إسماعيل أبو البندورة
قد يكون من المتعذر الحديث عن الترجمة في محافظة إربد بعيدًا عن المجال الترجمي السائد في الأردن والوطن العربي بشكل عام؛ ذلك أنَّ هناك ترابطًا وثيقًا ومتداخلًا في مجال الإبداعات الثقافيّة المختلفة بين أنحاء البلاد، لدرجة يصبح معها التخصيص والتحديد المناطقي والجهوي لا ينسجم وشمولية الثقافة، ووحدة الأنساق الثقافية السائدة التي تعبر عن الواقع والمعطيات الثقافية، تلك التي تشكّل المشهد الثقافي الجماعي في البلاد.
ولذلك نرى أنَّ وجوب وموجبات الحديث عن واقع الترجمة وإنجازاتها في محافظة إربد مبعثه حالة خاصة واستثنائية يفسرها اختيار مدينة إربد عاصمة للثقافة العربية، وما يتطلبه ذلك من تخصيص وانتقاء وتسليط الأضواء على جوانب ثقافية محددة اختصت بها هذه المحافظة ومبدعيها؛ لتزيد الوعي بإسهام هذه المدينة في حركة الثقافة، بما يعزّز فكرة استحقاق المدينة لتكون عاصمة للثقافة العربية.
وممّا لا شكَّ فيه أنَّ الترجمة أصبحت نسقًا ثقافيًا محوريًا ورئيسًا من أنساق الثقافة العربية والعالمية التي تعقد لها المؤتمرات والملتقيات، وتنهض بها مؤسسات وجامعات تضعها في مكانها الثقافي والمعرفي المؤثر، وتعترف لها بخصوصية تعميق التواصل بين الثقافات والحضارات، وتعمل على الارتقاء بها لتكون في صميم عمليات المثاقفة الجارية بين الشعوب والأمم. إذ أنَّه " لولا الترجمة لكنّا نسكن أقاليم تتاخم الصمت. كما ورد على لسان جورج ستاينر!".
ومع أن الترجمة بدأت تأخذ مكانها وحيزها الثقافي اللافت للانتباه في الآونة الأخيرة على الصعيدين الأردني والعربي، إلا أنَّها لا تزال لم تحقق المستوى المأمول والمطلوب من التجذر والتكوّن والتحقق، والمأسسة كنسق ثقافي واضح المعالم يأخذ مداه الواسع في المثاقفة والاكتمال الترجمي والتكوين الثقافي، مع أن الترجمة بأشكالها وموضوعاتها المتنوعة قد خَطت خطواتٍ مهمّة في هذا المجال، وأصبح لها مكانٌ وحيز في معظم الدوائر الثقافيّة والسياقات الأكاديميّة داخل الجامعات وخارجها، وبدأت معالم إنجازها تظهر للعيان وتحقق مكانتها في المجال الترجمي المحلي والعربي، وحصل العديد من المترجمين الأردنيين على حظوة ومكانة لافتة للانتباه وجوائز تقديرية عالية المستوى، وقدّموا منجزاتٍ ترجمية تُعبّر عن قدرات وفضاءات جديدة للنهوض بالترجمة والانخراط في مجالاتها ومساراتها وإشكالاتها على الصعد كافة.
وإذا أردنا الحديث عن واقع الترجمة في محافظة إربد- وبعيدًا عن الافتخارية - فإنَّ المدينة ومن خلال جامعتها العتيدة ( اليرموك ) احتضنت نخبةً من المترجمين العرب والأردنيين الذين أنجزوا ترجماتٍ مميزةً، وشكَّلت ترجماتُهم حالةً رياديّة بإنجاز الدكتور كمال أبو ديب ( أستاذ الأدب العربي في جامعة اليرموك ) لأول ترجمة لكتاب إدوارد سعيد المهم ( الاستشراق )، تلك الترجمة التي حظيت باهتمام عربيٍّ واسع، وكانت محور نقاشات وسجالات عديدة، وكان هناك الدكتور عبد الواحد لؤلؤة ( أستاذ الأدب الإنجليزي في الجامعة وصاحب الترجمات المهمّة) والدكتور محمد الأرناؤوط ( المتخصّص بتاريخ دول البلقان وآدابها، وصاحب ترجمات كثيرة في هذا المجال)، والدكتور محمد فرغل، والدكتور يوسف بكّار المتخصّص بالأدب الفارسي وترجماته ودراساته المهمّة في هذا المجال، وكذلك الدكتور بسام ربابعة المتخصص أيضًا في الأدب الفارسي، والدكتور خليل الشيخ وترجماته من اللغة الألمانية، وكذلك الدكتور زياد الزعبي وترجماته من اللغة الألمانية أيضًا.
وجاء بعد هؤلاء الدكتور عبد الله الشناق (رئيس جمعية المترجمين الأسبق) والدكتور رامي جرادات وترجما معًا كتاب رئيس جمهورية البوسنة الأسبق علي عزت بيجوفيتش ( سيرةٌ ذاتيّةٌ وأسئلةٌ لا مفرَّ منها ). وهذه مختارات انتقائية مما أُنجز في جامعة اليرموك، وكان له دلالات كبيرة على الصعيد الترجمي الأردني والعربي. وتحظى الترجمة في المرحلة الحالية بالكثير من الاهتمام في العديد من الجامعات الأردنية، ولها مساقاتٌ تدريسيّة خاصة وإنجازات كثيرة في هذا المجال.
أمّا خارج جامعة اليرموك فقد اختصّ كاتبُ هذه الدراسة بالآداب البلقانية ( الصربية والبوسنية تحديدًا) وأنجز في هذا المجال العديدَ من الترجمات من هذه اللغات مباشرةً، حصلت على جوائز محليّة وعربيّة، وجعلت هذه الترجمات- في الآونة الأخيرة- من الأردن البلد العربي الوحيد والمميز تقريبًا الذي يُعنى بترجمة آداب هذه المنطقة من العالم، والتعريف بها في المجال العربي. كما أصبح هناك اهتمام لافت بهذه الترجمات في الجامعات البوسنية وأقسام اللغة العربية فيها تحديدًا، ويُشار إليها بالبنان.
كما اختصَّ المترجم الأستاذ علي عودة بترجمة الآداب الألمانية وأنجز الكثير من الترجمات الأدبية اللافتة. وترجم الدكتور باسم الزعبي الذي تخصّص بترجمة الآداب الروسية العديد من الكتب الفكرية والأدبية التي حصل بعضها على جوائز مهمة.
كلُّ ما أشرت إليه في هذا العرض الموجز لبعض الترجمات وأسماء بعض المترجمين يدللُ على وجود حركة ترجمة ناهضة ورائدة في محافظة إربد، أصبحت تسهم في رفد حركة الترجمة الأردنية والعربية بترجماتٍ مميزة لها خصوصية ثقافية معبرة ومتنوعة، وبلغات مختلفة، أعطت مشهدَ الترجمة إضافاتٍ نوعيةً وألوانًا متنوعة من آداب الشعوب المختلفة.
ونظرا لإعادة تشكيل جمعية المترجمين الأردنيين بمقرها ورئاستها في إربد، ومحاولتها توسيع دائرة الاهتمام بالترجمة، وعقدها نشاطاتٍ مشتركة مع بعض أقسام الترجمة في بعض الجامعات؛ فإنَّ المأمول أن يشكّل نشاطُ الجمعية وتوسيع دائرة عملها توحيدًا لجهود الترجمة والنهوض بها إلى مستوياتٍ جديدة، بالتعاون مع أقسام الترجمة في الجامعات الأردنية ولجنة الترجمة المشكلة حديثًا في رابطة الكتاب الأردنيين، وغيرها من المؤسسات المعنية بالترجمة.
وعليه فإنَّ هناك فضاءات للارتقاء بالترجمة في المحافظة وفي الأردن بشكل عام، بما قد يُفضي إلى مأسسة عملية الترجمة وجعلها من اهتمامات وزارة الثقافة الأولى، وكذلك الجامعات وأقسام اللغات فيها. وفتح المجال أمام القدرات الترجمية لكي توحد جهودها وتتفاعل معرفيًا لإعطاء هذا النسق الثقافي مداه المطلوب، بما يخدم الثقافة في بلدنا وعلى نطاق الوطن العربي.
ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى أنَّ هذا العرض المبتسر لواقع الترجمة في محافظة إربد لم يشمل الوقائع والإنجازات الترجمية كافة، ولا جميع الأسماء التي قدمت إسهامات في هذا المجال، وإنما كانت محاولة لاستعراض أبرز هذه الإسهامات وأهمية تسليط الأضواء عليها دون الانتقاص من أي محاولات أو أسهامات أخرى ظهرت في أوقات قريبة أو بعيدة.
وربما تكون احتفالية إربد عاصمة الثقافة العربية 2022، مناسبة مهمّة وحافزًا قويا للكشف عن جميع الطاقات الثقافية الظاهرة والكامنة في المدن العربية كافة، والتعريف بها وإبرازها للعيان، وفرصة لتبادل هذه الخبرات وتوحيدها وتعميمها في أكثر من مجال ثقافي عربي؛ سعيًا وراء توحيد اهتمامات وانشغالات الثقافة العربية في المرحلة العربية الراهنة في أطر معبرة عن وحدة الأمة ووحدة ثقافتها ومخيالها ووجدانها، وهي مجالات قد يُعوض النجاح فيها الكثيرَ من التراجعات والإخفاقات التي تجري في السياسة، وفي المجالات الأخرى.
وقد يكون من الجائز أن نطلقَ - بمناسبة حديثنا عن الترجمة ومن خلال احتفالية إربد مدينة الثقافة العربية - دعوةً لبناء استراتيجية قوميّة للترجمة، تتعاضد فيها مؤسسات وروابط الترجمة في أنحاء الوطن العربي من أجل توحيد الجهود وتبادل المعارف الترجمية، والانخراط إيجابيا ونوعيًا في حركة الترجمة العالميّة؛ من أجل التواصل الخلّاق معها، وتعميم إسهامات الثقافة العربية في نطاقات أوسع، وبما يتناسب وقدراتها وإبداعاتها وأصالتها.