عمّار الشقيري
سعل لخمس دقائق متواصلة، احمرَّ وجهه خلالها وانتفخت عيناه، برزت عروق عنقه وبدا كما لو أنَّ أحدًا يحاول اقتلاع رئتيه من صدره، ثم راح يهدأ رويدًا رويدًا، وظلَّ مادَّا كفّه في وجهي في إشارة بأن لا أقلق.
أشعل سيجارةً أخذها من علبتي كالعادة، وراح يتأمل صحن "ستالايت" صدئ يتمايل مع الهواء فوق أحد الأبنية، قال: انظر هذا مشروع تخرجي، تعبت عليه يا رجل، كلية الحجاوي لا ترحم.. ثم أخذ يتلفت حوله بحذر مع أننا وحدنا، وسأل: هل تحفظ السر؟!.
سليم عندما يسألك سؤالًا كهذا عليك أن تتوقع مصيبة قادمة نحوك بسرعة قطار.
- تعرفني منذ ثلاث سنوات يا رجل.
قال: "أوكي"، لاقيني عند كشك "أبو محجوب" الساعة ستة.
أخذ سيجارة أخرى وانطلق.
....
نزولًا باتجاه دوار البياضة، الشارع يغصُّ بفتيات أنهين المحاضرة اليتيمة وتوجهن إلى مواقف الباصات، بدت الأجواء كرنفالية، السماء قريبة أكثر مما يجب، وجبال من قطن فوقنا تغريك لتمدّ كفك وتقبض على حفنة منها، وشبان عاطلون عن العمل يذرعون الأرصفة تفوح من قمصانهم الملونة روائح عطرية رخيصة، يبحثون عن غمزة أو ابتسامة، ويقفزون في الباصات المتهورة كي يحجزوا مقاعد لبنات لا يعرفونهن مدفوعين بشهامة زائفة، أمَّا الفتيات فيحظين بمقاعد سهلة ويحاولن بأقصى جهد أن يضبطن تصرفاتهن، فحركةٌ واحدة خاطئة ستكلف الواحدة منهن مطاردة شبه يومية في المجمعات ومواقف الباصات.
عدتُ للشقة وأمعنت في المدينة... كم تغيرت إربد!! وكم هي منهكة من هذا التحوّل غير المكتمل، جزءٌ منها يقاتل ليظلَّ ريفيًا وجزءٌ آخر اكتسب ملامح المدينة.. الضجيج المستمر والشكل الخارجي للأسواق والمقاهي، هذا الجزء يربط عُصبة على رأسه الذي أنهكه الصداع... وفكرتُ ربما يحتاج إلى شلال من حبوب "البنادول" تُضخ في شوارعه كي يهدأ.
شارفتِ الساعة على الخامسة ولم أذاكر شيئا كالعادة، لكنني شرعت بوضع خطط جديدة ليوم الغد، في الواقع لم تكن جديدة، هي الخطط نفسها، لكن يتم ترحيلها من يوم لآخر.
....
السادسة مساءً وجدتني مغروسًا عند كشك "أبو محجوب"، السادسة والنصف أطل سليم من شارع الجامعة.
قبل أي نقاش؛
- مرحبًا، هات سيجارة.
- اركب
- إلى أين يا رجل؟!
- ما عليك، بس نوصل.
وانطلق الباص...
وصلنا كفر ابيل، ترجلنا من الباص ومشينا لنصف ساعة في منحدر...
- أنا تعبت يا سليم!!.
- ما عليك، هات سيجارة.
صرنا في عمق الجبل، تجاوزنا وادي الرشراش...
انحدر سليم إلى الأسفل محاولًا الحفاظ على توازنه الذي اختل بفعل الدوس على العشب الرطب... وصلنا نفقًا طويلًا، فتح سليم حقيبته وأخرج مصباحًا ارتداه فوق رأسه مثل عمال المناجم، وأعطاني الآخر.
- رأسك كبير، أعرف، يمكنك تعديل الرباط.
- ما هذا يا رجل؟!
- اسمعني، الشيخ محمود قبل ليموت أعطانا علامة، هون المكان بالزبط.. ذهب يا رجل.. بدنا نصير فوق، بدنا نطير، بدنا نخلص من عيشة الفقر.
دلفنا إلى النفق...
حاذر الانهيارات.. قال.
بقيت ضربة أخيرة ... صوت الطرق تغير، تخميني أنها الضربة الأخيرة ثم الكنز، مثلما يدعي.
-أنت صديق عمري..
لم أنبس ببنت شفة، كانت تحدوني رغبة عارمة بدق عنقه.
قلت: شرفٌ لي يا سيد سليم، أقسم أنك ستتسبب لي بذبحة صدرية.
- معلش، هات سيجارة.
أشعلها وأخرج المِطرقة، فتراجعت إلى الخلف، بدا سليم مثل قط مرتعش وسط هذا الظلام الكثيف، فضّل أن ينهي السيجارة، ثم قال: اليوم سأعوضك عن كل هذه السجائر.
ثقته المجنونة بدأت تشعل فيَّ شيئا من الحماس، فقلت:
- حسنًا، هيا اضرب ضربتك الأخيرة.
عبَّ من دخان سيجارتي الأخيرة، وجلس ساندًا ظهره على جدار الكهف الخشن... وأمعنت النظر فيه، كان الفرحُ يغمر ملامحه، لأول مرة أشاهد "سليم" متحمسًا وفِرحًا هكذا...
قام، تراجعت إلى الخلف، ارتجل كلامًا مبهمًا يشبه الأدعية المبتورة، ثم جثى على ركبتيه، وتحوّل إلى راهبٍ يؤدي صلاته الأخيرة في هذا الكهف البعيد...
"بسم الله"، صرخ.
ضرب بالمِطرقة بأقصى قوته على الجدار؛ فركضت إلى الخلف وبدأ الانهيار..
...
قال الطبيب لاحقًا: لقد نجوت بأعجوبة، أمَّا صديقك فالرحمة تتغمد روحه، يبدو أنه إنسان صالح، فجسده كان دافئا، ووجهه يشعُّ نورًا، وعيناه فيهما بريق كبريق الذهب!.