د. نادية سعد الدين
كاتبة وباحثة في العلوم السياسية/ الأردن
تطلُ مدينة "أم قيس" الأثرية من هضّبة عابقة بنفحات إرثٍ حضاريّ ثقافي تاريخي زخّم ممّهور ببصّمات أمم وأقوام متعاقبة، وموقعٍ خلاب يأسّر ناظريه بطبيعته الساحرة المشرفة على فضاءات هضبة الجولان وبحيرة طبريا والأراضي الفلسطينية المحتلة، وساحةٍ ثريّة "حاضّنة" لوثيقة تاريخية وازّنة، بعمر المائة عام، أسسّت عملياً للدولة الأردنية، مثلما أبرزت بنودها عمق الحسّ الوطنيّ والوعي السياسي المُبّكر والالتفاف الجمعيّ حول القيادة الهاشمية التي تسعى دوماً لوحدة الأمة العربية.
يبزّغ من بين ثنايا معالم "أم قيس"، أو "جدارا" قديمًا، أبعاد سياسية وثقافية وتراثية واعدّة؛ إذ عرفت المدينة العمل السياسي النهضّوي مُبكراً، حينما شهد موقعها الرّحب توقيع اتفاقية تاريخية مهمة صاغها أهل شمال الأردن، بتاريخ 2 أيلول (سبتمبر) 1920م، فشكّلت أولى الوثائق الأردنية بعد انتهاء الحكم الفيصلي في سورية، مثلما اعتُبرت مرجعًا أساسيًا في تاريخ الأردن، من خلال بنودها التي أكّدت استمرار النهضة العربية، وتصميم العرب على مفهوم القيادة والسيادة، وإنشاء دولة عربية مع ثبات خصوصية العلاقة بفلسطين، كما عكّست الرؤية البعيدة لأهل شرق الأردن ووعيّهم السياسي وحسّهم الوطني وتمسكهم بتراب الأرض العربية.
وبذلك؛ فإن وثيقة "أم قيس" قد أسّست للكيان السياسي الأردني الحديث، بوصفها نقطة البداية للتشكيل والتأسيس العملي للدولة الأردنية، حينما وقعها أهالي شمال الأردن، ممثلين لأربع وعشرين شخصية أردنية، مع المعتمد السياسي للحكومة البريطانية، "الميجر سمسرت"، بشأن تشكيل حكومة عربية وطنية مستقلة، حيث تُعتبر بداية التفاف العرب حول القيادة الهاشمية التي سعت بكل جهودها من أجل وحدة الأمة العربية.
بيد أن "أم قيس"، التي وصفها جلالة الملك عبدالله الثاني بأنها "من أجمل المناطق بالأردن والعالم" خلال لقائه، بحضور سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني ولي العهد، عدداً من وجهاء المنطقة بمحافظة إربد في 23 شهر آذار (مارس) الماضي، لم تكن فقط "حاضنة" خصبّة للوثيقة التاريخية النهضويّة المهمة، وإنما شاهداً حياً نابضاً، من بين ثنايا أحجارها وأعمدتها ومدرجاتها ومبانيها الأثرية، بعبق التاريخ وعراقة الماضي وحداثة الحاضر أيضاً.
إذ تتمتع "أم قيس" بموقع استراتيجيّ وازن؛ حيث تقع المدينة، التابعة إدارياً للواء بني كنانة، شمال المملكة، وتبعد 35 كم عن شمال غرب إربد "عروس الشمال"، وعن عمان نحو 118 كم تقريبًا، فيما تتربع فوق تل مرتفع عن سطح البحر حوالي 378 مترًا، وتشرف على بحيرة طبريا وسهل بيسان وهضبة الجولان ونهر اليرموك ونهر الأردن، فضلًا عن المنحدرات العميقة المحيطة بها، مما جعلها قديمًا محط جذب للنشاط السكاني بسبب وفرة مياهها وموقعها المميز، وممرًا للطرق التجارية التي كانت تربط فلسطين وسورية.
ويعود تاريخ "أم قيس"، التي كانت تسمى قديماً "جدارا" بمعنى "المدينة المحصنة"، إلى الفترات الهلنستية مرورًا بالعصور الرومانية والبيزنطية والإسلامية وحتى الفترة العثمانية. وفي زمن الإمبراطورية اليونانية، وهي الحضارة التي امتدت سنوات طويلة بين عامي 334 و95 قبل الميلاد، وقعت تحت حكم "بطليموس" الرابع عام 218 ق. م، فدخلتها الحضارة اليونانية بين عامي 223 و186 ق. م، وكانت أول حضارة بدأت البناء في المدينة وأطلق عليها اسم "أنتيوخيا" و"سيلوسيا"، ثم تم تسميتها "جدارا"، وبقيت "أم قيس" مدينة يونانية حتى عام 63 ق. م، عندما استطاع القائد الروماني "بومباي" اجتياح المنطقة وطرد اليونانيين والاستيلاء على "أم قيس".
قام القائد "بومباي" بضم "جدارا" إلى المدن اليونانية – الرومانية العشر "حلف الديكابوليس"، مدن الحلف الروماني، نظراً لأهمية موقعها الاستراتيجي، فشهدت المدينة حركة ثقافية واسعة وباتت مركزًا للفلسفة والعلوم والآداب، فعُرفت بمدينة الحكماء والفلاسفة، واشتُهرت في ذلك الزمان بالعديد من الشعراء، فمنهم الخطيب "ثيودوريوس" مؤسس البلاغة في العصر الروماني، الذي عاش بين عام 14 ق. م و37 ميلادي، والشاعر البليغ "آرابيوس"، وشاعر الهجاء "مينيوس"، الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثالث قبل الميلاد، والشاعر "ميلاغروس" الذي عاش بين عامي 110 و40 ق. م، وتخرج في جامعة "جدارا" عام 90 ق. م، تلك الجامعة التي درس فيها أبناء الأباطرة والرومان. وقد وصلت المدينة قمة ازدهارها في القرن الثاني بعد الميلاد فانتشرت الشوارع المبلطة والهياكل والمسارح والحمامات فيها، فشبّه الشاعر "ميلاغروس" مدينة "جدارا" بأثينا، للدلالة على الحركة الثقافية الغنية التي بلغتها آنذاك.
شهدت "أم قيس" تزاحماً بين عدة حضارات، منها الحضارات اليونانية والرومانية والبيزنطية، التي دخلتها مع بداية القرن الرابع الميلادي، والفارسية، حينما اجتاح الفرس بلاد الشام ووصلوا إلى "جدارا"، فهبّ الإمبراطور الروماني "ماركوس أوريليوس" (161- 180م) لتجهيز الجيوش لمقاومتهم، غير أنَّ الجيوش الفارسية احتلتها عام 614م، إلى حين دخول الحضارة الإسلامية عام 635م، عندما حرّرتها الجيوش الإسلامية بقيادة القائد الإسلامي "شرحبيل بن حسنة"، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وقد أُطلق على "جدارا" اسم "أم قيس" في العهد العثماني، فيما ورد ذكر هذه المدينة للمرة الأولى سنة 223 قبل الميلاد كمركز عسكري وقلعة للبطالمة في مصر، حيث لعبت دورًا مهمًا أثناء الحروب التي استعرت بين قوات الإسكندر الأكبر للاستيلاء على سوريا.
تزخر مدينة "أم قيس" بالآثار اليونانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية التي تضيف إلى إطلالتها الخلابة وموقعها المتميز المُطل على الفضاءات المجاورة، بعدًا سياحيا وجيهًا يجعلها من أبرز الأماكن السياحية في الأردن، بدءاً من أولى عتبات مدخلها المُزين بعبارة يونانية منقوشة على حجر الشاهد الذي كان منصوبًا فوق قبر الشاعر اليوناني الكبير "آرابيوس" يخاطب فيها الضيوف قائلاً "أيَّها المَارُّ مِن هنا، كما أنت الآن، كنتُ أنا، وكمَا أنا الآن، ستكون أنتَ، فتمتّع بالحياة لأنك فانٍ"، بما يعكس دلالة فلسفية مُعبرّة عن المكانة الثقافية الرائدة التي عرفتها المدينة مُبكراً.
ومن أبرز المعالم الأثرية المهمة لمدينة "أم قيس"؛ المدرج الغربي، أو المسرح الجنوبي كما يسميه البعض، المطل على بحيرة طبريا في فلسطين وهضبة الجولان السورية المحتلة ونهر اليرموك، إذ يُعتبر أهم الأماكن الأثرية في المدينة، كما أنَّه أيضًا من أهم الآثار الرومانية المتبقية في الأردن، يعود تاريخُ بنائه بين القرنين الأول والثاني الميلادي، وقد استُخدم في بناء هذا المسرح الحجر البازلتي الأسود.
وتضّم معالم المدينة الأثرية الحمامات الرومانية البديعة البناء، التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي، وتقع في الجهة الشرقية الكائنة على الطريق الترابية الصغيرة، وتبتعد مسافة قدرها 100 متر عن تقاطع الشوارع المبلطة، وتُعتبر أحدَ الأبنية التقليدية المكونة من غرف تحتوي على المياه الباردة والدافئة والساخنة أيضاً.
وتكتظ المدينة بالقطع والمعالم الأثرية القيّمة، من التماثيل والفسيفساء والعملات المعدنية، التي يرجع تاريخها من الفترة الهلنستية إلى الفترة الإسلامية، والمعروضة في متحف "أم قيس" الكائن وسط الآثار القديمة، الذي يضم أيضًا مقتنيات لها دلالات روحية، كتمثال الآلهة "تايكي" وتمثال الآلهة "زيوس"، وهي من الاكتشافات الأثرية التي تم العثور عليها. يعود تاريخ بناء المتحف إلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، فيما تم استكمال البناء في أواخر العهد العثماني، وتم ترميمه لاحقًا بالتعاون بين المعهد البروتستانتي الألماني ودائرة الآثار الأردنية العامة في عام 1990م. ومن أهم الأثريات والمعالم التي يضمها المتحف؛ القطع الفخارية، ومنها الأسرجة والأقنعة والجرار الصغيرة، كما يعرض بعض التماثيل المصرية المصنوعة من الحجر الكلسي والحجر البازلتي، بالإضافة إلى ما تم اكتشافه داخل مقابر "أم قيس" من جرار فخارية ذات الحجم المتوسط الذي يعود للعصرين البيزنطي والروماني، بما يعكس نتاجات الأقوام والشعوب التي سكنت الموقع عبر الأزمنة والمراحل التاريخية.
كما يضّم الموقع الأثري للمدينة ساحة الكنائس، مثل الكنيسة "البازليكا" بأعمدتها القائمة ذات التيجان الجميلة وأرضيتها المبلطة، والبرك المرصوفة بأرضيات فسيفسائية، وشارع الأعمدة المبلط بالحجارة، وسبيل الحوريات الذي تزيّنه نوافير المياه، وساحة سباق الخيل، والمدفن الملكي ذي التميز الهندسي الرائع بما يضمه من بركة دائرية وأعمدة مزينة بالتيجان البازلتية الذي ما يزال يحاكي قصة الأقوام والشعوب التي عاشت بالمكان، والقرية العثمانية وأنفاق المياه المتدفقة لمسافات طويلة تحت الأرض، ومجمع الحمامات البيزنطي، ومركز الزوار، والسوق الروماني المكون من 15 دكانًا مبنيًا من حجارة بيض على شكل عقود، فيما تعتبر نافورة "نيمغايوم" مشهدًا خلابًا غنيّا بمحاريب وأحواض مزينة بتماثيل رخامية صغيرة، والتي تعد مقصدًا سياحيًا غنيًا.
وأمام المعالم الثقافية والأثرية والتاريخية القيّمة التي تتمتع بها مدينة "أم قيس" على خريطة الأردن السياحية؛ فإنَّ الحاجة تستدعي هنا بذل الجهود للاهتمام بالجانب السياحي في المنطقة والاستفادة من معالمها الأثرية الواعدة، بما يعود بالنفع على المجتمع المحلي ويخفّف من معدلات البطالة والفقر المرتفعة. وقد جاءت أهمية زيارة جلالة الملك الأخيرة لمنطقة "أم قيس" في إطار جهود جلالته لتلمس احتياجات المواطنين ومطالبهم في مواقعهم المختلفة، ولتأكيد حيوية ما تحظى به المنطقة من أهمية بالغة في التاريخ الأردني، وما تتمتع به من إرث تاريخي زاخر بالمواقع السياحية والأثرية ونقطة جذب مهمة للسياحة من داخل المملكة وخارجها، بما يتطلب، وفق ما أكده جلالة الملك، وضع مخطط شمولي للاستفادة من المزايا التي تتمتع بها منطقة "أم قيس" سياحيًا وزراعيًا، والاستعانة بخبراء محليين لإنجاحه بالتنسيق مع المناطق المحيطة، مع ضرورة مواصلة معالجة آثار جائحة "كورونا" على القطاع السياحي، والنهوض بالخدمات العامة، بما ينعكس إيجابًا على المنطقة وأهلها.
وبغية الاستفادة من التنوع السياحي الذي تنفرد به المنطقة لأجل تنشيط الحركة السياحية فيها؛ فإنَّ ذلك يتطلب- وفق مطالب أهالي المنطقة- إعادة تأهيل الطرق التي تؤدي إلى المنطقة، وإنشاء ودعم المشاريع التي تسهم في توفير فرص العمل، وتحسين البنية التحتية في المنطقة، ودعم برامج الجمعيات الخيرية والعمل التطوعي، وإنشاء فندق ومنتجع سياحي للإسهام بمكوث السائح مدة أطول، وإعادة فتح النفق المائي في البلدة، وإقامة مشاريع سياحية جاذبة، والاستفادة من ميزات المنطقة الزراعية للإسهام في تحقيق الأمن الغذائي للمملكة، وزيادة دعم الشباب وتمكينهم وتأهيلهم وتدريبهم في القطاع السياحي، مما يساعد على إيجاد فرص عمل لأبناء المنطقة.