أ.د. محمد عبيدالله*
قدّم الروائي والكاتب المتميز سليمان القوابعة (مواليد الطفيلة 1943) جهودًا متميزةً في مسيرة الرواية الأردنيّة والعربيّة، ابتداءً من روايته الأولى (جرح في الرمال/1969)، التي نرى إمكانية ضمّها إلى الروايات الحداثية الرائدة، لتُقرأ مع رواياتٍ مهمّة، أبرزها: (أنت منذ اليوم) لتيسير سبول، و(الكابوس) لأمين شنار، و(أوراق عاقر) لسالم النحاس، ونحوها من الروايات التي تفاعلت مع نكسة حزيران عام 1967 وافتتحت طريقًا واسعًا للرواية الأردنية الحديثة.
ولم يتوقف القوابعة، فأنجز في مسيرة عطائه مجموعةً من الروايات المتميزة، هي وفق تواريخ نشرها: شجرة الأركان (1978)، وحوض الموت (1994)، والرقص على ذُرى طوبقال (1998)، وحلم المسافات البعيدة (2007)، وسفربرلك ودروب القفر (2010)، ودروب الرمل (2017)، وله إصدارات وكتب أخرى في مجال جغرافيا المكان وجمالياته.
تتميز رواياته موضوعيًا وفنّيًا بجهد دؤوب في تمثيل جوانب دالّة من حياة البداوة وحياة الريف أو الحياة الشعبية التي تمثّل روح الجماعة وهُويتها وثقافتها من خلال تطويع تلك التجارب في سياق السرد الروائي، بما يقتضيه ذلك من تعديل ضوابط الرواية وقواعدها لتتلاءم بدورها مع المحتوى الجديد والمختلف الذي اجتهد القوابعة في التعبير عنه في معظم رواياته. وإذا تذكرنا أنَّ الرواية جنسٌ أدبيٌّ مديني في نشأته وتطوره وقواعده؛ فإنّنا سنغبط الكاتب على مغامرته التعبيرية والفنية، إذ سعى مع أصوات عربية معاصرة قليلة للتعبير الروائي عن البداوة وحياة الصحراء، وأضاف هذا التيار الروائي البدوي لونًا مختلفًا إلى ألوان الرواية العربية، وأفاد من سرديات البوادي المتخيلة والتاريخيّة في رسم معالم بيئة مخصوصة لها طبيعتها وهُويتها الخاصة.
ولو استعدنا في هذا المقام الرواية الموسومة بـ (سفربرلك ودروب القفر/2010) لوجدناها مثالًا نموذجيًا على ما أشرنا إليه، فقد اختار (القوابعة) خلفيتها التاريخية قاصدًا تمثيل أواخر العصر العثماني قبيل سنوات قليلة من إعلان الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف الحسين بن علي- طيّب الله ثراه- وصولا إلى سنة 1916-1917 حيث نجحت قوات الشريف بإبعاد فلول العسكر العثماني، وترافق ذلك مع هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، وكان إيذانًا بتفكك أوصال الدولة وما شهدته من تحولات أدت إلى دول وجغرافيا سياسيّة جديدة.
اختار المؤلّف الراوي والشخصية الرئيسة ليحمل اسم (علي بن عبد الله الشاهد) وهو اسم افتراضي غير تاريخي ولكنّه مسبوك وفق طبيعة المرحلة التي يمثّلها، وجعلته الرواية شابًا يدرج في بدايات سنواته العشرين، تعود أصوله إلى المدينة المنورة في الحجاز، ويُقبض عليه ضمن سياسة (السفربرلك) التي تعني تجنيد العثمانيين للرجال وللشبان وإرسالهم عنوةً إلى جبهات القتال التي شاركت فيها الدولة إبان الحرب العالمية الأولى، ولكنّه يتمكن من النجاة في تبوك، فيهيم فارًا على وجهه، حتى يصل أخيرًا إلى قبيلة بدوية تقيم جنوبَ الأردن، في مكان تسميه الرواية (وادي أبو العوافي) يطمئن الشاب لدى الشيخ حمد بن مصلح وجماعته، فيعمل راعيًا لإبل الشيخ ومواشيه، ويتعلم من رفاقه الرعاة وبيئته البدوية الجديدة كثيرًا من طبائع البداوة التي تختلف قليلًا أو كثيرًا عمّا خبره من الحياة الحضرية في المدينة المنورة. وحين يستبدُّ به الحنين إلى موطنه الذي بعد عنه، وإلى أهله الذين انقطع عنوة عنهم، يعود مستترًا إلى المدينة المنورة، ويعرف بعض ما جرى لأهله وخصوصًا لأخته (ساجدة) التي اختطفها الجند الأتراك.
ونحسب أنَّ اختيار راوية بهذه الصفات والطبائع قد أسهم إسهامًا بيّنًا في بناء الرواية وتطورها، فغربة الشاب عن البيئة التي وجد نفسها فيها، قد حمل قيمةً إضافية وفنية تمثلت في اكتشاف هذا الراوي لطبيعة حياة البداوة وفي توصيفها والتقاط خصائصها، فالغريب أو المختلف أكثر قدرة على التقاط الاختلافات ممن ألفها واعتادها، وهيأ ذلك للرواية نفسها أن تقتربَ من عالم البداوة بعينيّ (علي الشاهد) وبما يلتقطه من صور وأحداث وتفاصيل يشعر باختلافها عما عرفه أو خبره في حياته السابقة. وقد أدى ذلك حقًا إلى تقديم كثير من المعارف والأحوال الثقافية الخاصة ببيئة الرواية، مع تقدم (علي الشاهد) في الاقتراب منها وتفهم ما أمكنه من مفاهيمها وطبائعها، مع بقائه منشدًّا إلى معاناته القديمة ومآل أسرته وشتاتها، وهذا بدوره عمّق أبعاد الصراع في الرواية وعمق تجربة شخصياتها.
امتدت جغرافيا الرواية إلى جانب بيئتها الأوسع والأوضح (جنوب الأردن)، إلى الحجاز وتبوك (السعودية) وسوريا وفلسطين وتركيا، لتمثيل الجغرافيا العثمانية الواسعة التي انتمت إليها شخصيات الرواية أو زارتها وتفاعلت معها. ويمكن القول إنَّ رواية البداوة والصحراء يغلب أن تجري في جغرافيا واسعة ممتدة مقارنة مع رواية المدينة، ولا تميل إلى الأماكن المغلقة والمنظّمة على نحو ما نجد عادة في روايات البيئات الحضرية الحديثة.
وإذا تجاوزنا الدلالة التاريخية للرواية، وما اختارته من زاوية سياسية دافعت عن رؤيتها وموقفها، وتأملنا الجانب الثقافي الذي أبرزته فإننا واجدون فيها ميدانًا دقيقًا وواسعًا لثقافة البداوة الحديثة، خصوصًا في منطقة شرق الأردن، مع إبراز علاقات مجتمعات البدو بغيرها، فهم أيضًا ليسوا منغلقين على أنفسهم أو منقطعين عمّا حولهم وعمّا هو بعيد عنهم، وقد نظرت الرواية إلى هذا المجتمع في ذاته وفي روابطه مع غيره، مما رسم صورة شاملة لتلك الحقبة ولتلك المجتمعات من جوانب متعددة تتميز بالتنوع والخصوصية والثراء.
وقد رسمت الرواية لوحاتٍ سرديةً ووصفية لأمور كثيرة نشير إلى بعضها في هذه الإطلالة الموجزة؛ فمنها تصوير مواسم البدو ومناسباتهم واحتفالاتهم، في الأعراس والأعياد ودورة الحياة بكل شؤونها وظروفها، ومنها الالتفات إلى الزمن القمري والمعرفة بالنجوم والمواقيت استنادًا إلى الثقافة القمرية مما تتميز به البادية. وهناك لمحات من المعتقدات والإيمان ببعض الغيبيات كالاعتقاد الموسع بالجن، وتفسير كثير من الحوادث التي تصيبهم تفسيرًا غيبيًا يُرجع السببَ إلى الجنّ وما أشبهه من كائنات غير مرئية.
أمّا اللغة الروائية فلقد تميزت بجملة من الخصائص التي جمعت بين اللغة الفصيحة المعاصرة واللغة المحكية التي تعكس بيئة البداوة واللهجات المتنوعة التي تنهض بدور فني في تمثيل الشخصيات. وجاء المستوى الفصيح في مستوى السرد الذي يقدم فيه الراوي أبرز حوادث الرواية، أمّا الفقرات اللهجية المحكية فجاءت غالبًا في مستوى الحوار أو الفقرات التي تنقل أقوال الشخصيات وأصواتها، وقد عكست في سجلاتها اللهجة البدوية بصورة موسّعة، إلى جانب لمحات من اللهجات الريفية ولهجات الحجاز، إلى جانب العربية المكسّرة التي ترد على ألسنة عسكر الترك لتعكس عُجْمة العسكر التركي. ولقد أسهم هذا التنوعُ اللغويُّ في منح الرواية ضروبًا من التشويق والتنوع والحيوية، وجعلها ميدانًا للأصوات المشحونة بالاختلاف، فبدت الرواية ملتقى أصوات ولهجات ولغات تتعاون معًا لتشكيل الجو الدرامي المشحون بالصراع والمخاوف والانتظار.
وفي المستوى اللغوي تنوعات وجماليات متعددة منها أيضًا تنبّه المؤلّف لبلاغة المستوى الشفاهي والمحكي، وإلى جانب اللهجات ومن خلالها، قدّم صورًا من توثيق لوازم الكلام أو العبارات المسكوكة التي يلجأ إليها المتكلم الشفوي لتعينه على تركيب معانيه ورسائله اللغوية والسردية، ويمثل حضور هذه العبارات مستوى آخر ينوع اللغة، ويبرز شدّة تمثّل الروائي لمناخ روايته.
أمّا مفكرة اليوميات التي حرص (علي الشاهد) عليها حرصًا شديدًا فتعود إلى والده الذي أسره الأتراك وحملوه في أحد قطاراتهم، وإذ يقرأ علي بعض يومياتها فإنّها تمدّه بكثير من روح الصبر وتبصّر وعيه بكيفية التصرف الصحيح. ويمكن إبراز وظيفتها في الرواية من خلال دور فقراتها في تثبيت التواريخ وتحديد الأزمنة خصوصًا حول الحجاز والمدينة ومكة، وحول ثورة الشريف حسين، فكاتبُها رجلٌ مثقف ألف تسجيلَ التواريخ والأحداث والتطلعات المهمة التي يسهم الإفصاح عنها في ربط أجواء الرواية بالسياق الأوسع للعصر ولروحه وصراعاته وتقلباته. وأسهمت من ناحية اللغة في تعميق التنوع، إذ أنّها تمثّلُ مستوى اللغة الفصيحة المكتوبة التي تتعارض تعارضًا جماليًا مع مستويات اللغة الشفاهية المحكية.
وحرص المؤلف على تضمين روايته ضروبًا تعكس ثقافة البادية وما يتصل بها من بيئات، ومن ذلك حضور الشعر المحكي، سواء الشعر البدوي الذي يشيع في تلك البادية، أو الشعر الذي تنشده شخصيات تنزل في ضيافة البادية وأهلها، وقد ضمت الرواية فقراتٍ شعريّةً متعددة، باللهجة البدوية، مثّلت بذاتها قدرًا طيّبًا من إمكانات النثر الروائي في استيعاب المادة الشعرية لتندرج في السجل الروائي، وفي أداء دلالات معينة يريدها الكاتب، كما ضمت فقرات من أغاني العتابا والميجنا التي مثّلت جانبًا من التأثيرات والتفاعل مع البيئة الفلسطينية ووصول أغانيها وفنونها إلى شرق الأردن، مع تشجيع الشخصيات على تذوق تلك الأشعار والأغاني ومحاولة استرجاعها واستعمالها، بما يبرز انفتاح البيئة البدوية على المختلف والجديد، دون أن يكون التعرف إليه واستعماله الجزئي سببًا في ترك ما لديهم من موروث متنوع.
وفي مستوى الشخصيات قدّمت الرواية شخصيات متنوعة، من الرجال والنساء، ومن العرب والترك والحجازيين والفلسطينيين والشوام، لتعكس الرواية العصر الذي تمثله والحقبة التي تنتمي إليها، ولم تخلُ من تصوير قصة حب انتهت نهاية راضية بين (علي الشاهد) وابنة الشيخ، وإعجاب القوم به إلى حد تزويجه ابنتهم الجميلة. أما (شاهدة) أخت علي التي تعرضت للاختطاف، فقد ظهرت في نهاية الرواية قد ذهل عقلها ومرض جسدها، لم يكد أخوها يتعرّف عليها، ولم يطل بها المقام بين أهلها، حتى لحقت بالضحايا الذين رحلوا في هذه المسيرة الموجعة.
ومن الشخصيات الأخرى البارزة شخصية (محمد الهلّي) الذي بدا أشبه بالأبطال الجوّالين، والصعاليك الشرفاء، فهو يتنقل في البراري من مكان إلى مكان لينتصر للضعفاء ويقيم الحق والعدل بطريقته الخاصة، في ظل غياب الدولة وغياب الأمن، إلى جانب بغضه لسياسات الدولة التركية في عهدها الأخير. وهناك شخصية (الدوّاج) الآتي من فلسطين، يدورُ من بلد إلى بلد، ويزور فيما يزور تجمعات البدو قادمًا من فلسطين، وفي رحلته يتّجر معهم بما يحمله من الزيت والزيتون ونحو ذلك، إلى جانب أداء بعض النشاطات التمثيلية وألعاب التسلية بمعونة ابنه والقرد المدرّب الذي يصطحبه، فيقيم عرضًا أو (سيركًا) مسلّيًا في البرية التي تحتاج إلى بعض اللهو في مواسمها الصعبة القاسية.
تنتهي الرواية نهايةً مفتوحة، ببعض الرضا المشوب بالألم، ذلك أنَّ التاريخ لا يتوقف بل تبدأ حياة متجددة، عبّرت عنها تأملات (علي الشاهد) وهو يعود من المدينة ليقطع المسافات ويرجع إلى زوجته (صفية) التي تركها في مكان آمن قريبا من (تبوك). والفقرة الأخيرة من الرواية تعبر عن المسار الذي لم ينته بعد، بل ما زال ممتدًا بعيدًا بعيدًا: "أشجار طلح وغضا ونخيل، ودروب صحارى الرمل تتوالى وأسراب طيور... وراحلتي يواجهها ظمأ القفار وقلة المؤونة... فالمسار يبدو بعيدًا ...بعيدًا".
*شاعر وناقد أردني