*سلام أمين رحال
* باحثة وكاتبة أردنية.
المقدمة
يُعدُّ الرّق من أبرز القضايا التي نشأت قديمًا تحتَ أسبابٍ سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة، تتناول فئةً معينة من المجتمع استُضعِفت في الأرض، وهو أحد تركات الاستعمار الذي ظهر لدى المُستعمَرات كخدمة إلزاميّةٍ يقدمها العبدُ بشكل قسريّ لسيدِه، تَطمَحُ إلى إذلال هذه الفئة من الناس وتحوّل حياتهم إلى عمل بلا أجر، وقد ظهرت صور متعددة للعبودية تسلب من الإنسان حريته، بل قد تحوّل الأمرَ إلى معاملة العبيد كالبضائع والسّلع من أجل المتاجرةِ بهم واستغلالهم، ليصبح العبدُ فيما بعد ملكًا لسيّده.
إنَّ فرضَ الهيمنةِ الَّتي مارستها الدول الإمبرياليّة تجاه الدول المستضعفة أدى إلى استغلالها واستعبادها؛ لذلك ظهر نقد (ما بعد الاستعمار) الذي يقوم على دراسة آداب المُستَعمَرات، فهي اتَّخذَت من الكتابة وسيلةً من أجل تشكيل نقد مقاوِمٍ تَرُدُّ به على الدول الإمبرياليَّة وتدافع عن نفسِها، وهو نقد يقوم على تحليل الخطاب وقراءته بطريقة مختلفة؛ من أجل الكشف عن معانيه المضمرة، وبيان لغة القوّة والإخضاع فيه، لمناهضة هذا الفعل الدكتاتوري.
وعليه فقد تناولت الدّراسة رواية (فستق عبيد) للأديبة سميحة خريس نموذجًا للتحليل، وهي روايةٌ موضوعُها الرّق في السّودان، من خلال تقديم حكايةٍ أو حَبكةٍ روائيَّة تكشف بعض ما تعرضَّت له الأُسَر السّودانية من استرقاق في حِقبة الاستعمار، وأتاحت الرّواية حيّزًا لأولئك المستعبَدين؛ لإيضاح الطرق المتنوّعة التي وقعوا من خلالها في العبودية.
أولًا: الاستلاب:
على الرغم من الالتباس الذي أثاره المصطلح إلّا أن المقصود بالاستلاب هو: "وصف فعل الإقصاء أو حالة الإبعاد... لوصف عملية نقل ملكية أي شيء من طرف إلى آخر، خاصة نقل حقوق أو ممتلكات أو أموال"( )، فإنَّ خلع الإنسان عن وطنه، وتغريبه عنه يسهل مَهمّة التوسُّع على المُستَعمِر.
1-الاستلاب الروحي:
يظهر الاستلاب الروحي في الرواية بشكل يوضح كيفية سقوط الإنسان في العبودية، وتحديدا هذا ما حدث مع الجد (كامونقة) حينما أراد الهرب من محاولة الاتجار به؛ عن طريق القفز فوق سور مزجّج فقال: "هناك اكتشفت وضاعتي، روضوني وكسروا زهوي، في غفلة عن نفسي والدنيا، بت عبدًا"( )؛ إذ وصف أنه لا يملك أي قدرة على اختيار مصيره بنفسه فهو دون سابق إنذار بات عبدًا بل هو يعكس حالة من الخضوع والامتثال التام، والانصياع لكل ما يتعرض له من ذل.
وظهر هذا الجانب لدى حفيد الخادمة (آوا)، قائلًا: "عبد يكتسب قوة خفية من انصياع سيده لملذاته"( ) فهو يرى بأنّه يكتسب قوته من حاجة السيد له وتلبية ملذاته، أي أنه يشعر بفائدته وذاتيته في هذا العمل بناء على حاجة سيّده له، لكنه سرعان ما اكتشف العقلية الاستعمارية في سيده؛ ثم حاول التخلص من هذا الامتثال فقال: " كأني أبحث عن منفى مؤقت ألتقط فيه أنفاسي وأحرّر جسدي المكبل كما روحي"( ).
2- الاستلاب الاقتصادي:
نلاحظ في الرواية هذا التماهي بين الاستلاب الاقتصادي وفخ العبودية؛ لأنَّ حاجة الإنسان الملحَّة إلى توفير أولوياته الأساسية تجبره على أن يترك استقلاله ويذهب باتجاه العبودية، وتقديم نفسه مقابل أمور زهيدة تبقيه حيّا، فقد قال (سارماغو) عن قضية إلغاء العبودية: " كما أعود ببعض الرقيق رغم صدور قانون يمنع الرق ويستبدله بما يسمونه العمل بالسخرة وبموافقة العامل"( )، وهو صورة أخرى للرق أو بالأحرى هو رق بمسمى مختلف، من خلال " الاغتراب عن ناتج العمل، الاغتراب عن العمل ذاته" ( )، وإن مثل هذا النوع تطرق إليه كارل ماركس في حديثه عن مخاطر الرأسمالية؛ إذ يشير إلى أن العامِل يَعمَلُ أكثَرَ من اللازم، ويتقاضى أقل من المفروض، "ويقتني بذلك وسائل المعيشة الضرورية للحفاظ على نفسه"( ).
3- الاستلاب الدينيّ:
عبَّرت الرواية عن موقف المُستَبِد في اتخاذه الدّين وسيلة ذرائعية من أجل السيطرة على أذهان النَّاس وكسب ولائهم، وتمظهر هذا الاستلاب في الرواية من خلال استثمار الدين لمصلحة المُستَعمِر أو القُطب المهيمِن بشكل أعم، من خلال فصل الإنسان عن فكره، وتعطيل دور العقل وتغييبه، ويحدث ذلك عندما يقتنع المؤمن بأن كل ما يدور حوله ما هو إلا من شدَّة إيمانه، فيرضى بالظلم والقهر والجوع، على أن هذه أمور تعد سبيلًا إلى الجنَّة.
وعليه فإنَّ هذا الخطاب الديني يحتوي على نسق يسعى نحو إخضاع الناس بشكل يضمن تشكيل أتباع كثر يلبون رغبة جهة معينة، وظهر ذلك في الرواية حينما قال الخليفة لتاجر السمسم (التيجاني): "الجنة للفقراء"( )، إذ نلاحظ في كلامه خطابًا نقيضًا يكشف لنا بنيات القوة، بل هي طريقة استثمر بها الدين من أجل فرض سيطرته على العبيد؛ ليقنعهم بأنَّ الفقر هو سمة لأصحاب الجنة، وهذه الطريقة تضمن للمُهيَمِن سيطرته مقابل تقبُّل الآخر للهزيمة التي يعيشها على أنها تحمل خيرًا له فيما بعد.
4- الاستلاب العسكري:
يكتسب الحديث عن الاستلاب ذكر أنواع أخرى، ونقف هنا عند الاستلاب العسكري الذي ظهر من خلال نتائج سلوكية للتحرر من عبء الاغتراب كان متمثلًا في نشاطات تهدف إلى تغيير المجتمع بالإصلاح أو التمرد، ولعلَّ هذا المفهوم ما هو إلا انتقال الإنسان من سلطة إمبريالية مباشرة إلى أخرى بمسميات تضليلية تحمل شعارات أخرى.
إننا في حديثنا عن الاستلاب العسكري نتناول (كامونقة) الذي حاول جاهدًا أن يلتحق بالجيش هربًا من حياة العبيد، فقال: "ركبني عفريت اسمه الجهاد، وأنا ما عرفت قبل النوم أنَّ علي أن أجاهد جنديًا؛ أقتل الإنجليز أو المصريين، وأسلِّم بالكامل للخليفة المهدي"( )، وهنا نلاحظ انتقال سلطة العبد من سيده تاجر السمسم إلى الخليفة (النجومي)؛ فكان يسعى إلى أن يحصل على الحرية مع زوجته (اللمون)، فقال: "سأذهب وإيّاها إلى المعسكر وسيتم إعلاننا رجل وامرأة حرّين"( )، وهو يرى في انضمامه العسكري وسيلة أخيرة تقدم له الحرية التي يحلم بها، فإن" مبدأ الامتلاك يقود حتما إلى الملل والقرف، وبالتالي إلى إشعال فتيل الطاقة الهدامة في الإنسان على شكل حروب"( )، وعليه فإن التحرّر قد يضمِرُ تبعية بارزة بمسمّيات مختلفة، وهذا ما يشكّل الخيال والوهم بالحرية الذي يؤدي بدوره إلى التنفيس، وعدم تشكيل قوّة مضادّة لكل ما هو إمبريالي.
ثانيا: صور العبودية:
إنَّ تواطؤ القوى الاستعمارية قد اعتمد في تشكُّله على أساليبٍ متشعّبة من أنواع الاستلاب؛ إذ مورِسَت العبودية في شتى أشكالها التي تتجه مباشرة نحو التفرقة العنصرية، وفي هذا السياق تعدَّدت صورها وتسمياتها مما له علاقة بتقييد حرية الفرد، ومنها: " العمل القسري، والزواج القسري، وبيع الأطفال والنساء أو استغلالهم، وعبودية الدّين، والاتجار بالبشر، وهي أشكال منتشرة في إطار العولمة الاقتصادية"( )، ونتوقف بما سيأتي أمام تمثيل بعض هذه الصور في رواية (فستق عبيد).
1-عبودية اللون:
سلَّطت سميحة خريس الضوء على قضية الَّلون؛ انطلاقًا من بيئة روايتها السودانية المرتبطة بشخصيات من ذوي البشرة السوداء؛ وذلك لأنَّ السود قد تعرضوا إلى الفصل العنصري "الأبارتايت"( )، تتمثل في فكرة غير إنسانية وهي أنَّ الأبيض هو اللون الطبيعي، والأسود هو الشاذ، قد أوضح الكاتب النيجيري (ريمي كابو) أصل هذا التمييز، في قوله: "عندما حدثت العبودية وُجد نمط يعتبر الأسود جنسًا إفريقيًا أدنى يُنظر إليه بوصفه أقلَّ ذكاء، بينما الرجل الأبيض يُنظر إليه باعتباره أسمى"( )، ولذك كان هذا الفصل العرقي واللوني موجودًا بشكل كبير؛ لأنه يوضح تلك النظرة العامة التي يرسّخها الرّجال البيض (المستَعمِرون) تجاه ذوي البشرة السَّوداء (المُستَعمَرون).
2- العبودية الجنسية:
ظهرت مشاهد الهيمنة الذكورية ضد النساء؛ بل إن المسألة وصلت إلى حد المتاجرة بهنَّ، إذ كشفت الرواية مجموعة من الممارسات اللاحقوقية المتخذة ضد النّساء التي يشكلها الرّجل، فأشار عبد الله الغذامي إلى الهيمنة الذكورية في هذا السياق:" ولكن الثقافة بوصفها صناعة بشرية (ذكورية)" تبخس المرأة حقها ذاك وتليها إلى كائن ثقافي مستلب"( )، وهذا ما ظهر في الرواية من ممارسات تسلب حق المرأة، خاصة تلك الموجودة في سوق النخاسة: "قلّب البائع امرأة في مقتبل الكهولة رافعا الغطاء عن صدرها وردفيها وسترها مجددا في طرفة عين"( )، فهذا المشهد يتحدث عن بائع يربطه بالمرأة ثمنها، فإن المُجتَمع الذكوري قد مارس الاستعمار الجندري على النساء، "ولقد حدث أن المؤسسة الثقافية الذكورية ازدادت قوة واتساعًا مع نشوء المقاومة النسوية لها؛ لأنَّ الأخيرة تستمد وسائلها من خطاب الهيمنة ذاته"( )، فإنَّ ظهور مقاومة تجاه أي قطب إمبريالي يضاعف القوة المهيمنة التي تتطلب تعزيز جانب المقاومة بشكل فعال يتماهى مع أفكار المُستَعمِر الإمبريالية.
3- عبودية العَمَل:
تتجلَّى عبودية العَمَل في إخضاع البشر والسيطرة عليهم، وعدم منحهم حقوقهم الّتي تترتب على الجُهد الإنساني في عمله المَبذول، وقد" ظهرت منذ النصف الثاني من القرن العشرين هجمة مفترسة من المصطلحات التي تم ترويجها في الخطاب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي"( ).
ومن المشاهد التي تعكس مظاهر عبودية العمل هو مشهد (رحمة)؛ فعندما أخذتها الخادمة (آوا) لتعلمها نظام العمل في البيت، فتقول رحمة: " تشرح لي نظام البيت الكبير الذي يرتكز على تقديم خدمات متواصلة للسيد والسيدة، كما تشرح نظام الحقل وجني العنب وعصره وتعبئته في البراميل"( )، ومن الواضح أنَّ التاجر يشتري عبيدًا يُستغلّون في العمل القسري مقابل المأوى والمأكل، فهذه العقلية الاستعمارية تسعى إلى إشغال الإنسان بمتطلبات حياته الأساسية حتى ينسى أمر عبوديته: "إنَّ علينا أن لا نضيع وقتنا في ترديد ذلك الشعار القائل بأن الجوع مع الكرامة خير من الخبز مع العبودية. فإنّما يجب أن نقتنع بأن الاستعمار عاجز عن أن يوفر للشعوب المستعمَرة الظّروف المادّية التي يمكن أن تنسيها اهتمامها بالكرامة"( ).
تتحدث رواية( فستق عبيد) عن القسوة التي تسلكها سيدة القصر (كارولينا) مع الخدم أو العبيد، بتناولها فكرة اضطهاد المرأة على المرأة، فتسرد الخادمة (آوا)، قائلة:"إذا تأخرت أوريانا عن مائدة الافطار، وإذا تبقَّعت الملعقة الفضية بسمرة خفيفة، أو وقعت قطرة ماء على شرشف الدانتيلا المخرم، كل شيء، أي أمر، مهما صغر يمكن أن يكون مقدمة لانفجار غضبها في وجهي أو وجه زوجها"( )، فإنّ السيدة تُعدُّ أنموذجًا مصغرًا للإقرار السلطوي الذي يحاول أن يتملّك الآخر ويفرض سلطته، وتقتضي عبودية العمل القسري أن يتلقى العَبد أقسى العقوبات، ومعاملته بطريقة خالية من الإنسانية.
ثالثا: اللغة السردية:
اللغة هي البنية الأساسية في كل عمل أدبي من منظور عام؛ وهي ركيزة مهمة يستند عليها النص ليتشكل البناء الفني من حبكة، ووصف، وسرد، وتصوير للأحداث، فإنَّ " اللغة في الكتابة الروائية هي كل شيء؛ هي أساس العمل الروائي؛ وهي مادة بنائه : إذا نزَعتها، أو نزعت شيئًا منها، هار البناءُ، وتهاوت أركانه شظايا"( )؛ إذ تتمتع اللغة بأهمية كبيرة داخل العمل الإبداعي، لكسب النص الأدبي فرديته.
1- اللغة الإخبارية:
يقصد بها اللغة التقريرية المتمركزة حول الإخبار،" وهو ما يقابل الخبر في كلام العرب حينما نقسمه إلى إنشاء وخبر"( ) التي تهدف إلى نقل الحدث بلا أي طريقة فنية، هي" نقل وسرد الأحداث دون تعميق أو تفسير واضح"( )، ومثال على توظيفها في الرواية:
"فقد تمكن أنصار المهدي من السيطرة على الخرطوم ودحروا الإنجليز والمصريين وحكموا الدنيا التي يعرفها على أرض السودان، وراح الناس من كل القبائل والجهات يقدمون ولاءهم للمهدي الذي أنقذهم"( )، إذ نلاحظ الأسلوب التقريري الخالي من الثيمات الفنية والروائية، بل هو كلام خبري بحت يرشدنا إلى حال السودان بعد انتصار أنصار المهدي على الجيوش البريطانية، والمصرية وتقليدهم سياسة الحكم.
ومن الجدير بالذكر أنَّ عمل سميحة خريس في مجال الصحافة قد ترك أثرًا كبيرًا في اكتسابها لهذه المهارة في توظيف اللغة الصحفية داخل أعمالها الروائية، التي أكسبتها صبغة ثقافية محملة بالعديد من الأحداث السياسية المتعلقة بأقاليم عدة منها السودان، ومثال ذلك:
" أنجز المهدي الأول فتوحاته العظيمة ووطد أركانه في البقعة وضم الخرطوم وقطع رأس مبعوث بريطانيا العظمى ((غوردن))"( )، إذ بات من الواضح أن اللغة الصحفية ترتكز على مهمة نقل الخبر دون المحاولة في استظهار قدرة الكاتب الجمالية بالاستغناء عن الأساليب البلاغية الفنية.
2- جدل الفصيحة والعامية:
لقد ظهرت ازدواجية اللغة في الرواية من خلال حضور اللغة الفصيحة المتمثلة باللغة الشعرية والصحفية مع اقترانها بالعامية، وهذا التوظيف العامي في الرواية لا يقلل من قيمة النص الإبداعي، وإنما هو محاولة لتوافق الشخصية مع الحوار؛ وذلك لأن اللغة تعبّر عن مكانة الشخصية وحيثياتها الاجتماعية، "والحق أن مسألة المستويات اللغوية داخل العمل السردي تعني، في المذهب النقدي المتسامح، أن الكاتب الروائي عليه أن يستعمل جملة من المستويات اللغوية التي تناسب أوضاع الشخصيات الثقافية والاجتماعية والفكرية"( )، فإن اختلاف طبقات الشخصيات هو أمر يلزم الكاتب أن ينوع في أساليبه الحوارية؛ لإيصال القضية المرجوة من الرواية بشكلها الأنسب.
عكست العامية في الرواية (فستق عبيد) دور الشخصيات في حوارها بينها؛ كي تتناسب وطبيعة حياتهم، وإن هذا التمازج اللغوي كان له دور في تقريب العدسة نحو هموم الناس وحياتهم الواقعية المشحونة بمقابلات ضدية وصراعات مستمرة، بل إنَّ الكاتبة سميحة خريس قد أخذت بعين الاعتبار فردية الشخصية بما يتناسب معها؛ لتدخل في صلب الحياة الإفريقية، الأمر الذي يمكّنها من تصوير معاناتهم بأفضل صورة ممكنة؛ لتتحدث عن ثالوث العرق والطبقة والجنس، فإن الغاية من اللغة كما يقول هومي بابا: " هو التفجير وليس حشر كل شيء في البنية القائـمة (بشرحه وتبسيطه) وتحويله إلى ما يمكن أن يقال مباشرة"( ).
وفي مشهد يجمع الجد (كامونقة) مع أحدهم:
"أعمل ليك حجاب يخلي النسوان ما يشوفن غيرك، واللي تريدها تريدك تباريك مثل ظلك، تمشي وراك مثل غنماية"( )، فهذا النص يعكس خطابًا مهيمنًا في جزئـياته، يكشف مطلب الرجال في محاولتهم لاستحواذهم على النساء، وتكشف اللثام عن سياقات مليئة بالإخضاع؛ فإنَّ النصّ يحمل في مجمله جملة من الممارسات المضادة بين ثنائية الرجل والمرأة، التي تعكس الاضطهاد النوعي والنظرة الدونية إلى المرأة؛ إذ تشترك هذه الثيمات الذكورية مع أدوات الاستعمار في إخضاع الآخر؛ حيث كان المجتمع الأبوي يضطهد المرأة بحجة "على أنها ببساطة مسألة ثقافية وتحدث داخل الأسرة"( ).
رابعا: تقنيات الزمان:
إنَّ علاقة الزمن بالجانب السردي علاقة ملازمة لبعضهما، من خلال وجود أنواع زمنية متنوعة داخل الإطار السردي ذكرها بورنوف وويلي: "زمن المغامرة، أو زمن الحكاية...زمن الكتابة...زمن القراءة"( )، ولكن من المهم هو أن ندرك ما إذا كانت هذا الرواية قائمة على الخيال أو على الواقعية تعكس حال الإنسان وقضاياه الشائكة وتبلورها في نسق روائي إبداعي يتمخض عن تجارب حيوية:
1-الزمن الاسترجاعي:
هو الزمن الذي يعيد به الكاتب الشخصية إلى الوراء من خلال استذكار أحداث قد وقعت معه، على أن الفرد في الرواية "ينظر دومًا إلى الخلف إضافة إلى تطلعه إلى الأمام وهو يعيد، بفاعلية، تركيب الماضي على ضوء كل قطعة صغيرة جديدة من المعلومات"( )، فهي تقنية تؤدي إلى انقطاع وظيفة السرد؛ ليعود الراوي إلى نقطة أقدم يريد أن يقدم إضاءة حولها، من أنواعه:
أ-الاسترجاعي الخارجي:
استخدمت الكاتبة في رواية ( فستق عبيد) تيار الوعي في تداعي الذكريات وربطها بالحاضر، وأعادتنا إلى بدايات الجد (كامونقة) في تشكيل عبودية لاحقة عانى منها؛ ففي أحد المشاهد كان مجتمعًا مع أبناء قبيلته وعائلته يسرد بداية رحلته الصعبة، وكيف وقع في شباك الصيادين؛ إذ يسرد أحداثًا في الماضي تساعد المستمعين أن يفهموا كيفية وقوعه في العبودية: " دفعت بنا المجاعة جموعًا وأفرادًا لاجتياح البلدات القريبة...عندها كنت فتيًا قويًا، شهيتي مفتوحة لاقتحام العالم، خرجت باحثًا عن رزقي وقدري، لا أنتظر معجزة سماوية، ولكني أتعامل بحماقة مع الدنيا...الخ"( ) ، فنلاحظ عودة الجد (كامونقة) إلى الوراء؛ ليسترجع أحداثا قد حصلت معه تكشف التفاصيل المتعلقة بالقضية الأساسية التي يسردها، وهي الوقوع في العبودية، ولعلَّ الغاية من هذا الاسترجاع هو العودة لبعض الأحداث السابقة التي تملأ الفراغات، والاسترجاع الخارجي "يحتاجه الكاتب كلما قدم شخصية جديدةً على مسرح الأحداث ليعرف ماضيها وطبيعة علاقتها بباقي الشخصيات الأخرى"( ).
ب-الاسترجاع الداخلي :
لقد ظهر الاسترجاع الداخلي بكثرة في قلم سميحة خريس، خصوصًا لدى شخصية (آوا)، مربية (كارولينا) صاحبة القصر، التي كبرت وأرهقها الزمن لتأتي (رحمة) وتتولى عنها مهام تنظيف القصر فعندما التقت (آوا) بالعبدة الجديدة (رحمة) تذكرت نفسها عندما جاءت لأول مرة إلى القصر في صورة تعيد نفسها، تقول: "عندما وقع نظري على البنت الجوهرة رحمة كأني رأيت نفسي"( )، ثم تذكرت كل الأحداث التي مرت بها من قهر وظلم من قبل (كارولينا)، " رغم أن كارولينا تتصرف كما لو أن المزرعة لها كما في الماضي، لم تكن ممتنة، بل غاضبة على الدوام، تفقد أعصابها إذا تُرِكت النافذة مفتوحة، وإذا زاد الملح في المرق...الخ"( )، فإن الخادمة تعبر عن حالة الهيمنة غير المبررة التي تمارسها سيدتها لتعكس المعاناة المستمرة من جيل إلى جيل ومن عبد إلى آخر عبر "إدخال مقاطع توضيحية عن فترات زمنية سابقة"( ).
2- الزمن الاستباقي:
ظهر في بداية الرواية بشكل مفاجئ حينما تحدث (كامونقة)، بقوله: "كضاب وإلا عيوني ما بتشوف"( )، وفي هذا سرد استباقي يوغل في المستقبل، ويعكس القصة التي نقلها إلى قبيلته قاصدا مراحل وقوعه في فخ العبودية، وفي مشهد آخر ظهر الزمن الاستباقي في النص الإبداعي بشكل يوضح الانتقال من الزمن الحالي إلى المستقبل، قالت (رفمة) أو (رحمة) بشكل مفاجئ من فتاة تضحك مع جدها إلى قولها: "تقدمت خطواتي في قلب السفينة، صار الرجلان اللذان أعرف على يميني، تخطيت نظراتهما المترقبة وتنفست بعمق"( )، ففي هذا المشهد صورة مستقبلية خاطفة لـ(رحمة) التي صعدت السفينة بشكل مباغت أسهم في تسريع الزمن، قبل مشهد هروبها من الرجلين، ولعل الغاية من هذا الاستباق هو أخذ القارئ نحو التنبؤ بالمستقبل الذي ستعيشه بعض الشخصيات ومن ثم العودة تدريجيًا إلى الأحداث السابقة.
خامسا: فضاء المكان:
تناولت الرواية دور المكان بوصفه حيزًا يعكس صراع الشخصيات، وتصوير إحساسها تجاه فقدانها له، فالمكان يمثّل هُوية الأمم وحضاراتها، الذي يسعى المهيمِن أن يسيطر عليه بشتى الطرق، و" يفهم الفضاء في هذا التصور على أنه الحيز المكاني في الرواية أو الحكي عامة"( )، "( )، وله أهمية كبيرة في إعطاء الشخصيات صفة الواقعية في الرواية؛ وذلك لأنَّ الأحداث التي تتشكل في الإطار السردي تقتضي وجود مكان يمثل التقاء ثنائية القوي والضعيف، وتتمحور مهمة المكان في كونه يحمل هوية الإنسان وثقافته.
الهوامش
وليمز، ريموند : الكلمات المفاتيح، ص43.
( )خريس، سميحة : فستق عبيد، ص10.
( ) المصدر نفسه، ص 230.
( ) المصدر نفسه، ص230.
( )المصدر نفسه، ص 158.
( ) مساعدية، لزهر: نظرية الاغتراب من المنظورين العربي والغربي، ص28.
( ) ماركس، كارل :الرأسمالية، ص309-310.
( ) خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق ص34.
( )المصدر نفسه، ص38.
( ) المصدر نفسه، ص39.
( ) فروم، أريك :الإنسان المستلب، ص18.
( ) الليموني، رمضان عيسى: أمراء الاستعباد الرأسمالية وصناعة العبيد، ص46.
( ) هو الفصل القائـم على اللون بين السود والبيض...انظر آشكروفت، بيل، وجاريث جىيفيث وهيلين تيفين: دراسات ما بعد الكولونيالية، ص66.
( )العزب، عايدة: قرن الرعب الإفريقي، ص8.
( ) الغذامي، عبد الله: المرأة واللغة، ص17.
( ) خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق، ص18.
( ) الغذامي، عبد الله: النقد الثقافي، ص46.
( )الغذامي، عبد الله: النقد الثقافي، مرجع سابق، ص64.
( )خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق، ص 135.
( ) فانون، فرانز: معذبو الأرض، ص168-169.
( ) خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق، ص152.
( ) مرتاض، عبد الملك: في نظرية الرواية، ص257.
( ) برنس، جيرالد: المصطلح السردي، ص51.
( ) قبيلات، نزار مسند : البنى السردية في روايات سميحة خريس، ص185.
( ) خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق، ص25.
( )المصدر نفسه، ص 26.
( )مرتاض، عبد الملك، في نظرية الرواية، مرجع سابق، ص104.
( ) بابا، هومي: موقع الثقافة ، ص33.
( ) خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق، ص14.
( )لومبا، آنيا: في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية، ص37.
( ) مرتاض، عبد الملك: في نظرية الرواية، مرجع سابق، ص182.
( )مارتن، والاس : نظريات السرد الحديثة، ص168.
( ) خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق، ص10.
( ) بوطيب، عبد العالي :إشكالية الزمن في النص السردي، ص135.
( ) خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق، ص148.
( )المصدر نفسه، ص151.
( ) مارتن، والاس: نظريات السرد الحديثة، مرجع سابق، ص170.
( ) خريس، سميحة: فستق عبيد، مصدر سابق، ص5.
( ) المصدر نفسه ، ص73.
( ) لحميداني، حميداني: بنية النص السردي، ص 53.
المراجع
1. وليمز، ريموند (2007) : الكلمات المفاتيح، ترجمة: نعيمان عثمان، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب.
2. خريس، سميحة (2018) : فستق عبيد، ط2، دار الآن ناشرون وموزعون، عمان- الأردن.
3. مساعدية، لزهر(2013): نظرية الاغتراب من المنظورين العربي والغربي، د. ط، دار الخلدونية للنشر والتوزيع، القبة القديمة- الجزائر.
4. ماركس، كارل(1985):الرأسمالية، ترجمة فهد كم نقش، د.ط، دار التقدم، موسكو.
5. فروم، اريك(2003) :الإنسان المستلب، ترجمة: د.حميد لشهب، شركة نداكوم للطباعة والنشر، (د.ن).
6. الليموني، رمضان عيسى ( 2016): أمراء الاستعباد الرأسمالية وصناعة العبيد، ط1، E-Kutub LtdK، شركة بريطانية مسجلة في انجلترا برقم:7513024.
7. آشكروفت، بيل، وجاريث جىيفيث وهيلين تيفين(2010): دراسات ما بعد الكولونيالية، ترجمة: أحمد الروبي، وأيمن حلمي، وعاطف عثمان، المركز القومي للترجمة، القاهرة- مصر.
8. العزب، عايدة(2014): قرن الرعب الإفريقي، ط1، دار البشير للنشر والتوزيع، مصر.
9. الغذامي، عبد الله (2005) : النقد الثقافي، ط3، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب.
10. فانون، فرانز(2015): معذبو الأرض، ترجمة: سامي الدروبي وجمال الأتاسي، ط2، دار مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة- مصر.
11. مرتاض، عبد الملك(1998) : في نظرية الرواية، د.ط، سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب-الكويت.
12. برنس، جيرالد (2003) : المصطلح السردي، ترجمة: عابد خزندار، ط1، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة- مصر.
13. قبيلات، نزار مسند، (2010) : البنى السردية في روايات سميحة خريس، ط1، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمان- الأردن.
14. بابا، هومي)2004(: موقع الثقافة، ترجمة: ثائر ديب، ط1، المشروع القومي للترجمة، القاهرة.
15. مارتن، والاس (1998) : نظريات السرد الحديثة، ترجمة: د.حياة جاسم محمد، (د.ط)، المجلس الأعلى للثقافة، (د.ن).
16. لومبا، آنيا ( 2007) : في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية، ترجمة: محمد عبد الغني، ط1، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية – سوريا.
17. بوطيب، عبد العالي (1993) :إشكالية الزمن في النص السردي، مجلة فصول، المجلد الثاني عشر، العدد الثاني، الهيئـة المصرية العامة للكتاب، مصر.
18. لحميداني، حميد (1991) : بنية النص السردي، ط1، المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت- لبنان.
19. جيلبرت، هيلين، جوان تومكينز: الدراما ما بعد الكولونيالية، ترجمة سامح فكري، د.ط، مركز اللغات ، القاهرة، 2000.
20. الحارثي، حمدان، (د.ت)، : المكان بوصفه محفزا سرديا وثقافيا، د.ط، جامعة الأزهر، 173-210.
21. الشوابكة، محمد (1991) : دلالة المكان في مدن الملح لعبد الرحمن منيف، مجلة أبحاث اليرموك، المجلد9، العدد2، 9-53.