في تذكر حبيبتي إربد.
زياد خداش
غادرت إربد في شتاء 1989، سنوات طويلة تفصلني عن آخر ليلة قضيتها هناك بصحبة أصدقاء في حفلة وداع لي متنا فيها من الضحك، في إربد وحدها يُسمح للضحك المجنون، ويُسمح للرقص في الشوارع من دون سبب، من النادر أن تجد شخصًا يتذمر من ضحك جاره، أو يحتجّ على طالب يرقص في باحة بيته، من عام 1983 وحتى 1989 وأنا أضحك وأقرأ وأحاول أن أحب، وآكل الفلافل الشهية من مطعم الحشاش، في غرب إربد، مع أصحابي، ثم نطير إلى حلويات "زهرة المدائن" بالقرب من ملتقى شارعي إيدون وبغداد، وفي صباحات الجُمع الرهيبة الصمت كنا عراة من كل شيء نغرق في زيت فول محمود الدرزي، أو حمص ياسين، ونسقط في سخونة الخبز المشروح الضاحك من فرن أمام المطعم مباشرة، ثم ننزوي في عتمة "سينما الفردوس" بالقرب من تقاطع شارعيّ بغداد والسينما، وفي آخر الليل نأوي الى فراشنا مرهقين من المتعة، متعة أن نكون في إربد.
أنا من صنع إربد، من تشكيلها ورائحتها وليلها وخبزها، أنا من ذاكرة إربد، أربد أمّي وشقيقتي، فيها التقيت بغسان كنفاني اللقاء الثاني (الأول كان في مخيم الجلزون)، وإيميل حبيي، وصنع الله إبراهيم، وكاتب ياسين، وتيسير سبول، والطاهر وطار، ويوسف القعيد، وإدوار الخراط، وآخرين، التقيتهم في برد غرفتي الدافئ في شارع السينما، سكنت مع شاب "كاريزماتي" بشكل مخيف، بثقافة واسعة، بسخرية جاهزة من كل شيء، المهندس رمضان صافي، كان يعطيني كتبًا غريبة لأقرأها، وكنت سعيدًا، ومرة اكتشفت في غيابه كرتونة كتب سمينة تحت سريره، نهشتها بعينيّ فإذا بها كنوز من الروايات وكتب النقد والفلسفة والشعر، كان يقرؤها خفية عنا حتى لا نتقاتل عليها ونقرؤها قبله: لفوكنر، وغالب طعمة فرمان، وسعدي يوسف، وصمويل بيكت، وهنري مللر، وماركيز، ولوتريامون، وفالتر بنيامين، وآخرين كثيرين.
من كرتونة (أبوالصافي) السرية ولدت مباهجي الجمالية الكتابية، وسقطت أحلامي الكبيرة، ونزّ ينبوع جنوني في الحياة، كنت أستغل ذهابه إلى محاضراته لأغيب أنا عن محاضراتي، وأجلس في البيت مع مسروقاتي، وكنت أحرص على ترتيب الكتب بالشكل الذي كانت عليه، حتى لا يشك فيّ، لأنّه كان ذكيًا جدًا، حماقات كثيرة ارتكبتها في إربد، صديقات تركتهن في منتصف شهقة، صديقات تركنني في منتصف وعد، وماء كثير نزفته على أبواب جميلات ضحكن عليّ مرة قائلات: إنّهن مجنونات إلى درجة التكسير، فإذا بهن الآن بيتوتيات إلى درجة زوج ثقيل وأولاد واسعين، حنان كبير وألم عظيم تعرضت إليهما من أشخاص رائعين اختفوا الآن من حياتي واختفيت من حياتهم، في إربد صدّقت ومازلت أصدق أن لا أحد يسيء لأحد، في إربد وحدها لا يموت طالب من الأذى، هناك يموت الطلاب من الحب، من القراءة، من الكتابة من الحلم، سقط رأسي في القدس في مسشفى (الهوسبيس) تحديدًا، في إربد سقط قلبي، في دوار شارع بغداد تحديدًا، مَن تراه وطني؟، مسقط الرأس الفارغ أم مسقط القلب الممتلئ، أم كلاهما؟.
***
حكايتي العجيبة مع سالي.
بشكلٍ لا يُطاق، سكنني متحمسو محمد طملية الأوغاد، شتتوا انتباهاتي، عاشوا على طاقتي، كنت قد قرأت هذه المجموعة القصصية «المتحمسون الأوغاد»، في أواخر الثمانينات في مدينة عواصفي وجسدي، إربد، أعارها لي شخص أعمى، وهو صديق لصديقي، أتذكر بقوة أنني لسبب ما نسيت أن أشكر الشخص الأعمى، فسمعته يقول لصديقي وأنا أهبط درج البناية: صديقك هذا لا يستحق الكتاب، تصور أنَّه بخل علي بكلمة شكر، على كلٍّ أتمنى أن يلاقي عقابه على يد متحمسي محمد طملية الأوغاد، اللهم سلّطهم عليه! ويبدو أن لعنة الأعمى مازالت تفعل فعلها. فما زلت أعيش حتى الآن عبئًا ضخمًا لاعتذارات مدين أنا بها لمحمد طملية ولأبي محمد وسالي ولزياد أيضاً.
في أواخر الثمانينيات كنت أدرس في جامعة اليرموك الأردنية، الحالة المادية كانت ممتازة، فالمصروف والرسوم تأتي من الأهل تباعًا وبانتظام، فجأة انقطع كل ذلك، بسبب ظروف الانتفاضة، عشت مع أصحابي الأربعة جوعًا رهيبًا، إذ ذاك عرفت رائحة البصل الحريفة مع الخبز، وقتها عرفنا المعنى الحقيقي لكلمة الجوع، مع أن أسرة أردنية طيبة جدًا كانت جارة لنا، لم تبخل علينا بالطعام، إلا أننا كنا نخجل، أقنعنا العائلة بأنَّ كل شيء على ما يرام، فالأموال وصلت أخيرًا، ولم نكن ننام وبطوننا تتلوى بالفراغ.
بدأت الحكاية بدخولي سوبرماركت صغير أمام بيتنا، كنت أنوي أن أفاتح صاحب المحل بقصة جوعنا، وأن أفتح معه صفحة دين في دفتر ديونه، صادفت هناك صديقًا لي كان يشتري علبة سردين، ربت الصديق على كتفي وقال مازحًا وهو يخرج: كيفك يا طملية؟، خاطبني بطملية لأنه يعرف مقدار حبي لقصص ومقالات محمد طملية خصوصاً عموده اليومي في الدستور «شاهد عيان». خرج صديقي ولاحظت أنَّ الحاج "أبو محمد" ينظر لي ويبتسم: أنت الكاتب محمد طملية، أليس كذلك؟ أجبته: بلى، معتقدًا أنَّه يمزح معي، لكنه صدق ذلك بقوة، كأنه كان يريدني أن أكون محمد طملية بقوة، حمّلني أبو محمد علب سردين كثيرة وخبزًا وجبنًا وعصائر، وقال لي: حين تأتي الأموال تدفع ولا يهمك، عرفت لاحقًا أنّه يتابع «شاهد عيان» باستمرار، ويحتفظ بأرشيفها، وهكذا ولمدة بضعة أشهر حُلت بهذه الطريقة مأساة الجوع، صرت محمد طملية، حتى زملائي كانوا ينادونني بمحمد، يناقشني أبو محمد في زاويتي كل يوم ويسألني عما أفكر في كتابته غداً، لكني كنت أشعر بضيق شديد قبل النوم، لأنّي استغل اسم محمد وسذاجة الرجل، قادني هذا الشعور إلى طرق باب أبي محمد ليلاً حافي القدمين لأقول له والدموع تخنق وجهي: أنا لست محمد، أنا زياد ، وأحب محمد طملية مثلك، فوجئت بأبي محمد يهز رأسه وكأنّه يعرف ذلك، منذ أسابيع فقط عرفت ذلك، قال لي، لكن سالي ابنتي الوحيدة -تابع أبو محمد- ابنة الـ15 عامًا ما زالت تعتقد أنك محمد، محظور عليها أن تعرف أنك لست محمداً، كل يوم تراقبك من النافذة وأنت تخرج وتدخل إلى البيت، سالي تحتفظ بكل ما كتب محمد من قصص ومقالات، وصوره تملأ جدران غرفتها، في الصباح قبل الفطور تقرأ عموده، فأشعر أنَّ سرطان الدم المصابة به يتراجع أمام ابتسامتها وتنفسها العميق، لكن السرطان توحّش في جسمها منذ يومين، كنت أشعر أنَّ حرباً طاحنة تدور داخلها بين مقالات محمد وبينه، لم أكن أتصور أنَّ الكلمات يمكن أن يكون تأثيرها بهذه القوة، كان يجب أن تموت سالي قبل سنة والطبيب يستغرب مقاومتها المفاجئة، شكراً لأنَّك ساعدتني على تأخير موت سالي، سالي ستموت قريبًا. شكرًا لك يا محمد، عفواً أقصد يا زياد.
من كتاب ( شتاء ثقيل وامرأة خفيفة) ١٩٩٧.