د. عماد الضمور/ أكاديمي أردني
تُعدّ علاقة المبدع بالمكان من العلاقات العميقة التي ترتبط بدلالات نفسيّة، ووجوديّة وتاريخيّة وإيمائيّة، يصهرها المبدع في نسيجٍ جماليّ يُؤسس للامركزية الإنسان في العالم. ويمكن تعريف المكان الفني بأنّه:" مكان من صفاته أنَّه متناهٍ، غير أنّه يحاكي موضوعاً لا متناهياً هو العالم الخارجي، الذي يتجاوز حدود العمل الفني"(1).
كما أُعطي المكان بُعدًا فلسفيًا، فأصبح " هو ما يحلّ فيه الشيء، أو ما يحوي ذلك الشيء، ويحدّه، ويفصله عن باقي الأشياء"(2). كذلك تمّ تقسيم المكان إلى" المكان التصوري، والمكان الإدراكي الحسيّ، والمكان الفيزيائي، والمكان المطلق"(3).
نجح الروائي الأردني سليمان القوابعة في إبداع رواية فنيّة تمتاز بتشكّلاتها المكانيّة ذات الرؤى الفكريّة الخصبة، حيث أمسك بالظاهرة المكانيّة، وأدرك فاعليتها، فضلًا عن وعيه العميق للكيفية التي بها يمارس المكانُ حضوره، وقوتَه المعرفيّة، حيث تتشظى الذاكرة المرتبطة بأفق المبدع؛ لتأسيس ذاكرة جديدة، تعيد إنتاج العلاقة داخل النص الروائي.
احتلّ الجنوبُ مكانةً مهمة في إبداع القوابعة، ينطلق من موروثه الخصب، وتضحيات ساكنيه، فكان منبعًا صافيًا لإبداعه الروائيّ، يحرره من قيود الواقع، ويمنحه القدرة على مواجهة التحديات، الأمر الذي انعكس على لغته الروائية وأخيلته الممتدة في ثنايا المكان وعبق الزمان، كما في روايته " دروب الرمل" حيث التساؤل الحائر، والتأمل المشبع بالأفكار:" لا أدري كيف تحاصرني حالة من الضيق، وأنا أقلّب بصيرتي بين مواقع من هذه البراري العجيبة التي يشغلها صمت لم يمرّ بي من قبل، فكيف يلتقيه ساكنوا هذه الديار، وهل لهذا الصَّمت إيحاء يقدم ما في سرّه ولا يأخذ، وهو يلتقي أنبياء ورسلا مرّوا من هنا كما يُقال...؟" (4).
يقع المتلقي لروايات القوابعة تحت هيمنة التخييل التاريخي الذي جاء بديلًا للرواية التاريخيّة في أطرها التقليديّة، حيث نقف في رواياته أمامَ شخصياتٍ تاريخيّة ذات دور مؤثر في الأحداث، فثمة فرق كبير بين ما كتبه عقيل أبو الشعر عامَ 1912 في رواية ( الفتاة الأرمنية في قصر يلدز) وبين ما كتبه القوابعة؛ فما كتبه أبو الشعر يندرج تحت الرواية التاريخيّة التي انشغلت بالحديث عن الحكم العثماني وتداعياته السياسية، وبلغة تاريخية بعيدة عن المتخيّل السرديّ.
لعلّ ما أبدعه القوابعة في رواياته جاء أكثر نضجًا وتخييلًا بعدما أسّس لمرحلة جديدةٍ ناضجةٍ في السرد الروائي؛ تجعل من الحدث التاريخي استجابةً فاعلةً لعمق التحولات الفكرية التي يشهدها الواقع.
ولعلّ المكانَ بثباته الجغرافيّ يعكس أبعادًا فنيّة مختلفة في العمل الفني تتلبس بأبعاد نفسيّة واضحة، حيث يتجاوز المكان ثباته الواقعي إلى شكل فني مبدع، يرسم الكاتب من خلاله تلون النفس بإيقاعات الواقع؛ لذلك تنبه القوابعة إلى أهمية المكان في إبداعه القصصي، بوصفه يحتوي الزمن، وبؤرة لانطلاق الخيال والذاكرة؛ رغبة في الإمساك بلحظات الحياة المتشظيّة في الذات.
يمتاز عالم سليمان القوابعة الروائي المولود في مدينة الطفيلة/ جنوبي الأردن، بأنّه عالمٌ إبداعيٌّ خصب، ينطلق من مرجعية تاريخيّة وجغرافيّة واسعة، وبخاصة بجنوب الأردن، فقد أصدر في هذا المجال المؤلفات التالية:" الطفيلة موجز في جغرافيّتها التاريخية" عام 1985م، و" الطفيلة ، تاريخها، وجغرافيّتها" عام 1986م، و" فضاءات عربية( ضانا ساعة الضحى) عام 2002م، و" الثورة العربية الكبرى" عام 2008م، و" الجنوب التاريخ والإنسان/ محافظة الطفيلة" عام 2008م.
إنّ هذا الوعي الحقيقي بالمكان أسّس وعيًّا فنيًّا انعكس في أعمال سليمان القوابعة الروائيّة، لذلك لم تكن فكرة المكان غائبة عن ذهنه، وبخاصة فترة أواخر الحكم العثماني، وما تبعه من أحداث الحرب العالمية الأولى واستعمار للبلاد العربية.
وفي الحياة العملية، عمل القوابعة مُدرسًا في مدينة الطفيلة (1969 ـ 1975م) ثم أُعير لدولة المغرب؛ ليُدرس في معهد محمد الخامس للتعليم الأصيل بـ( تارودانت/ عمالة أغادير) لفترة (1976- 1980)م ـ
وهي فترةٌ خصبة انعكست في إبداع القوابعة الروائيّ، الذي نجده يكتب كلمة عابرة، في بداية روايته "حوض الموت" يُفصح فيها عن مكانيّة إبداعه للرواية حيث يقول عن روايته " حوض الموت":" إحدى مخطوطتين من نتاج عام 1979م، إحداهما بعنوان( صمت آدوم، وحوض الموت) أردنية الحدث. والثانية ( الرقص على ذرى طوبقال) مغربية الحدث... ورغم الوقت وبعد خمسة عشر عاماً فإنني أُقدم إحداهما للطباعة والنشر بعنوان( حوض الموت)"(5).
في روايته " الرقص على ذرى طوبقال" الصادرة عام 2012م، يوغل القوابعة في الكشف عن السفر بوصفه رافدًا معرفيّا ومنبعًا ل"إبداعه الروائي"، فكان شمال إفريقيا فضاءً لعالمه الروائي، وكاشفًا عن حالاته الإبداعيّة، بعدما عمل في المملكة المغربية معلمًا لمادتيّ التاريخ والجغرافيا، حيث أقام هناك ما يُقارب خمسَ سنوات ( 1976 ـ 1980)، كانت كفيلة بتوهج البعد القومي في رواياته، وإقامة علاقة حميمة: " بين تلطف الأهل والأصدقاء مع طيب معشرهم الذي لا أنساه ما حييت... وما زالوا يتواصلون معنا وبإصرار، ومن خلال السفر والترحال، هناك حيث ركائز كريمة من تاريخ رائع، وإطلالة لقمة جبل طوبقال الصاعدة من الأطلس الكبير وهي أعلى قمم الوطن، فطاف بنا المخيال، وكأنّنا نشاهد أبعاد الوطن من رأس الخيمة شرقًا وأبعد.. إلى المغرب حيث المحيط الأطلسي وجزر الخالدات التي هي جزر كناري عند غيرنا"(6).
لعلّ الإنسان والمكان الأردني وظروف الحياة القاسية دعائم ملازمة لروايات سليمان القوابعة، لذلك فإنَّ أسلوب السرد التاريخي جاء واضحًا في رواياته التي تكشف عن وقفاتٍ تاريخيّة مهمة، تعكس اشتغال النص السردي بتوظيف الحدث التاريخي في حقب زمنيّة مختلفة، حيث يقوم الروائيّ بصهرها في قالب روائيّ يبدو مرآة لانتمائه الفكريّ، وتعلقه بوطنه الكبير.
يبدو التخييل التاريخي حاضرًا في روايات القوابعة، حيث رؤية التاريخ من خلال البعد السرديّ الذي يجعلنا نقف أمام معادلة مهمة طرفيها السرد الأدبي من جهة، والسرد التاريخي من جهة أخرى.
إنّ القوابعة لم يكتب التاريخ بوصفه خبرًا بل بوصفه حكاية قابلة للسرد بلغة الرواية وأدواتها، يبني روايته على رؤية خاصة توغل في تصوير الإنسان والمكان والحدث، وكأنّه أراد لرواياته أن تكون سجلًا حافلًا لمشاهد تاريخية قابلة للتشكّل الفنيّ، وتقديم صورة مشهديّة عن الإنسان العربي في حالاته المختلفة، ونوازعه النفسيّة الدفينة.
يمضي القوابعة في روايته" دروب الرمل" الصادرة عام 2017م مستحضرًا ذاكرته السرديّة في سياق روائي وبلغة انزياحيّة عن الواقعيّ والتاريخيّ، وذات قدرات إيحائية منفتحة على التعدد في المعنى، يتحرك من خلالها في فضاء المعنى، وتحولات اللغة العميقة؛ ليضعنا أمام محطة تاريخية مختلفة، وسياق سرديّ جديد، له نصيب من التخييل دون مفارقة الواقع جاعلًا من السرد إشكالية فكرية ذات طاقة إبداعية واضحة، كما في حديث (يحيى عبدالرحيم) لنفسه المتعبة:" هي المسافات الخجولة تحملنا مع الرَّمل والريح، فتشاغل مَن تلقاه في طريقها، ولا فرق في أن تكون شرقيّة أو غربيّة، أو هي من لون رياح السموم، تلحق بنا، وتربك سائق الشاحنة، وأنا مثل مريض الحمّى يرعشه ما جرى له في ليلة من ليالي سجن المحطة، واليوم أجد نفسي محشورًا في بطن شاحنة مقيّد اليدين مخفورًا بحارسين مع غيري عبر طريق صحراويّ يُوصلنا إلى بلدة جبلية ليس لها من السهول نصيب"(7).
في روايته" دروب الرمل" يخلق القوابعة شخصياتٍ ثانويّةً لم تكن موجودة في الواقع، بهدف إضاءة جوانب جديدة، وهذا جانب مهم في تجربته الإبداعية، أتاح له التوسع في السرد، ومنح تجربته الإبداعية بعدًا فكريًّا حرّره من قيد التاريخ، وصخب الأحداث، وأخرجه من التوثيق التاريخي إلى التشويق الفني، فهو محكوم بجماليات فنيّة تعوض ما يغفله التاريخ، كما في تصويره لشخصية سامح عندما التقى مخياله القديم :" كيف تأتي للمخيال مواقف غائبة على غفلة، فتبدو مثل ومضة تستوقف حاضر الوقت وتقطع الطريق عليه لتتصدّر الحديث من جديد...؟. سامح الأحمد ويحيى عبدالرحيم وحدهما في تلك الغرفة، وبينهما إبريق الشاي، وسامح يواصل ابتلاع دخان سيجارته بنهم، بصره يجتاز النافذة نحو فضاء بعيد، ومن فم يحيى بدأ السؤال"( 8).
يكشف إبداع القوابعة الروائي عن طفولته في جبال الطفيلة، وموروثه الشعبي الذي استقاه من حديث الجدات عن الظاعنين وهم يحملون قِرَب الزيت إلى قناديل الخليل، وعن رحلة المناضلين إلى فلسطين، لذلك فهو يرى في شهادته الإبداعية " أن رواية حوض الموت تثق بدور الإنسان الذي يتحدّى البؤس وأيام الجفاف، يواجه صخب الطبيعة وجبروتها في بلاد الثلج إذا غضب الشتاء، وفي ليالي العطش إذا توالت المحول"(9).
ينوّع القوابعة في طرائقه السرديّة؛ فهو تارةً ينطلق من الراوي فينقل لنا وجهة نظره دون تأويل، وهكذا الحال في سرد الحدث التاريخي، وأخرى عبر شخصيات فاعلة من خلال حواراتها التي تدور حول الحدث نفسه، " فالرواية التاريخية تزاوج عادة بين الشخصيات التاريخيّة، والشخصيات المتخيّلة إلا أن الأمر لا يقف فيها عند هذا الحدّ، وإنما يتجاوز إلى ظاهرة أخرى هي إسناد أعمال لا تاريخية إلى الشخصيات المتخيّلة "(10).
إنّ الكيفية التي تناول فيها القوابعة البيئة الأردنية في رواياته جعلته يُجيب عن أسئلة الإنسان، وأسئلة الواقع، لما يكتنزه من غنى، وتعدد واضح، وبخاصة عندما يوغل القوابعة في تسليط الضوء على مرحلة تاريخية تتقلص فيها قيم الحياة، لتسطع شخصياته بواقعها المرير، وتضحياتها الكبيرة، لذلك يجد متلقي روايات القوابعة نفسه أمام نضجٍ فنيّ وموضوعيّ، شكّل ملمحًا مهمًا لتجربته الروائيّة.
هوامش الدراسة
1 ـ يوري لوتمان: مشكلة المكان الفني، تقديم سيزا قاسم، مجلة ألف( مجلة البلاغة المقارنة) القاهرة، الجامعة الأمريكية، العدد السادس، 1986م،ص88.
2 ـ مصطفى الضبع: استراتيجية المكان، القاهرة، 1998م، ص 60.
3 ـ يمنى طريف الخولي: إشكالية الزمان في الفلسفة والعلم، مجلة ألف، العدد السادس، 1986م، ص13.
4ـ سليمان القوابعة: دروب الرمل، الآن ناشرون وموزعون، ط1، 2017، ص 27.
5.سليمان القوابعة: حوض الموت، ط1، جمعية عمّال المطابع التعاونية، عمّان، 1994م، ص4.
6 ـ سليمان القوابعة: الرقص على ذرى طوبقال، طبع بدعم وزارة الثقافة،2012م، ص10.
7 ـ سليمان القوابعة: دروب الرمل، ، ص 50.
8 ـ سليمان القوابعة: دروب الرمل، ص74.
9 ـ سليمان القوابعة وآخرون: عروش الروح ( شهادات إبداعية)، ط1، إعداد وإشراف رابطة الكتّاب الأردنيين، منشورات وزارة الثقافة الأردنية، 2003م، شهادة إبداعية للروائي سليمان القوابعة، ص 154.
10 ـ محمد القاضي: الرواية والتاريخ ( طريقتان في كتابة التاريخ روائيًّا) مجلة علامات في النقد، مجلد(7)، جزء (28)، 1998م، ص121.