• تيسير نظمي*
مع أشعة شمس آذار، كم بدى لامعًا لون الجزر!! وكم بدى شبيهًا بلون برتقال يافا لولا فقدان اللون للرائحة!!. وضعتُ كلَّ ما اشتريته اليوم من جزر على الشرفة تحت الشمس الساطعة؛ ليجفَّ ما اعتراه من بلل نديّ... ويزداد التماعًا.
نظفتُ العصّارة الكهربائية وأعددتها للتشغيل بعد طول هجران لها قارب السنة. وجلستُ أراقب عبث العصافير مع طائرٍ أكبر منها حجمًا ظننته بادئ الأمر دجاجةً أو ما يشبه الدجاجة؛ لأنّه ثقيل الخطو بطيء الحركة إذا ما قورن بالدجاج من حوله، وشاذٌّ عن العصافير التي تحلق وتتقافز من حوله دون أن يكون له قدرتها على القفز والطيران.
بفعل العادة وبفعل المشاغل لم أفرغ يومًا ما لبحث أمر هذا الطائر وما هو بطائر، ولا شغلني اختلافه عن بقية من حوله سواء بالشكل أو بالحجم أو السلوك. فقط هو طائر مختلف لأسبابه الخاصة التي ربما تكون نتيجة اعتلال أو ضعف في التكوين. هو من حيث الفصيلة من الطيور وليس من الحيوانات الأليفة؛ مثلًا الكلاب والقطط. نقلت ناظريّ لبهاء الجزر البرتقالي الناصع ولمعته المحتفية بضوء الشمس، فراقني لونه وقوامه وخاصةً أنّ بضع جزرات احتفظن بورق أخضر لم تمسسه سكين أو براعة اليد التي قطفته عن موطنه. بدت مسننات العصّارة لامعةً هي الأخرى من فرط نظافتها، كما بدت الكأس التي سوف توضع تحت (زعبوبة) العصّارة أيضًا نظيفة شفافة، لا تعتريها أية شائبة أو حتى دمعة من آثار الغسيل. كان الجو صافيًا والسماء زرقاء بلا أية غيوم بيضاء أو داكنة أو مكفهرة تنذر بكآبة الشتاء المنصرم.
تذكرتُ صديقًا زارني منذ فترة ولاحظ ملاحظتي نفسها لدى رؤيته للطائر المختلف، أو دعني أقول للدجاجة المختلفة. كان أكثر مني معرفة وعلمًا بالطيور. لكن أحاديثنا تشعبت وتوالدت وفقّست موضوعاتٍ أخرى ليس من بينها أنواع الطيور التي ألفناها في الصبا، أو عرفناها من خلال ممارسة الصيد في البساتين وبين الشجر، أو عند نبع الماء أو على البيادر في مواسم الحصاد.
ولا أدري كيف انبثقت فكرة الاتصال الهاتفي به في ذهني كي أسأله عن سرِّ هذا الطير الدجاجة... وفي مثل هذا التوقيت المفاجئ من ربيع يستهلُّ بشائره بسطوع الشمس أولًا، وبوعوده بكسوة شجر اللوز بالنوّار، والأرض بالورود والأزهار؟!. ولأنَّ متعة البصر والإبصار لا تعادلها متع التذوق والطعام؛ قلت لنفسي أتصل أولًا بالصديق، أدعوه لزيارتي إن سمحت له أوقاته وانشغالاته ثم أسأله في كل الأحوال عن هذا الطير المختلف، إذ يبدو لي أنه حزين هذا اليوم أكثر من أي وقت مضى. أقول حزين وأنا أراقب كيف يستهين به كل من حوله، ويأخذون طعامه من أمامه ومن حوله وهو عاجز عن فعل أي شيء إزاء هذا التطاول على مقامه وحجمه ومنقاره. أمَّا العصافير فقد بلغ بعضها من الوقاحة أن جلس أحدها على ظهره مستمتعًا بأشعة الشمس، وبالطيران مع أقرانه عندما يهرعون في سربٍ جماعيٍّ نحو ساحة المحمص المجاور، باحثين عن بقايا الفستق الذي عادةً ما يعرضه صاحب المحمص للشمس.
عثرتُ على رقم هاتف الصديق، ونظرت إلى الساعة في يدي قبل أن أتصل وأجد هاتفه مشغولًا في مكالمة أخرى. وكي أشغل الوقت أنا أيضًا قبل أن يبادرني هو باتصاله، أدرتُ مفتاح العصّارة واضعًا أول جزرة في فتحة العصّارة لمواجهة مصيرها الذي مهما كان لن يسلبها لونَها البهيّ؛ بل يحولها إلى فتات برتقاليٍّ ناعمِ الملمس. وهكذا فعلت مع زميلاتها بعد استمتاعهن بشمس آذار. عندما امتلأت الكأس أمامي أدرت مفتاح التشغيل معكوسًا لتنخمد ماكنة العصر وتلوذ بالصمت.
رنَّ جرس هاتفي مؤذنًا بانتهاء مكالمة الصديق في يوم عمل، وفتحت الخط مستهلًا المكالمة بالسؤال عن أحواله وما استجد لديه من مشاغل وأخبار. وهو بالمقابل سألني عن أخباري، وهل وجدت عملًا بعد إنهائهم لخدماتي للمرة الثالثة، لكنَّه فوجئ أنّني أسأله عن الطير هذه المرة دون سواه. تريث قبل أن يجيبني مستفسرًا عن سرِّ بحثي الدائم عن المتاعب والقصص الكئيبة المحزنة، فقلت له إنَّ وضع هذا الطير بات لا يُحتمل ولا يُطاق، وأنَّه يتعرض حاليًا للإذلال، وأنَّه غير قادر على الدفاع عن نفسه. تغيرت نبرة صوت الصديق فجأةً، وهو يتريث في مكاشفتي أنّه لاحظ من قبل ملاحظتي نفسها، ولم يشأ أن يخبرني في حينه بحقيقة الطير. وبعد إلحاحي عليه بالبوح كي لا يخفي شيئًا عني قال: إنّه يا صديقي نوعٌ نادرُ السلالة من النسور التي حلقت عاليًا في سماء فلسطين.
العاشر من آذار 2022- عمان.
*كاتب ومترجم أردني