المملوكي، حيث كان بإربد (بازار) أي سوق تجاري، وكانت طريق (الثلج) والبريد تّمر من إربد، وتربط دمشق بالقاهرة، فقد كان المماليك يعتمدون على منطقة (منين) شديدة البرودة في جبل قاسيون، لإحضار الثلج وتوصيله بخيل البريد من دمشق عبر إربد وقراها، للوصول إلى القاهرة، محفوظًا بطرق خاصة ليصل إلى المماليك.
تذكر سجلات التحرير لعام 1883م أنَّ بإربد 63 خانة أي أسرة، وهذا يعني أنَّ عدد سكانها قرابة 400 نسمة، وهو عدد محدود قياسًا بأهالي الصريح مثلًا في العام نفسه، الذين كانوا 190 خانة أي حوالي 1200 نسمة، أو المزار الشمالي الذين كان عدد سكانها 102 خانة أي أكثر من 600 نسمة. وتسجل الدراسات المحلية أنَّ عشائر إربد كانت في منتصف القرن التاسع من التلول والحجازات والرشيدات والدلاقمة والشرايرة والخريسات والعبندات والحتاملة و"أبو سالم" والقطامي والغزاوي وكريزم والخطيب وغيرهم. وتذكر سجلات الطابو المبكرة عام 1876م أنَّ مساحة أراضي إربد 7056 دونما، وعدد الحصص فيها 47 حصة، وعدد الدور 67 دارا، وعدد مالكي الأراضي 49 مالكًا، وهذه مساحة قليلة قياسًا على مساحات القرى المحيطة بإربد؛ مثل أراضي الحصن التي تبلغ 17275 دونمًا وحصصها 74 حصة موزعة على 60 مالكا، وعدد دورها 157 دارا.
الوافدون إلى إربد:
اتسعت إربد وأصبحت " قصبة " في عهد التنظيمات العثمانية، عندما اتخذتها الإدارة العثمانية مركزًا لقضاء عجلون، نظرًا لسهولة المواصلات إليها، وارتباطها بدمشق وإمكانية نشر الدرك فيها لتحقيق الأمن والنظام، ونشر الجندرمة لمنع هجمات القبائل البدوية، وقد اتُخذت إربد مقرًا للإدارة العثمانية التي وجدت أنَّ القصبة قريبة من القرى الكبيرة المحيطة بها، وأن إمكانية إنشاء مراكز إدارية وأمنية ونشر القوانين ممكنة جدًا، وهو ما تحقق للدولة بإنشاء محاكم ومجالس وجلب الموظفين الذين أكدوا حضور القوانين والأنظمة والتعليمات مع منتصف القرن التاسع عشر، فتم إنشاء محاكم نظامية، ومجلس إدارة، ومجلس بلدي، ومجالس اختيارية، ودوائر متعددة، وتدعيم هذه الأجهزة بالدرك والجندرمة وهو ما تم، فتأسست القائم مقامية (المتصرفية) ويتبعها النواحي والمخاتير، وتم تعيين مدير مال وأمين صندوق وكتاب وتحصيلدارية أي جباة، وتأسست مجالس من مثل: مجلس الإدارة، المجلس البلدي، ودوائر مثل دائرة الطابو، ودائرة النفوس، ودائرة الصحة، ودائرة المعارف، والتلغراف والبوسطة، والأورمان أي الأحراش، ودائرة الرجي أي الدخان والبنك الزراعي، كما تم تأسيس جهاز قضائي مدني إلى جانب الجهاز الشرعي، المُكوّن من القضاة ونواب الشرع وكتاب الشرع، في حين كانت المحاكم النظامية حسب التنظيمات العثمانية التي حددها الدستور، وبالتالي، فقد تم تنظيم الحياة المدنية وأيضًا العسكرية في قضاء عجلون ومركزه القصبة إربد منذ عام 1851 م، في حين كانت باقي مناطق شرق الأردن في العهد العثماني بهذه المرحلة، تعاني من تسلط العشائر البدوية وانعدام الأمن، وقد ساعد هذا الضبط الإدارة العثمانية على إرسال (قوميسيونات) أي لجان لتحرير الأراضي؛ أي تسجيلها في سجلات فيما عرف باسم الطابو، وتسجيل الملكيات والأوقاف والأراضي الزراعية في سجلات، وكان الغرض من ذلك تثبيت حق الدولة في جمع الضرائب والرسوم من جهة، وتسجيل القادرين على الالتحاق بالعسكرية من الأهالي، ولذا، فقد تأخر الناس عن تطويب أراضيهم خوفًا من الضرائب وإلحاق أبنائهم بالعسكرية، وكان البعض يخشى إدخال الأبناء إلى المدارس لئلا تأخذهم الدولة إلى ميادين القتال، حيث كانت تنشغل بحروب متتابعة على الجبهة الروسية وجبهة البلقان واليمن أيضًا.
اهتمت الإدارة العثمانية بقصبة إربد مركز قضاء عجلون، وقد زار الوالي أحمد حمدي باشا (1880 – 1885 م) إربد، واطّلع على البركة القديمة التي يستخدمها السكان، وتبيّن له أنّها لا تخدم العسكريين والموظفين، فقرر تخصيص صهريج جديد لهم، وتم تشديد الحراسة على البركة لضمان النظافة وحُسن الاستخدام، وشهدت إربد في هذه الفترة توسيع الأبنية الحكومية على التل، وزيادة أعداد الضابطة، وتوسيع الجامع القديم، وقد أحضر الوالي معه مهندسًا في حوزته خرائط حسب الأصول الهندسية، وكانت هذه الخطوات الإدارية لتثبيت سلطة الدولة وضمان استمرار عمل موظفيها وتطبيق القوانين لتخفيف ضغط العربان على الأهالي، فقد ذكرت صحيفة البشير الصادرة عام 1882م أنَّ سكان قرية الحصن يشكون من التعديات التي يقوم بها عرب الحامد بنهب مواشيهم وأموالهم، إضافة إلى ما يقوم به (مأمورو) القضاء من طلب الرشاوي والضغط على الأهالي، فكانت الخاوة والرشوة تهدِّد أمن الأهالي، وتدفعهم للاحتجاج عبر الصحافة وكتابة الاستدعاءات.
كما أنَّ الدولة أهملت الرعاية الصحية، فقد انتشرت الحصبة بين أطفال إربد، ولم تكن البلدية قد عيّنت طبيبًا حسبما تنص تعليمات البلديات في الدستور، فأرسلت ولاية سورية الجليلة طبيبًا عسكريًا لمداواة أطفال إربد الذين فتكت بهم الحصبة، وفي عام 1910م زاد ضغط العشائر البدوية على القرى حول إربد، ونشرت جريدة المقتبس الدمشقية احتجاجًا موقعًا من الأهالي لضعف الدولة في مواجهة العشائر الذين يُدخلون مواشيهم إلى مزروعات الأهالي، وكان الاحتجاج موقعًا من: مسعود عبود، محمد نائل الغرايبة، محمد الحمود، محمد الفلاح، محمود الفنيش، كايد أحمد، يوسف قبيل، سليمان يوسف، وأحمد محمد، وحسن شهاب، ويوسف فارس محمود.
الوافدون للقصبة:
أدى انتشار الأمن إلى قدوم الموظفين الذين استقروا بالقصية إربد بعائلاتهم، وقد لاحظنا من متابعة عنصر السكان في القصبة، أنَّ الكثير من الموظفين الوافدين، استقروا بإربد ولم يتركوها، وأصبحوا من المُكّون السكاني حتى اليوم، كما قدم العديد من التجار وغالبيتهم من (الشوام) من أهالي دمشق -من الميدان بشكل خاص- نظرا لأنَّ سكان الميدان غالبيتهم يعملون بتجارة الحبوب، ويتعاملون مع أهالي إربد وقراها، كما وفد تجار من نابلس وصفد والناصرة وعملوا بسوق إربد، حيث اتسعت الفعاليات التجارية وتزايد عدد الدكاكين التي امتلكها العديد من التجار القادمين من دمشق وحلب ونابلس وصفد، وقدمت عناصر من الذين يعملون بالحِرف والمهن، ومنهم الذين يعملون بحرفة البناء والنجارة، وهم على الأغلب من أهالي الناصرة ونابلس ممن اشتُهروا بدّق حجر البناء، واستقروا مع الوقت بإربد وشكّلوا جزءًا من المُكوّن السكاني فيها.
بعثت هذه المكونات نشاطًا خاصًا بسوق إربد، وتم إقامة ما يعرف ب (سوق الخميس) ثم سوق الاثنين، حيث اجتذبت هذه السوق أهالي القرى المحيطة بإربد، وأهالي شمال فلسطين، وبعض التجار من نجد والحجاز ومن مصر، وأدت هذه المتغيرات إلى إحداث تغيير ملموس في عدد السكان وفي السوق وعدد الدكاكين وفي المظاهر العمرانية، خاصة وأن القصبة عرفت أول مجلس بلدي لها عامَ 1882م، وهي بذلك من أقدم البلديات في الأردن، حيث تّم تطبيق نظام الانتخابات كما أورده الدستور، وقام المجلس البلدي بمتابعة النظافة في القصبة، وتم جمع الرسوم، وتنظيم طلبات الحصول على أذن البناء، وفي أواخر القرن التاسع عشر كانت إربد قد اتسعت وفيها حارات، ورفدتها عناصر سكانية متنوعة من الوافدين وخاصة التجار من أهالي دمشق، وقد استطعنا من خلال الاطلاع على سجلات المحاكم الشرعية رصد الأعداد من الوافدين الذين استقروا بإربد من دمشق من حارة الأكراد ومن الميدان ومن حارة الصالحية، ومن قرى نابلس، ومن غزة، ومن طرابلس الغرب، ومن لبنان من طرابلس وبيروت وظهور الشوير ومرجعيون وصيدا، ومن لواء أورفه وعينتاب والناصرة وصفد والجليل في فلسطين، ومن حيفا وجبل لبنان ومن حوران وقرى فلسطين، ومن المغاربة الذين كانوا يقدمون في قوافل مع موسم الحج، ويتخلفون عن العودة، ويستوطنون مناطق من بلاد الشام، وعرف بعضهم بالعمل في الجهاز العسكري أو مع الملتزمين الذين تكلفهم الدولة بجمع الضرائب، كما وفد بعض أهالي البلقان وأقاموا في أجزاء من فلسطين، وتسرب بعضهم إلى مناطق شرق الأردن، ومنها مناطق في الشمال، ومن التركمان أيضًا؛ وهذا يعني أنَّ عناصر جديدة وفدت إلى إربد واستقرت فيها، وأحفادهم الآن هم من الأهالي الذين يعملون بالتجارة والِحرف.
سوق إربد والحياة الاقتصادية:
عند عودتنا لسجلات أملاك القصبة المحفوظة في دائرة الأراضي، وجدنا معلوماتٍ دقيقةً عن سوق إربد عامَ 1884م، ففي الحارة الفوقا ذكر السجل أسماء أصحاب الدكاكين، وهم: محمد بن علي، وسليمان بن سالم خضر سلامة، وحامد بن أحمد محمود علي، ومحمود ومحمد أولاد بيبرص، وعبدالله بن سوقة، وقاسم بن حجازي ومحمود وعواد حجازي، وعايد بن حمدان، محمد أحمد الدلقموني، وحمدان بن مصطفى، وطالب بن حمدان، وحمد بن محمد العقلة، وشاهين بن عواد، وأحمد عبد الباقي، وياسين بن قاسم، وعوض ومحمود بن علي رشيدات، وسليمان وسالم وخضر وبكر ومحمد آغا عبد الحليم، وفارس بن سعد عرب، ويوسف بن حنا عطون. وفي عام 1885م ذكر السجل دكاكين إلياس السباك السكافي وشريكه حبيب سعيد يارد، وسلوم بن سعد عرب يارد، وفي عام 1889م تم تسجيل دكاكين بيعت بالمزاد العلني في "سوق الخميس" بإربد باسم "عيسى بن إبراهيم الحداد" وعددها أربعة دكاكين، في حين سُجّل دكان عامَ 1882م في إربد قرب ميدان الحكومة بالمزاودة العلنية باسم "سليم أفندي بن حنا أفندي فركوح"، ويحدها من الشمال الطريق السلطاني ومن الغرب طريق الحصن، ولاحظنا أن أحد أهالي قصبة إربد وهو قاسم حجازي باع دكانًا باسمه إلى اليوزباشي عمران جركس والخواجا عيسى حداد بن أيوب، وباع أيضًا ثلاثة دكاكين لمحمد آغا حسن آغا حليمة، ومحمود العلي، وللحاج محمود ومحمد أولاد أنيس بيبرص، كما اشترى أحد الوافدين إلى قصبة إربد وهو جريوس بن سلوم بن سعد يارد دكانا في الحارة الفوقا في العام نفسه، وما أوردناه من معلومات يؤكّد على أنَّ الوافدين كانوا من فئة التجار وأصحاب الحِرف، وكانوا بحاجة لشراء دكاكين لممارسة أعمالهم، لكن هذه المعلومات تؤشر على النشاط الجديد الذي شهدته قصبة إربد في هذه الفترة مع استقرار الأمن وقدوم الوافدين للقصبة، في مؤشر واضح على النشاط الاقتصادي الذي تزامن مع وجود إدارة ودرك ومع المجلس البلدي في القصبة.
أمَّا التجارةُ في إربد فكانت حركةً دائمة مع دمشق، واستطعنا من خلال العودة لسجلات المحاكم الشرعية من متابعة أدق التفاصيل لنوعية السلع وحجم التجارة في القصبة، وذلك بالعودة إلى حجج حصر الإرث للمتوفين من التجار في إربد، وفيها تفصيل دقيق لنوعية السلع وحجمها، ومنها الأقمشة والملابس والأحذية والمناديل والعُقُل والطرابيش والعباءات وحطاّت الكشمير والفراء والقنابيز والصداري الرجالي والدوامر، ويبدو من تتبع مصدرها أنَّها كانت من الشام ومصر، وديرية وحمصية وكشميرية وقبطية وبيروتية وكردية وبغدادية، وهذا يرتبط بمرحلة حفر قناة السويس عامَ 1869م حيث أصبحت التجارة أسهل وأوفر.
كما وجدنا من ضمن حجج حصر الإرث لدكاكين متوفين من إربد، إشارات لحجم البيع للحبوب من قمح وشعير وكرسنة وذرة، فضًلا عن مواد منزلية وأطعمة مثل: القهوة والسكر والزبيب والرز الرشيدي وجوز وحلاوة وقمر دين، ودبس وراحة وملح وهيل ودخان وعلب سجائر وصابون وقطن وقداحات وخيطان، إنَّ مثل هذه الإشارات المباشرة تعطينا قراءة دقيقة لنوعية الحياة الاقتصادية والاجتماعية في قصبة إربد في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ولا يغيب عن بالنا أنَّ التجارة مع دمشق هي الأساس، وأنَّ سوق إربد هو سوق أهالي القرى المحيطة بها، لكن بتفاوت، فقد كان في الحصن مثلًا سوق ودكاكين يعتمد الأهالي عليها في تلبية حاجاتهم اليومية، في حين لم نعثر على سوق ودكاكين في قرية الصريح مثلًا، لقرب القرية من إربد ومن سوقها.
ونشير أخيرا إلى ما يأتي في وصفنا للحياة الاقتصادية والاجتماعية في قصبة إربد في أواخر العهد العثماني:
أولًا: يعتمد الأهالي على الزراعة ومنتجاتها، وهذا يعني أن عامل المطر يحدّد دخل الأهالي وأوضاعهم.
ثانيًا: ضيّقت الدولة العثمانية على الأهالي في فترة اشتباكها بالحروب مع روسيا ودول البلقان واليمن وأخيرا إيطاليا، قبل أن تنخرط في الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، لذا فقد فرضت الضرائب الباهظة على الأهالي الذين يعتاشون من الزراعة، وأدى هذا لفقدان النقد في أيديهم، لذا فقد لجأوا لتعويض هذا النقص إلى رهن أراضيهم وعقاراتهم، لكنهم لم يبيعوها، وظهر في المجتمع ما عُرف باسم (البيع الوفائي) حيث كان المزارع يرهن أرضه ويسجلها باسم الدائن في دائرة الطابو لحين سداده المبلغ الذي استدانه، لكن هذه الظاهرة تسببت بالعديد من المشاكل للأهالي الذين وقعوا في مشكلة حقيقية أفاد منها التجار الذين كانوا يملكون السيولة ويوظفون أموالهم بحالة من الربا المرتفع.
ثالثًا: تأثرت المنطقة بشكل كبير مع دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م) حيث تم تجنيد الأبناء، فعانت البيوت من وجود نقص في الأيدي العاملة بالزراعة، ومن نقص المواد الغذائية حيث صادرت الدولة حبوب الأهالي ومواشيهم خدمة للحرب، ووصلنا من خلال المذكرات المحلية سوء الوضع في القصبة، خاصة مع قدوم الأرمن الذين جاءوا إلى المنطقة بأعداد كبيرة وهم يعانون من الجوع والمرض سنةَ 1915م، وعند العودة لمذكرات التاجر سعيد جمعة وجدنا أنَّ السوق في إربد تضررت بسبب ضغوط الدولة، حيث كانوا يصادرون الحبوب من مخازن تجار إربد، وكان التجار يختفون ويغلقون دكاكينهم خوفًا من المصادرة، كما تابعنا واقع الحال في مذكرات صالح المصطفى التل الذي تطوّع لتدريب الشباب على القتال للانضمام للجيش، وتحدّث عن دخول مصطفى كمال أتاتورك مع جيشه لإربد، وأنَّه كان يريد إحراق الحبوب في شونة إربد عند الانسحاب، لكنَّ صالح المصطفى أخبره بأنَّ هذه الحبوب صادرتها الدولة من الأهالي، وإنهم بفقدانها سيموتون جوعًا، ويبدو أنَّ المشكلة الكبرى كانت بفرض الدولة للعملة الورقية (البنكنوت) وقيمتها أقل من العملة الذهبية أو الفضية، حيث كانت تعطى بها الرواتب للموظفين، وبسبب تدني قيمتها فشت حالات الرشوة حتى بين القضاة، وهو ما تابعه صالح المصطفى التل في مذكراته.
رابعًا: من الأمور اللافتة للنظر أنَّ أهالي قضاء عجلون طالبوا بمدِّ خط سكة الحديد إلى جرش والحصن، ونشر نجيب فركوح من أهالي إربد في جريدة المقتبس مقالةً طالب فيها بهذا المطلب خدمة للمزارعين وتسهيلًا لنقل الحبوب وتأمين المواصلات، وعاد فركوح فكتب مقالةً ثانية بهذا المعنى، إلا أنَّ أوضاع الدولة وانشغالها بالحروب أضاع هذه الفرصة.
خامسًا: طالب بعض الأهالي بنقل مركز قضاء عجلون من إربد إلى الحصن، وقد أدى هذا الاقتراح سنة 1910م إلى اعتراض تجار إربد، فلم يتم البت فيه، وتناولته الصحافة المعاصرة... لأنَّ في نقل الإدارة من إربد إلى الحصن تكلفة مادية ومعنوية.
إربد بعد العهد العثماني:
مع سقوط الدولة العثمانية عسكريا سنةَ 1918م، أصبحت إربد جزءًا من الحكومة العربية الفيصلية بعد دخول الأمير فيصل بن الحسين إلى دمشق، في تشرين الأول 1918م، وكان لإربدَ موقعٌ خاصٌ في إدارة الحكومة بسبب قرب إربد من دمشق، وأهمية التجارة اليومية معها، ومن متابعتنا للصحافة وخاصة صحيفة " العاصمة " الرسمية، وجدنا اهتمامًا بتطوير الحياة الصحية والتعليمية في عهد هذه الحكومة القصير، فقد تم إنشاء مدرسة للبنات بإربد، وتعيين طبيب للبلدية، وشهدت إربد حالة خاصة في إدارة الحكومة العربية حيث نشطت الحياة الثقافية، ونشأ النادي العربي، وظهرت المسرحيات التي كانت تُمثّل في المدارس، ولكن عهد الحكومة العربية القصير لم يُمكّن الإدارة من تفعيل أفكارها العروبية المتطورة، ولا بدَّ وأن نشير إلى مشاركة أهالي إربد عند زيارة لجنة( كنج – كراين) للوقوف ضد مؤامرة تقسيم سورية، استعدادًا لتطبيق معاهدة (سايكس – بيكو)، وقد نشرت الصحف احتجاجات أهالي قضاء عجلون ومنهم أهالي إربد على تقسيم سورية، كما أنَّ من المحاور المهمة مشاركة عضو ممثل لإربد في المؤتمر السوري بدمشق وتتويج الملك فيصل الأول ملكًا على سورية في 8 آذار عامَ 1920م، وهو عبد الرحمن رشيدات، لكن فرنسا التي كانت تخطط لتطبيق نصوص معاهدة (سايكس – بيكو) أنهت أول دولة عربية في دمشق مع معركة ميسلون في تموز عام 1920م، وغادر الملك فيصل الأول دمشق، وانتهت أول دولة عربية بعد الحكم العثماني الطويل للبلاد العربية.
عرفت إربد تأسيس حكومة محلية بعد انهيار المملكة السورية، وكان لإربد موقع خاص بين الحكومات؛ لأنَّ الذين أداروها لهم موقعهم في الحياة العسكرية والسياسية مع نهايات العهد العثماني، وعلى رأسهم علي خلقي الشرايري، وخلف التل، إلّا أنَّ شح الموارد لم يساعد في تحقيق أفكار أصحاب هذه الحكومة، الذين كانوا ينطلقون من مبدأ وحدة سورية واستقلالها، ومع وصول الأمير عبدالله بن الحسين إلى معان، بدأت بوادر جديدة تؤشر على مرحلة قادمة تنبثق من فكر الثورة العربية الكبرى.
أسهم رجالات من إربد وجوارها بدعم الأمير عبدالله وهو بمعان، ومنهم خلف التل ومحمد علي العجلوني اللذان بدءا في تدريب نواة الجيش العربي في معان، وبقيا مع الأمير في خدمة تأسيس الجيش وتدريبه عندما دخل عمان وأسس الإمارة في نيسان 1921م، وهما من الذين ساهموا في البناء العسكري والإداري في عهد الإمارة المبكر.
حظيت إربد في عهد الإمارة بحكّام إداريين على درجة عالية من الكفاءة، نجحوا في إدارة قضاء عجلون وتأسيس إدارة حريصة على تثبيت مبادئ الثورة العربية الكبرى، ويمكن متابعة دور رئيس مجلس النظار (علي رضا الركابي) الذي زار إربد، وأعاد ترتيب الإدارة، وربط بعض القرى بالمركز، وكان لزيارته لإربد أكبر الأثر في تطوير الحياة الإدارية، وفتح طرق جديدة، والاهتمام بمصادر المياه.
وبعد؛
فإنَّ اختيار إربد لتكون عاصمة للثقافة العربية لم يأت من فراغ بالتأكيد، فهذه القصبة الحضارية التي تتربع على سهل حوران، أقحوانة جميلة تستحق كلَّ الحب، وأنا شخصيًا عشت فيها أجمل أيام حياتي، ما زلت أشم رائحة الياسمين ببيتنا في كرم علي النيازي، وما زالت شجرة الليمون التي غرسها أبي تجتذب النحل لعبيرها وعبقها، وما زالت إربد التي جعلتها محور دراستي لنيل درجة الدكتوراه، في القلب وأقحوانة سهل حوران، دامت إربد بهّية وعروسًا للشمال في وطن الأمن والمحبة.