د.رحمة الله أوريسي باحثة وناقدة جزائرية
تسعى الدراسة إلى البحث في التشاكلات الصوتية والدلالية في القصيدة العربية المعاصرة بصفة عامة وقصيدة "شيخ الطريقة" للشاعر الأردني "لؤي أحمد" باعتبارهما عنصرين يسهمان في بناء نظام القصيدة ومنحها بعدًا جماليًا، ومن ثمة جاءت الإشكالية كالآتي:
فيما تتمثّل جماليات هذا النص الشعري؟؟ وكيف يمكن أن نكشف عن جملة التشاكلات النصية البانية للإيقاع في هذه القصيدة العربية المعاصرة؟ كيف يُسهم المنهج السيميائيّ في الكشف عن مكامن الجمالية في هذا النص الشعري؟؟ كيف نبني الدلالة في قصيدة "شيخ الطريقة "للشاعر الأردني" لؤي أحمد"؟، إلى غيرها من الأسئلة التي تتناسل من بعضها البعض. وللإجابة عن كل ذلك سنستعين بالمنهج السيميائي الذي سيساعدنا في الكشف عن جملة التشاكلات الصوتية والدلالية والوصول إلى الدلالات التي يحيل عليها النص الشعري.
المداخلة:
يقول رولان بارت: (يبدأ النص غير الثــــــــابت النص المستحيل مع الكاتب "أي مع قــارئه") رولان بارت "لذة النص".
تمهيد:
يُقال إنَّ اللذة أمرٌ لا يصدق فهي؛ أمر غير معقول، بل أمر غير قابل للعقلنة. ولكن يبقي عليّ أن أقول: إنّي أعشق اللغة، فإذا أعلنت عشقي للمحبوب أعلنت عشقي للمكتوب([2])، هكذا تحدث "رولان بارت" عن اللذة، وهكذا يُقحمنا الشاعر الأردني "لؤي أحمد" في علاقة وصال، ويستدرجنا من خلال قصيدته "شيخ الطريقة" تاركًا لذةً مختلفة عالقة في ذهن كل متلقٍ لهذه القصيدة؛ وأوّل انطباع يرتسم في أذهاننا عندما نكمل القراءة الاستكشافية هو تلك النغمة الصوتية المتشاكلة التي شكّلت ظاهرة بارزة ونظامًا بانيًا للقصيدة، سواء أكانت على مستوى الإيقاع/ المستوى الصوتي، أم على المستوى الدلالي، وبين الشكل والدلالة تتمظهر اللذة المنبثقة من جماليات هذا النص الشعري. وقبل الإجابة عن الإشكالات السابقة سنحاول الإلمام ببعض المصطلحات المتعلقة بموضوع الدراسة. وسنبدأ بــــــ:
1- التشاكل Isotopie:
يمثِّلُ التشاكلُ أحدَ أهم العناصر التي تسهم بشكل كبير في انسجام واتساق النص الأدبي بعامة والشعري بخاصة؛ فهو من أهم المفاهيم الإجرائية في تحليل الخطاب؛ حيث خضع إلى تطوير وتوسيع على مستوى المفهوم والإجراء حتى صُقل على هيئة نظرية لتحليل النص من جميع جوانبه، متجاوزًا في ذلك البنية المعجمية السطحية إلى تتبع سلسلة الإحالات المنفكة من عقال المعنى على مستوى البنية العميقة([3])، ولعلَّ وصوله إلى هذه النتيجة التي جعلت منه نظرية في التحليل انبنت وفقًا للكثير من الاختلافات التي اتّخذها المصطلح عند الغرب والعرب، الأمر الذي أدى إلى تفرعه لأنواع منها ما ارتبط باللفظ والصوت، ومنها ما ارتبط بالدلالة.. وغيرها. وسنحاول في هذا المقام إعطاء نبذة عن التشاكل وأنواعه دون التعمق في تاريخ نشأته، والاختلافات الحاصلة في مفهومه، والجدل الحاصل بين النقاد، كما أننا سنحاول التركيز في تحليلنا على الجانب: الصوتي والدلالي.
يمكن القول بداية بأنَّ كل "نص أدبي يقوم على التشاكل أكثر من التباين" ([4])؛ أي أنّ التشاكل هو العنصر الغالب، أمّا التباين أو الاختلاف فهو عنصر فاعل يسهم بشكل كبير في تأسيس الدلالة ([5]، لكنّه حاضر في النص الأدبي بصورة أقل مقارنة بنظيره/التشاكل.
وبالبحث في طبيعة هذا المصطلح سنجده يضرب بجذوره في عمق الدرس السيميائي([6])؛ وقد اتفق على هذا الرأي ثلة من النقاد العرب الذين ارتكزوا في رأيهم على بدايات ظهور مصطلح التشاكل عند الغرب؛ الذي ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالسيميائي الفرنسي"جوليان غريماس (J.Greimas الذي استعار المصطلح من مجال الفيزياء، ونقله إلى مجال الدراسات اللغوية والنقدية([7]) ليخص به المضمون قائلًا: «بأنه مجموعة متراكمة من المقولات المعنوية" أي المقومات التي تجعل قراءة متشابكة للحكاية، كما نتجت عن قراءات جزئية للأقوال بعد حلِّ إبهامها، هذا الحلُّ نفسه موجه بالبحث عن القراءة المنسجمة»([8]) ولعلَّ هذا المفهوم ارتبط أكثر بالتشاكل الدلالي الذي يسهم بشكل كبير في انسجام النص الأدبي الذي اعتبره "محمد مفتاح" من أهم عناصر التماسك النصي لارتباطه بالنموذج التماسكي النسقي الموسع الذي أخذه من"ديجين سون شا"([9]). ولو تأملنا قليلًا هذا المفهوم لوجدنا بأنه يختلف عمّا ورد في نظريات تأويل الاستعارة التي سُمّيت بمســـــميات عديدة لعل أبرزها التشاكل. ([10]) وانطلاقا من هذا التصور يمكن اعتبار التشاكل الوجه الآخر للاستعارة؛ أو الركن الأساسي الذي تفرضه اللغة في أي زمان ومكان؛ لأنَّها تحيا وتتطور بحياة الشعوب وتطورها، وتحقق أدبية الأدب بإقامة الألفة بين ما كان مختلفا والجمع بين المتباعدين والتأليف بين الأضداد، والسماح بقيام ضروب البلاغة المتنوعة لتوازي اللغة؛ وذلك بإدخال لغة بإزاء لغة قصد الجمع بين المتناقضات ([11])؛ من هنا يمكن اعتبار التشاكل من أهم الإجراءات التي استُخدمت في تحليل النص الأدبي الذي يجمع بين المتناقضات التي تفرض التركيز على الجانب الإيحائي([12])، والذي يعتبر من أهم الجوانب التي تركز عليها السيميائيات.
وبالبحث في المفاهيم اللغوية الخاصة بالمصطلح نجده ورد في معجم لسان العرب لابن منظور بأنه مأخوذ من مادة {ش-ك-ل} «وقد تشاكل الشيئان، وشاكل كلُّ واحد منهما صاحبة. كقولنا: في فلان شبه من أبيه وشكل وأشكلة وشكلة وشاكل ومشاكلة{...} والمشاكلة الموافقة والتشاكل مثله»([13])ولعلنا نفهم بأنَّ المصطلح يتخذ دلالة التماثل والتشابه، وهذا ما التمسناه في الكثير من المعاجم اللغوية الأخرى كالقاموس المحيط([14])، وتاج العروس([15])، وغيرها من المعاجم التي لا تبتعد عن دلالة التماثل والتشابه. ولعلَّ هذا ما أكّده محمد القاضي وآخرون في"معجم السرديات" الذي يقول فيه بأن «الملفوظ المتشاكل هو ذاك الذي يحمل تكرارًا يوفر انسجام معناه»([16])؛ وقد ينبني هذا الانسجام على تباين الملفوظات أيضًا كما هو حاصل في دراسة النصوص السردية التي ينبني فيها التشاكل على محاور التواتر التي تخترق النص من قبيل العديد من التشاكلات كالتشاكل السياسي" السلطة: القهر، والتشاكل الاجتماعي"الأسرة/الأنوثة" والتشاكل الاقتصادي"التجارة/الثروة" ويمكن أن تنشأ بين التشاكلات الماثلة في النص علاقات تنشأ عنها "حزم" تتحرك فيه فتتعاقب وتتقاطع وتهبه بذلك خصوصيته وطاقته الدلالية([17]).
لو تأملنا جيدا التصور الأخير المبثوث في معجم السرديات سنجد بأن فيه إحالة على طبيعة التشاكل ودلالته التي تتضمن الحقل المعجمي، أو الجذر المشترك الذي تشترك فيه المفردات/ الكلمات مع دلالة واحدة. وحتى لا نضيع في متاهة المصطلح وإشكالات دلالته عند العرب والغرب يمكن القول إنَّ التشاكل أهم إجراء نقدي بوسعه الإحاطة أو الاقتراب من هذه التعالقات الغامضة، لما يمتلكه من قدرة على تجميع الرموز المبثوثة على امتداد النص المتوارية وإعادة تفكيكها([18])، ولو بحثنا عن جملة التعالقات أو التماثلات، أو التقابلات في النص الشعري الذي بين أيدينا "شيخ الطريقة" لوجدنا بأن هناك تعالقات صوتية، وأخرى دلالية. وعليه قبل البدء في معرفة دلالة هذه الأنواع؛ وأعني التشاكل الصوتي، والدلالي، واستخراجها من قصيدة "شيخ الطريقة" للشاعر الأردني "لؤي أحمد" سنقف عند العنوان، ونحاول معرفة التشاكلات المتمظهرة على مستوى هذه العتبة، وعلاقتها بدلالة القصيدة.
1- سيميائية العنوان:
وسم الشاعر قصيدته بـــ "شيخ الطريقة" وأصل العبارة مبتدأ لخبر محذوف تقديره "هذا"؛ شيخ مبتدأ، وهو مضاف والطريقة مضاف إليه. وإذا نظرنا إلى العنوان من حيث نحو النص فإن العنوان برمّته مبتدأ خبره في المتن ولكن السؤال المطروح: لماذا صاغ الشاعر عنوانه بهذه الشكل؟ ومن هو هذا الشيخ؟ هل هو الشاعر نفسه؟ أم هناك شيخ آخر يصدّر الشاعر لنا طريقته في هذا النص الشعري؟ لعلنا سنتعرف عليه داخل هذا المتن الشعري؛ فلو انطلقنا من طبيعة العنوان: هذا شيخ الطريقة، فبطبيعة الحال ستكون الإجابة في القصيدة؛ لأنَّ اسم الإشارة هذا للتقريب، وكأنَّ الشاعر من خلال هذا الاسم "هذا" يخبرنا ضمنيًا بأنّه هو "شيخ الطريقة"، بل ربما وضع هذا العنوان حتى يكون ذا دلالات متنافرة تؤسس لسؤال إشكالي، يكون النصُّ بأكمله محاولة للإجابة عنه ([19])ولعلَّ هذا ما يُسمى بمفارقة العنوان.
ولو توقفنا عند جملة "شيخ الطريقة"وحاولنا البحث في دلالتها، فسنجد بأنَّها تضرب في عمق الفلسفة الصوفية؛ فالشيخ في المدرسة الصوفية هو المرشد الذي يلقي إليه المريد نفسه، ويمنحه القيادة التي تكون بشروط: علم صحيح، وهمة عالية، وحالة مُرضية، وبصيرة نافذة، ولا يمكن أن يكون الشيخ شيخًا إن وجد ناقصًا عن تلك الشروط الخمسة([20])ـ ولو تأملنا القصيدة لوجدنا بأن لفظة شيخ تكررت على مستوى النص ثلاث مرات؛ فكانت في العنوان وفي آخر النص؛ أما المرة الثالثة فجاءت بالجمع؛ في قوله أشياخ شعري، أمَّا لفظة الطريقة فقد تكررت على مستوى النص أربع مرات؛ فكانت في عتبة العنوان وفي آخر النص، لتأتي مفردات مشتقة منها كمفردة الطريق في قوله: "أشياخ شعري في الطريق" ومفردة طريقه في البيت الرابع عشر في قوله "ضلّ حاصرنا طريقه". وهنا الشاعر حاول أن يشتق من المفردة نفسها كلماتٍ من الجذر اللغوي نفسه "طرق" والتي تشاكلت مع باقي الكلمات والجمل لتؤسس الدلالة التي يرغب الشاعر في إيصالها؛ فالطريق هنا يحمل بين طياته دلالة رمزية تتمثل في المسلك أو المسار الذي يتبعه كلُّ شخص يريد أن يصل إلى غايته أو هدفه؛ والشاعر هنا استحضر جملة "شيخ الطريقة" ليوضح طريقته ومساره في الكتابة الشعرية؛ لأنَّه هنا يوازي المتصوفة في مسالكم وطرائقهم، فشيخ الطريقة يحمل دلالة صوفية؛ والطريقة هي مسلك من مسالك المتصوفة؛ فيكون الشاعر قد لبس بردة المتصوف ليتوازى معه بحثًا عن طريقة جديدة في قول الشعر؛ وبذلك يكون الشيخ نفسه، وقد برهن على ذلك من خلال استحضاره لمقومات الكتابة الشعرية في أول بيت شعري افتتح به قصيدته، ويظهر ذلك في قوله:"بـحرٌ وإيقاع وقافية أنيقة هي فتنة المهجور من لغتي العتيقة" ويظهر ضمير المتكلم/الشاعر في قوله: "لغتي العتيقة" التي قد تعبر عن طريقة الشاعر في الكتابة الشعرية، لأنَّه منذ البداية حدّد مسار قصيدته في الإيقاع والبحور الشعرية والقافية التي باتت مهجورة في الزمن الراهن؛ لأن القصيدة العتيقة (القديمة )هي القصيدة الخليلية التي حلت محلها قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر والهايكو، ولذلك فهو يدعو إلى العودة إلى القصيدة العتيقة في ثوب المعاصرة ويركز على هجران الشعراء المعاصرين للبحور الشعرية والقافية التي تشكل إيقاع القصيدة/هي فتنة المهجور، لذلك جعل قصيدته متكاملة، وكأنَّ كل عضو فيها مكمل للعضو الآخر/لهذا الجسد؛ الذي يمثله الشكل والمتن: لغتي العتيقة ="اللغة الشعرية القديمة بكل تراكيبها الصوتية والصرفية والدلالية". كما جعلها مدورة أيضا تبدأ لتنتهي عند نقطة البداية من خلال عودته إلى عتبة العنوان باستحضاره لجملة "شيخ الطريقة " في آخر بيت من قصيدته، وكأنَّ كل بداية تظل بداية؛ في "وصال جسدي" ([21]) على حد قول رولان بارت. وهنا يمكن أن نفهم بأنَّ التكرار غرضه عند الشاعر التأكيد على رؤيته الشعرية التي تبدأ لتنتهي عند نقطة البداية. وهذا يدل على أنه يؤمن بالتجدد والاستمرارية التي تجعله لا يكرّر نفسه، ولا يؤمن بالنهاية التي تجعله لا ينتج الجديد.
ومن ثمة يمكن أن نخلص إلى أن جملة "شيخ الطريقة" التي تكررت مرتين على مستوى الشكل الخارجي، أسّست لنا إيقاعًا خارجيًا بدأ وانتهى بالوتيرة الصوتية نفسها التي تمظهرت في عتبة العنوان.
2- التشاكل الصوتي:
ولو تأملنا جيّدا هذا النوع؛ من التشاكل الصوتي سنجده مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بعناصر انسجام النص واتساقه، فهو إركام لعناصر صوتية تشيّد أنساج النص واتساقه، ولعلَّ هذه العناصر أو التناسقات الصوتية تبدأ من أصغر وحدة صوتية إلى أقصى وحدة تدخل في التشكيل اللغوي للنص ونعني بها–العناصر-التشاكل الذي تحققه الحروف"الصوامت والصوائت"([22])؛ وينقسم هذا النوع إلى قسمين: قسم يرتبط بالإيقاع الخارجي للنص الشعري:"كالوزن والقافية، وحرف الروي، والحروف المهموسة والمهجورة والانفجارية..إلخ"، وقسم آخر يرتبط بالإيقاع الداخلي والذي يرتكز على التكرار كعنصر أساسي، إضافة إلى كل العناصر التي من خلالها يتمظهر الصوت الداخلي للقصيدة:"كالجناس،الترديد،الترصيع، المشاكلة"وغيرها، ويضاف التشاكل الجملي"التوازي "([23]) أيضا لهذا القسم المتعلق بالإيقاع الداخلي. وهنا يمكن القول إنَّ كل هذه العناصر الصوتية تصب في مصلحة المعنى الذي يرغب الشاعر في إيصاله إلى المتلقي؛ فاستخدام أصوات بعينها وحرف الروي، والقافية، فهي حين تجتمع مع بعضها البعض تؤسس لدلالة مقصودة.
وعليه يمكن أن نخلص إلى نقطة مهمة متعلقة بالتشاكل الصوتي بشقيه الداخلي والخارجي؛ وهي أنَّه يقوم على التكرار الذي يعتبر مركز التشاكل والتراكم الكمي للأنماط التعبيرية من شعرية وجمالية، باعتباره الوسيلة الوحيدة التي لا خلاف حولها لاكتشاف واقعة لغوية، وتحديدها يؤكد المعنى ويثبته([24؛ وانطلاقًا من هذه الرؤية يصبح الصوتُ رمزًا أو شفرة لا تتأكد دلالته إلاّ داخل الخطاب الشعري بجميع بنياته؛ حيث تتحول العلاقة بين الصوت والمعنى من علاقة خفية إلى علاقة جدلية أكثر قوّة داخل النص، لذا فإيقاع الحروف يعمل على شدّ الصلة الجدلية بين بنية الإيقاع الخارجي والداخلي ([25]) ليتم إنتاج المعنى داخل القصيدة كبنية متكاملة. وسنحاول في هذا السياق البحث عن الإيقاعات الخارجية والداخلية الخاصة بقصيدة "شيخ الطريقة" وسنبدأ بــــــ:
أ- الإيقاع الخارجي:
إنَّ المتأمل لهذه النص الشعري سيجد بأنَّ الصوت المتكرر فيه هو "حرف القاف" الذي جعله الشاعر حرف روي لقصيدته؛ ولا نبالغ حين نقول بأنه أجاد في رسم إيقاع القصيدة، الداخلي والخارجي؛ فحرف "القاف"الذي اختاره الشاعر كروي لقصيدته له وقعه وأبعاده النفسية سواء على المستوى الصوتي أم الدلالي؛ ولعلَّ حضوره خلق لحنًا فنيًا متناسقًا شدّ المتلقي من خلاله، وكلّ ذلك بسبب النغم الشعري الذي توّلد من وراء القافية وحرف الروي"؛ بدءا من العنوان حتى نهاية النص الشعري، وهذا يدلُّ على أنَّ الشاعر يمتلك أذنًا موسيقية حاول من خلالها أن يزيد القيمة الإيقاعية لعباراته ليشدَّ من وقع الكلمة في النفس الإنسانية؛ فقوله:
بـحرٌ وإيــــــقــاعٌ وقـــــافِـــيــــــةٌ أَنــــــيـــقَـةْ هيَ فـــتــنـــةُ الـمهــجـورِ مــن لغـــتـي العَـــتيــــقــةْ
بــيضاءُ في عينـي القَصيدةُ إنْ تَــكُنْ فــيـــها الــــنَّــــوافِـــذُ لا تُــطلُّ على حَديـــقَـــةْ
الشِّعرُ: أنْ يَطوي الـمَكانَ مـعَ الــــــزَّمـــانِ فَـــمٌ سَيخْــتــــزلُ العَــــوالــمَ في دَقــــيـقَــةْ
الشِّعرُ: أنْ تَــهَبَ الـمُـــؤَوِّلَ معنـــيــــيـنِ تـــنـــامُ بـــيـــنــهما الكـــنايـــــةُ مُـــســتَـــفـــيــقَـــــــةْ
فكل من:العتيقة/حديقة/دقيقة/ مستفيقة/عميقة/ غريقة/ريقه/سحيقة/صديقة/خليقة/رحيقه/بريقه/طريقة /منجنيقة/عريقة/حقيقة/سليقة/رقيقة هي ألفاظ ذات وقع موسيقي تحمل بين طياتها دلالة القوة؛ فالقاف حرف استعلاء، والشاعر في هذا المقام معتد بأناه، بل ربما اختار حرف القاف لأنه في موضع التحدى، ذلك أنَّ جُلَّ العلامات الصوتية المتمظهرة فونولوجيا على مستوى النص تحيلنا على أنَّ الشاعر يرغب في أن يبرهن على قوة شعره، ليبرز فرادته الشعرية؛ وما العنوان إلاّ أكبر دليل وبرهان على ذلك؛ فالشاعر استعار من الصوفية مفردة الشيخ؛ والشيخ هو المؤسس الأول للطريق، وهو الشخص المصرح له بتعليم المريدين وإرشادهم، والدراويش المستنشقين بالعقيدة الإسلامية، وذلك بعد توثيق الرابطة معه، والشيخ عادة ما يطير بنفسه إلى طريق التصوف، وينظر إليه على أنه سيد الروحية؛ فهو يشكل الولاء الرسمي لتلاميذه،([26]) وهنا أراد الشاعر أن يعرّف الشعراء والنقاد بأنه غير متكلف؛ ولا مقلّد؛ بل يقول الشعر على السليقة، فحاول التماهي مع شيخ الصوفية ليرتقي بمكانته، ويحيل الآخر/ جملة الشعراء/النقاد على أنه يمتلك رؤية شعرية متفردة سامية خاصة به. ولعلَّ هذا ما جعله متمظهرًا في الجانب الصوتي الذي ينم عن وعيه التام باستحضاره لحرف انفجاري كحرف القاف والذي جعله يتشاكل مع الحالة الشعورية التي سيطرت عليه، ومن ثمة استطاع أن يطوع الوزن والقافية والحروف لخدمته، فربطهم بسياق يمنحهم قيمة دلالية غير التي وجدوا عليها أول مرة([27])؛ فاختار وزنًا، وقافية، وحرف روي يلق بالحالة التي تسكنه، والمقصدية التي يرغب في إيصالها.
ب- الإيقاع الداخلي:
لكلِّ نص شعري إيقاعه الخارجي والداخلي؛ فالخارجي يعمل على تأطير النص ورسم موسيقاه وشكله من الخارج لجذب ولفت انتباه المتلقي، أما الداخلي فيعمل على تأثيث النص، وتأكيد دلالته. وبالبحث في طبيعة الإيقاع الداخلي سنجد بأنه لا يتشكل إلاّ من خلال جملة من العناصر المتمثلة في: الجناس، والطباق، والتصريع، والترادف..وغيرهاـ وقد لمحنا بعضًا من هذه العناصر في هذا النص الشعري متمظهرة تراتبيًا وبكثرة في الترادف، والتوالد، ليليها بعد ذلك الطباق ثم الجناس. ولو حاولنا تعداد المترادفات المتوالدة من بعضها البعض، والمتضادات في هذا النص الشعري لوجدناها بكثرة نذكر منها: يختزل=يطوي، العيون= ترى، عيون=ترى،عميقة=موحية الزمان=دقيقة وغيرها، وهناك مترادفات ارتبطت بثقافتنا العربية؛ فالليل مثلا ارتبط بالعشاق، والبحر ارتبط بالشيخ، والشعر بالاختزال والحذف، والنار بالحرب، والحب بالحضن، والموت بالحقيقة، .. وغيرها من المترادفات، التي استحضرها الشاعر في هذا النص الشعري ليخلق نوعًا من المفارقات الشعرية مانحًا قصيدته بعدًا وعمقًا فلسفيًا من خلال توليده اللامتناهي للدلالات بتوظيف هذا العنصر. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحدِّ بل عمد الشاعر إلى جعل أبياته الشعرية منسجمة بالتوالد؛ فلا ينتهي بيت شعري إلاّ تكون آخر فكرة فيه هي بداية البيت الآخر بطريقة مدورة، كقوله مثلا:
ما الليلُ؟: عاشــــقُ نــــــجــــمـــةٍ صيفيةٍ في البــــئــــرِ تَـــغسلُ وَجـــهَــهَا لتَبلَّ رِيـــــقَــهْ
ما البئرُ؟: خازنةُ الحَصى، عبثُ الطفولةِ بالصَّدى في جَرَّةِ الريحِ السَّحيقَة
ما الريــحُ؟: ســـيَّــدةٌ تُــطــيِّــــرُ شَـــالَـــــهـا كي يَـــسقُطَ الصيَّـادُ بالــنَّـــارِ الصَديـــقَــةْ
ما النَّارُ؟: حَربُ الإخوةِ الأعداءِ قبلَ الأرضِ بعدَ الحبِّ مِنْ بَدءِ الخَليــقَـةْ
وعلى هذه الشاكلة ينسج الشاعر أبياته لينزاح من خلالها عن المألوف وعن الكتابة الشعرية المتعارف عليها، كما عمد إلى استخدام أحد أنواع المفارقة التي عُرفت في التراث العربي بمسى "تجاهل العارف" وهو ظاهرة يعمد إليها المتكلم من خلال طرح تساؤلات عما يعلمه حقيقة تجاهلا منه لنكتة وغاية يريدها أو هي سوق المعلوم مساق المجهول لنكتة تقصد لدى البلغاء، وله أغراض يخرج إليها كالتوبيخ، أو المبالغة في الذم، أو التعجب ([29])وقد سعى الشاعر من خلال اعتماده على هذا النوع إلى استمالة المتلقي لتأمل بعض المفاهيم، ومعرفة حقيقتها وعمقها والنظر فيها مرة أخرى من زاوية مختلفة غير التي تعود على رؤيتها منها، فكان يسأل ويجيب متجاهلًا العارف عمدا فيقول: ما البحر؟ ما الليل؟ ما البئر؟ ما الريح؟ ما النار؟ ما الحب؟ ما الورد؟ ما الذكريات؟ ما الأمس؟ ما الشرق؟ ما الموت؟ وهذا قد يدلُّ على أنَّ الشاعر يضع المتلقي موضع السخرية من جهة، ويتعجب من جهة أخرى بتساؤله، ويُضمن قصيدته أغراضًا أخرى حاول من خلالها أن يؤسّس لعالمه الشعري من جهة ثالثة.
3- التشاكل الدلالي:
لقد ارتبط التشاكل الدلالي بجملة الاستعارات، والتشبيهات، والتناصات، والحقول المعجمية والعديد من العناصر التي تحقق دلالة النص الأدبي وتساهم في انسجامه. وقد بنى الشاعر الأردني"لؤي أحمد" قصيدته "شيخ الطريقة "على جملة من الاستعارات التي اتخذ منها واجهة لإبراز قصيدته في ثوب شعري جمالي يليق به، كما أجاد في رسم تشبيهاته، واستعاراته، والنصوص التي غرف منها ووظفها في هذا النص الشعري كاستحضارها للفلسفة الصوفية مثلًا، ولمحمود درويش ثانيًا، وللنص الديني ثالثًا.. وغيرها. ويمكن القول بأنَّ الشاعر حاول أن يضع المتلقي أمامَ لغزٍ شعريٍّ فلسفي عميق، استطاع من خلاله أن يوزع مفاتيحه جيّدا داخل هذا النصّ الشعري، وكأنّه يتحدى المتلقي/القارئ/الشاعر/الناقد في كشفه، فبدأ بالكل/شيخ الطريقة ثم انتقل إلى الجزء/القصيدة التي احتوت على تساؤلاتٍ فلسفية عميقة تشبه في ذلك التساؤلات الوجودية التي يسألها الصوفي لنفسه قبل أن يرتقي لمرتبة الشيخ: ما الموت؟ ما الأمس؟ ما الشرق؟ ما البحر؟ ما الحب؟...إلخ؛ فلو تأملنا في عمق هذه الأسئلة لوجدنا بأنَّها أسئلة كونية بل هي سرُّ الحياة، وسرُّ الوجود في هذا الكون؛ فالشاعر لم يتوقف عند هذا القدر فحسب بل قام بتجزئة دلالات النص، فتكلم بصيغة ضمنية عن الشعر، معرفًا إيّاه التعريف المعروف المتواتر في المعاجم اللغوية، وعند القدماء في تعريفهم للشعر بأنَّه كلام موزون مقفّى، ويتضح ذلك في قول الشاعر:
بـحرٌ وإيــــــقــاعٌ وقـــــافِـــيــــــةٌ أَنــــــيـــقَـةْ هيَ فـــتــنـــةُ الـمهــجـورِ مــن لغـــتـي العَـــتيــــقــةْ
فأي متلق لهذا البيت الشعري سيفهم بأنَّ الشاعر يختزل مفهوم الشعر، أو التصور العام الذي عرّفه قدامة بن جعفر وغيره "كلام أو قول موزون مقفّى يدلُّ على معنى"، وهنا قد نفهم بأنَّ الشاعر بدأ بالعام ثم خصّص كلامه مُستحضرا القدماء في قوله "لغتي العتيقة" اللغة التي هجرها المحدثون، ليأتي بعدها ويعرض تصوّره الخاص للشعر، ورؤيته الشعرية التي ربطها بكونه الشعري في الأبيات الأخرى، فتبرز الأنا، ونبرة الاستعلاء التي نفهم من خلالها بأنّه في حالة تحدى للمتلقي/القارئ/ الناقد/ والشاعر أيضًا، فيقول:
الشِّعرُ: أنْ يَطوي الـمَكانَ مـعَ الــــــزَّمـــانِ فَـــمٌ سَيخْــتــــزلُ العَــــوالــمَ في دَقــــيـقَــةْ
الشِّعرُ: أنْ تَــهَبَ الـمُـــؤَوِّلَ معنـــيــــيـنِ تـــنـــامُ بـــيـــنــهما الكـــنايـــــةُ مُـــســتَـــفـــيــقَـــــــةْ
فتكراره للفظة الشعر في هذا المقام تحيلنا مباشرة على رؤية الشاعر الشعرية التي أكّدها من خلال توظيفه لأربعة عناصر أخرى مُستحضرًا من خلالها عناصر الحياة في الأبيات الموالية ليحيلنا على كونه الشعري؛ فاستحضر {الماء/التراب/الهواء/ النار} ليؤكّد على فكرته. وعليه تكراره للفظة الشعر لم يكن اعتباطيا بل كان مقصودًا؛ وكأنّه يريد أن يخبرنا بأنَّ الدلالات الأربع تحيلنا على أن الشعر هو الحياة، كما أنّ اختزاله لدلالة لشعر في هذه الأبيات في أربع دلالات، أو أربعة وجوه، أو عناصر يمكن ربطها مع ما افتتح به القصيدة في قوله: بحر، وإيقاع، وقافية، ودلالة/لغتي العتيقة. وهنا نستنتج بأنَّ الرقم أربعة يتكرر عن قصد ووعي. ليكمل الشاعر بعدها قصيدته عاملًا على اجتزاء دلالة الشعر في أربع مفردات تمثلت في: الاختزال في الحضور الأول، والإيحاء في الحضور الثاني، والعمق والقيمة الفلسفية التي تسكنه في الحضور الثالث، أما الحضور الرابع فقد اختصره الشاعر في حقيقة الصياغة الشعرية.
وعليه يمكن أن نخلص إلى أن التشاكل فتح لنا نوافذً كثيرة في هذا النص الشعري الذي ركّز فيه الشاعر على التكرارات التي تُعد أساس التشاكل سواء منه اللفظي أم الصوتي أم الدلالي. وقد جعله الشاعر مادة دسمة صنع من خلالها نصًّا شعريا فارقًا موظفًا من خلاله جملة من التعالقات النصية سواء أكانت مع النص الديني؛ أم مع النص الشعري.