صالح حمدوني
الشعر وعرار وإربد: ثالوث صاغ علائقه وتبادل المكانة والقيمة، فلا الشعر طغى ولا المكان تلاشى وما يزال عرار يقود التوازن. لإربد صورها العديدة التي شكلها أدباء وفنانون آخرون: أسد محمد قاسم، وهاشم غرايبة، ومحمود عيسى موسى، وابراهيم الخطيب وغيرهم كثيرون، لكنّها مع عرار أخذت صورة جديدة. إربد صَبيّة أصرّت أن تكون نفسها، زحفت إلى التلّ واتكأت عليه وغفت ثم أفاقت على أبنائها يشمّرون عن سواعدهم ويبنونها بيتًا بيتا، من حجارتها وترابها وتِبْنِها. ولأنَّهم عروبيون ويصونون امتدادهم الجغرافي والحضاري والإنساني نحو الشمال والغرب، كانت بيوتُهم الأولى شاميةَ الطراز المعماري، وقيل كثيرٌ من القصص عن عمّال دقّوا حجارتها، قدموا من فلسطين.
بين مجموعة من المباني التراثية الإربدية بُني بيت عرار على السفح الجنوبي الغربي لتل إربد، قريبًا من دار السرايا ودار بلدية إربد وبيت علي خلقي الشرايري والمدرسة الرشيدية وكنيسة الروم الأرثوذكس، بنى المحامي صالح مصطفى التل – والد عرار – بيته عامَ 1888 على الطراز الشامي العربي، وتبرز فيه قدرة الإنسان الأردني على تسخير بيئته والاستفادة منها لتلبية حاجاته، مثل الحجر البازلتي الأسود ( المتوفر بكثرة في إربد) الذي استُخدم في بناء العديد من بيوت إربد القديمة، إضافة إلى استخدام القشّ والطين والقصب.
تكوّن البيت في البداية من غرفتين وفِناء مفتوح، وتمت توسعته عامَ 1905 بإضافة ثلاث غرف من جهته الشرقية، وتم رصف فِنائه السماوي بالبازلت الأسود والحجر الوردي. سكنه الستشار البريطاني " سمر سميث " ممثل حكومة فلسطين الانتدابية، ثم تحوّل إلى مدرس سنة 1918 وعادت إليه العائلة لتقيم فيه حتى العام 1922. أقام فيه الدكتور سنيان " هندي بريطاني " وحوّله إلى مستشفى لمدة خمس سنوات، ثم استأجره الدكتور محمد صبحي أبو غنيمة وأقام فيه كمنزل وعيادة، ثم عاد إليه الشاعر مصطفى وهبي التل " عرار " وأقام فيه حتى العام 1944، ثم أسّس فيه المربّي الأستاذ محمود أبو غنيمة مدرسة العروبة وظل فيه حتى العام 1950. وكان عرار قد توفي في عمان يوم 24 أيار 1949 ودُفن في مقبرة إربد شمالي التل.
في العام 1988 اتفقت شقيقات الشاعر على ترميم البيت وتحويله إلى وقف تخليداً لذكرى الشاعر الكبير، وتولت مسؤوليته وزارة الثقافة الأردنية التي خصّصته لإقامة الفعاليات الأدبية والفنية المتنوعة كبيت ثقافي، بعد أن نُقل جثمان الشاعر عرار إليه عام 1989 تلبية لوصيّته:
يا أردنيات إن أوديتُ مغترباً فانسجنها بأبي أنتن أكفاني
وقلن للصحب : واروا بعض أعظمه في تلّ إربد أو في سفح شيحان.
جدران البيت سميكة، مما يساعد على التكيف مع تقلبات الطقس، استُخدم فيها الحجر البازلتي الأسود المهذّب قليلًا، وحجر القرطيان المائل إلى الوردي وهو من الحجارة التي كان يتم جلبها من غرب إربد أو من شرقها، كما استُخدمت الحجارة نفسها في رصف الفناء السماوي. فيما بُنيت شبابيكه بشكل مستطيل طولي، تنتهي من الأعلى على شكل نصف دائرة، وهو شكلٌ كان دارجًا تلك الفترة كنوع من الزخرفة الجمالية على الواجهات، كما تسهم في توزيع الضوء والهواء إلى داخل الغرف المواجهة لفناء داخلي محاط بجدران سميكة بمدخل واحد جهة الجنوب. خُصّصت غرفة من البيت لعرض صور عرار مع رجالات الأردن، وفيها مكتبه الخاص مع مقتنياته، وخُصّصت أخرى لعرض أرشيف الشاعر وكتاباته والدراسات التي تناولت تجربته، كما خُصّصت غرف إدارية لموظفي البيت ولاستقبال الضيوف.
تقام في البيت عشرات الفعاليات الأدبية والمعارض الفنية مثل مهرجان عرار الشعري. كما تتم فيه استضافة عدد من أمسيات مهرجان جرش الشعرية ومهرجان الرمثا الشعري، فتحوّل البيت إلى ملتقى للمبدعين وواحة ثقافية متميزة تاريخًا ومعنى ووظيفة.
يليق بالشعر وعرار أن تدلف من باب بيته إلى حضرته، قادمًا من حواري إربد القديمة المطلّة على المدينة الحديثة، تلقاك بعد الباب شجرة معمرة بانحناءات جذعها التي تؤكد على استمرار الحياة والإبداع والشعر واسم عرار، وتلفت الانتباه أحواض موزّعة بانتظام هندسي مزروعة بأشجار مثمرة، فالمكان يؤكد العلاقة الروحية بين المبدع وبيئته، والشعر والشجر، وعرار وإنسانيته. وبنظرة تجاه السماء سترى الأصالة والمحبة التي يجسّدها تَجاور المئذنة وبرج الكنيسة. يقول الروائي مفلح العدوان : " إنَّ عرار يمثل وجدان الإنسان الأردني، بحضوره وتجسّده لكل ملامح المكوّن الأردني من أرض وإنسان، حيث تعكس سيرته عبقرية التزامه بقيمه وأفكاره التي نادى بها، ونظمها شعرًا ونثرًا ونهجًا لم يحِدْ عنه ... إنَّ عرار بقي حاضرًا مشعًا رغم غيابه، وشكّل مرجعية ومفصلًا مهمًا في الأدب الأردني والعربي، وكان نموذجًا للشاعر المتمرد المبدع المختلف إبداعًا وموقفًا وعمقًا في الثقافة والسياسة على مدار سيرة حياته ".