• حسام الرشيد*
لا مناصَ أمامي سوى الانتحار.
هكذا حدّثتُ نفسي بمرارة، وقد كان عليَّ أن اتخذ هذا القرار منذ زمن بعيد، لكنني كنت أرجئه لعلَّ الأمور تسير إلى حال أفضل، ولكنّها كانت تسير إلى الأسوأ دائمًا، ليس أمامي سوى أن تحين الفرصة المناسبة لفعل ذلك، سأدرس الأمر بعناية، لن أتعجّل حتى يغدو فعلي طائشًا، كلّ من سيقف على جثتي سيقول بالفم الملآن:
-لقد فعلها أخيرًا!
قبل أيام زارني ابن شقيقتي في الصباح الباكر، ومعه جرائد الصباح، كما اعتاد أن يفعل في مطلع كل أسبوع، أخبرته حين يزورني في المرة القادمة أن يطرق على باب البيت ثلاث طرقات، إذا لم أفتح له الباب عليه أن يخلعه، والذباب وحده من سيرشده إلى جثتي.
بعد أن تصفح الجرائد على عجل وهو يضحك، قال لي بصوت ساخر:
- مرارا أخبرتني بذلك!
كانت نظراته نحوي تشي بأنَّه غير مصدق ما أقول، من يقدم على الانتحار لا يشاور أحدًا، ربما يكتب وصيته الأخيرة وينتحر، أمّا أن يضرب موعدا لانتحاره فلا بدّ أنه يلهو، وربما يريد أن يجلب اهتمام الآخرين من حوله، كما يقول علماء النفس.
أخبرته في جلستي معه، حتى أستأصل شأفة شكوكه، أني سئمت من كل شيء في هذه الحياة، أعيش وحيدًا في شقتي بين أربعة جدران، لا أزور أحدا ولا أحد يزورني، أقتات على ذكرياتي القديمة، حين كنت في الحزب وأخطب بالجماهير العريضة وأسير في مقدمة المظاهرات، هاتفًا بسقوط الامبريالية وقوى الاستعمار والظلام، فلما ضاعت أحلامي وأحلام جيل بأكمله، انكفأت على نفسي أنتظر النهاية الموعودة، وبتُّ على قناعة أن ليس هناك ما يستحق العيش لأجله.
قال لي وقد غرز نظراته نحوي:
-على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
قلت له وقد تقلصت عضلات وجهي من الغضب:
-إنَّها أوهام الشباب الكاذبة.
قال لي بغية ألَّا تهرب الأفكار من رأسه:
-ولكن علينا ألا نستسلم أبدا.
ودار بيننا حوارٌ طويل، لم نلتق على فكرة واحدة قَط، غفرت له طيش الشباب ورعونته، هو وجيله لم تعركهم التجارب كما عركتنا، حين يقطع شوطًا طويلًا في هذه الحياة، ويقتنع أنَّ الأحلام التي تداعب خياله ما هي سوى محض أوهام، لا بدَّ أن تتداعى مع أول عاصفة، كما حدث مع أحلامنا التي تبخرت في الهواء.
بعد خروجه، قلت لا مناص أمامي سوى...، لست متردّدا، ولكنَّني أريد لحياتي أن تنتهي بطريقة احتفالية، لم ترق لي فكرة أن أشنق نفسي بأنشوطة، فأتأرجح من السقف ولساني يتدلى خارج فمي، ولا أن أغلق نوافذ الشقة بإحكام وأدير أنبوب الغاز فأختنق في لحظات، أو أن أغرس (سكينًا) حادة في بطني كما يفعل أبطال (الساموراي)، أو حتى أن ألقي بنفسي من أعلى وأهوي على الأرض جثة هامدة.
في الصباح الباكر، ذهبت إلى شيخ الجامع، وأفضيت له بما يدور في عقلي، لا أريد أن أكون آثمًا، أريد أن أموت وكفى، فنصحني بالتريث وأنَّ الانتحار حرام، وأن ما يترسب في داخلي ما هو إلا وساوس شيطان، وما عليّ سوى الرجوع إلى الله، ولا أنصاع لهذه الأفكار الآثمة.
خرجت من عنده ضاربًا في العماء، حتى قادتني خطاي في ذلك المساء إلى صديق لي، وهو من كبار المناضلين السياسيين في زمن جميل مضى، كان قد بلغ من العمر أرذله، استراب من زيارتي له في الهزيع الأول من الليل، وأواصر المودة انقطعت ما بيننا منذ أمد بعيد، الخلافات حول مصير الحزب وبرنامجه السياسي، جعلتنا كما خطين متوازيين، نسير في طريقين مختلفين، ولا نلتقي أبدا.
فلما جلست في حضرته ورأيت أصابع الزمان بارزة على جلده المجعد، وشعره الأبيض الخفيف المحدق بصلعته الشبيهة بلسان العجل، والعينين الغائصتين على أديم وجهه الذاوي بلون التوتياء، أنّبت نفسي على ما فعلت، كان عليّ أن أمعن التفكير قبل زيارتي له، هل أنتظر النصيحة من عجوز ثمانيني ذي قدمين كسيحتين، كان في يوم من الأيام من أشد الناس خصومة لي.
فلما نهضت متعللا بموعد لي حانت ساعته، ترامت نظراته الغريبة نحوي وقال لي:
-ما زال في العمر بقية.
اختلجت شفتاي ولم أنبس، هل دخل إلى عقلي بلا استئذان وعرف ما يدور بداخله؟ أم أن هناك من أفضى بسري إليه؟ لم أصدّق ما قاله، وحتى لا أجعله يفوز من الجولة الأولى، بتلك العبارة حمّالة الأوجه، لا بدّ لي من القيام بهجوم استباقي.
قلت له وطيف ابتسامة ارتسمت على محياي:
-زرتك لأطمئن على حالك.
زفر بعمق وقال لي:
-ما لهذا أتيت!
إذن لا مفرَّ سوى الانصياع له، فقد حسم معركتي معه مبكرًا، بلا مقدمات أخبرته أنّني أفكر بإنهاء حياتي، ولكن ما يعيقني ليس الفكرة وإنّما الطريقة، من أعماق قلبه ضحك، تهاويت على المقعد الوثير، وحامت نظراتي على جدار الغرفة الذي ازدان بصورة لرفيقي وهو في شرخ شبابه، يلوّح بيده لرفاقه في الحزب الذين انتخبوه أمينا عاما له.
وقد أراح يديه على فخذيه قال لي:
- لا يأس مع الحياة.
عدت إلى البيت لا ألوي على شيء، لقد وصلت إلى طريق مسدود، لم يشجعني أحد على فعلتي، ابن شقيقتي سخر مني، وشيخ الجامع حذرني من مغبة ما أنا فاعل، فهو الحرام بعينه، ورفيقي القديم بالحزب ما زال يحلم بغد أفضل، قبل خروجي فرد أمامي رزمة من الأوراق، وأخبرني أنَّه يفكّر في تأسيس حزب جديد، نواته ستكون من الشباب الطامحين في إحداث تغيير جذري في الحياة السياسية.
وهو يشدّ على يدي مودعا، بنبرة واثقة قال لي:
-القادم أفضل.
وصلت إلى بيتي مجهدا، تناولت ورقة وقلمًا، وكتبت وصيتي على عجالة، ألا يبكي عليّ أحد، ولا يقام لي سرادق عزاء، ولا يحمل نعشي سوى أربعة رجال مأجورين، ولا يوضع على قبري شاهد ولا علامة، وأن تحرق جميع كتبي وأوراقي.
وسرعان ما ارتميت على السرير، وقد شعرت بالنشوة تملأ أقطار نفسي، في تمام الساعة الثامنة من صباح يوم غد سأنتحر، نظرت إلى الساعة المعلقة فوق الباب، عقاربها التي تمشي على مهلها، كانت تشير إلى الثانية عشرة ليلًا، ساعات قليلة وينتهي كل شيء، دخنت سيجارتي الأخيرة وأخذت إغفاءةً من النوم.
في الصباح الباكر نهضت، نظرت إلى الساعة التي كانت عقاربها تقترب من الثامنة، قلت في نفسي، لقد أزفت النهاية، بخطى واثقة شققت طريقي نحوها، وعلى غير انتظار، رنّت في أذني كلمات رفيقي القديم، الذي ما يزال يتشبث بأهداب الأمل، وهو في الرمق الأخير من حياته، فتراجعت القهقرى مما أنا مقدم عليه، أدرت عقارب الساعة للوراء، فيما كان ضوء شمس الصباح يتسلل إلى الغرفة، مؤذنًا بإشراقة نهار جديد.
*قاص وروائي أردني