الدكتور عبد الله الكساسبة*
سليمان القوابعة هو واحدٌ من الروائيين الأردنيين المعروفين الذين برزوا في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث يتمتع بموهبة أدبية مميزة، لا سيّما في مجال الرواية، ومما زاد في أهمية رواياته أنَّها حملت الهم الوطني والقومي سياسيًّا واجتماعيًّا، فمن أعماله الروائية: جرح على الرمال، شجرة الأركان، حوض الموت، الرقص على ذرى طوبقال، ومنها روايتان مغربيتان في أحداثهما وشخوصهما ومكانهما: شجرة الأركان، والرقص على ذرى طوبقال، إذ عبرت الروايتان عن الهمِّ المغربي في فترة عصيبة مر بها المجتمع المغربي أثناء الاستعمار الفرنسي.
حفلت معظم روايات القوابعة بقضايا هموم الوطن والأمة والقضايا السياسيّة: الوطنيّة والقوميّة، فجاءت مسكونةً بعرض جوانب الاضطهاد السياسي الذي يعاني منه الإنسان العربي، وبالأخص في الأردن وفلسطين والمغرب العربي، والمتمثلة في الاستبداد والظلم والقمع والتعذيب والاستلاب. فكان التطلع إلى الحرية والاستقلال، ومقاومة الاستعمار الفرنسي، والحكم العثماني التسلطي، والصهيونية، هو أمرٌ واجب على كلِّ فرد عربي ومسلم، وكاتب روائي ملتزم.
وقد نال جائزة الرواية العربية في المغرب لعام 1978م، واستطاع أن يوظف التقنيات الحديثة في بناء رواياته؛ ومن هذه التقنيات تقنية التناص بجميع أشكالها وعناصرها، بكثافة عالية جدًا في روايتيه "حوض الموت، والرقص على ذرى طوبقال"، إذ لم تُقحَم إقحامًا بل جاءت في مواقعها.
التنـاص في روايات سليمان القوابعة
التناص مصطلح أوروبي حديث، برز في أواسط الستينيات من القرن العشرين، وكان يعني التعالق؛ أي الدخول في علاقة بين نصٍّ أدبي ونصوصٍ أخرى مختلفة. "الزعبي، أحمد: التناص (مقدمة نظرية مع دراسة تطبيقية).
ويعني عند رائدة هذا المصطلح (جوليا كرستيفا): «النقل لتعبيرات سابقة أو متزامنة، أو هو «اقتطاع» أو «تحويل. وتضيف (كرستيفا): «إنَّ كلَّ نص يتشكل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهادات، وكل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى»، ثم توضح أن التناص يندرج في إشكالية الإنتاجية النصية التي تتبلور في عمل النص، وهو نصٌ منتج بمعنى أن النص يتشكّل من خلال عملية إنتاج من نصوص مختلفة. ( مرتاض عبدالملك، في نظرية الرواية ص107)
وفي النقد العربي القديم يأخذ التناص معنى الاقتباس القرآني تارةً، وتارةً يأخذ معنى التضمين؛ أي الأخذ عن النصوص الأخرى المختلفة التي تدخل في المخزون الثقافي للأديب.
والتناص في أبسط صوره يعني: «أن يتضمن نصٌّ أدبي ما نصوصاً أو أفكاراً أخرى سابقة عليه عن طريق الاقتباس، أو التضمين، أو التلميح، أو الإشارة، أو ما شابه ذلك من المقروء الثقافي لدى الأديب، بحيث تندمج هذه النصوص أو الأفكار مع النص الأصلي، وتندغم فيه ليتشكل نصٌّ جديدٌ واحدٌ متكامل. ولا تبتعد تعريفات أعلام مفهوم التناص أو روّاد هذا المصطلح كثيرًا عن هذا التعريف المبسط، وإن كان هؤلاء يتفاوتون في رسم حدوده وتحديد موضوعاته ما بين متطرف ومعتدل" (الزعبىي، أحمد: التناص، مقدمة نظرية مع دراسة تطبيقية، ص4"
ومن الجدير بالذكر فيما يتعلق بالتناص أنَّ مفهومه ليس جديدًا تمامًا في الدراسات النقدية المعاصرة كما يرى بعض الباحثين في هذا المجال، وإنما هو موضوع له جذوره القديمة في الدراسات النقدية، لكنّه بتسميات ومصطلحات أخرى، فالاقتباس والتضمين والاستشهاد والقرينة والتشبيه والمجاز وما شابه ذلك في النقد العربي القديم، هي مسائل تدخل ضمن هذا المفهوم (التناص) في صورته الحديثة.
وكذلك الحال عند النقاد الغربيين القدماء، فمصطلح المحاكاة والاستعارة، وتوظيف الأسطورة والتضمين تدخل أيضًا ضمن هذا المفهوم في الدراسات الحديثة.
والفارق أن مفهوم التناص في الدراسات الحديثة قد تشعب واتّسع، وأُضيف إليه عناصر جديدة وموضوعات تناصيّة أخرى كثيرة لا مجال لذكرها هنا.
وإذا أراد الكاتب توظيف التناص بإبداعاته يستحضرها من مخزونه الثقافي إلى نصّه الأصلي، لوظيفة فنيّة أو فكريّة منسجمة مع السياق الروائي، سواء أكان التناص نصًّا دينيًا أو تاريخيًّا أو أدبيًا أو غيره، ويمكن أن يكون هذا التناص مباشرًا أو غير مباشر كالتلميح أو الإشارة أو الرمز.
ولا تخلو روايات القوابعة من هذا المصطلح النقدي الحديث (التناص)، ولا سيّما في روايتيه: "حوض الموت، والرقص على ذرى طوبقال". ومن نماذج التناص في روايات القوابعة:
أ- التناصّ القرآني:
ويعني التناص الذي يأتي عبر ( الاقتباس) أو الأخذ عن آيات القرآن الكريم بشكل واضح ومباشر، فيما يُطلق عليه بالتناص المباشر أو الظاهر؛ لأنّه يخضع لعوامل الحفظ الذي ينشأ عنه بالضرورة اجترار النصوص المحفوظة. (مرتاض، عبد الملك: تحليل الخطاب السردي).
استلهم القوابعة بعضَ النصوص القرآنية بين ثنايا نصوصِه الروائيّة، فوسم لغته الروائية ببعضٍ منها، فشاعت أكثر هذه النصوص القرآنية في روايتيه: "حوض الموت والرقص على ذرى طوبقال"، وبرز ذلك على امتداد السرد فيهما، مؤدية بذلك وظيفة بنيوية.
ومن الأمثلة على التناصّ القرآني في رواية حوض الموت: ما ورد عن عقيد القوم وهو يصفُ حوض الموت(الطفيلة) عندما غزاه ومعه أخلاط من أقوام شتى: "عقيد القوم نقل وجهه من السرج إلى الحوض القاتم نظر المغشي عليه من الموت… واستنطق من حوله…". (حوض الموت، ص: 8.) فهنا يصف هذا الحوض، بأنّه حوض بائس يكتنفه غموض كغموض البحر، وحينها يسيطر اليأسُ والخوف على الغزاة، فيرجعون خائبين.
وهنا استحضر الكاتب النصَّ القرآني الوارد في الرواية من قوله تعالى: ( رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ )(20) . (سورة محمد، آية:20.)
وورد في وصف الكاتبِ لأساليب التعذيب من قبل الأتراك لأهل حوض الموت: «والترك على خيولهم في مداخل الأرياف والدروب يسوطون الناس سوط عذاب…». (الرواية، ص: 11.) وقد استلهم الكاتب قوله تعالى الوارد في النص: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) (سورة الفجر، آية :13.)
وجاء في الرواية على لسان شيخ الجن وهو يصف البلدة قائلًا: «يا عابر السبيل… تصبّر… تبصّر… أن لا تخف… هذه بوابة الفردوس خُلقت لمن خلط جرحه بجرح الوطن، يقينًا، فهل تطيق معي صبراً؟… وأنَّ الساعةَ آتيةٌ أكاد أخفيها…فهل تندم؟». (الرواية، ص: 27.) وقد استلهم الكاتب بعض النصوص القرآنية الواردة في النص من سورة الكهف، قوله تعالى: (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) (72). (سورة الكهف، آية: 72). وقوله تعالى: ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ ( (سورة طه، آية: 15).
كما جاء في وصف أثر إحدى الغزوات على البلدة (حوض الموت) من شدة هولها ووقعها على الناس، حتى أنَّ البلدة لم تنم مما أعقبته هذه الغزوة من مصائب على الناس، لكنَّ تكاتف الناس مع بعضهم بعضًا جعلهم يصدون الغزاة والمهاجمين: «نهض الخيالة، وشدّوا أطراف الكوفيات ثلاثة أيام حسومًا وقيل ثلاثة أيام وثلث…في وسط ظلمات بحر لُجيّ مُدلهم لا يستبين الرجل رمحه… والجثث تناثرت في كل مكان بلا رؤوس مثل أعجاز نخل خاويّة…» (الرواية، ص:25.)
فقد استحضر الكاتب قوله تعالى: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ).( سورة الحاقة، آية: 7.) و( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ )(40) (سورة النور، آية: 40).
ـكما ورد على لسان علي بن القف عندما سأله بعض الجالسين عن تاريخ بناء مسجد ابن الحنفية: «ليس هناك في البلدة سوى مسجد من حجر وطين… بُني على أثرٍ من ابن الحنفية يوم نفذ من مكة أيام المحنة… وانتبذ مكانًا قصيّا، فاعتصم في بلاد الجبال، قال ابن القف: «ابن الحنفية… استقر هنا… وكان يبدو لمن يراه نداءً خفيّا حتى عظم الأمر، وعلى أرض صومعته بني المسجد».( الرواية،ص:33) وهنا استحضر الكاتب قوله تعالى:( فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ). (سورة مريم، آية: 22)، وقوله تعالى من السورة نفسها: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا)(سورة مريم، آية: 3).
والأمثلة في الرواية كثيرة من التناص القرآني.( حوض الموت، انظر ص: 14، 33، 54، 62، 85، 89، 116، 117، 198، 205.)
وفي رواية الرقص على ذرى طوبقال أمثلة أخرى من التناص القرآني، ومنها على سبيل المثال: فقد جاء في الرواية على لسان الراوي/ البطل عندما قام جندٌ من الفرنسيين ورموا كتاب الله تعالى على الأرض، فغضب (مدين) غضبًا شديدًا وصرخ في وجه الجند وتحداهم قائلاً: "صرخت بأعلى الصوت في وجه كبير العسكر: أقسم بالخنس الجواري الكنس، والليل إذا عسعس…أنّني سأمثلُ في المركز كلّ يوم قبل الشمس كي أعمل وكي ألقاك… أتحداك… فهل تأتي…؟؟!. (الرقص على ذرى طوبقال، ص: 123) فاستلهم الكاتب قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (١٧))(سورة التكوير، آية: 15، 16، 17.) وورد على لسان القرين المتوهم وهو يخاطب مدين: «ها، هاه، الله… وكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد». فاستحضر الكاتب قوله تعالى: (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ( (سورة ق، آية: 22).
ـومن الأمثلة الأخرى ما جاء على لسان البطل / الراوي وهو يخاطب نفسه/ مونولوج داخلي عندما وجدوا والده ميتًا قي قادوس:« تّشّقُ الليل ألسنة دخان… والنجم والشجر يسجدان … الوادي والريح يسجدان… الرياحي والقادوس يلتقيان…».(الرواية، ص: 203.) وقد استلهم الكاتب قوله تعالى: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ )، و( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ *)(سورة الرحمن، آية: 6، 19.)
والأمثلة في الرواية من التناص القرآني كثيرة.( الرواية، انظر ص: 16، 39، 70، 98، 123، 150، 166، 194، 214.)
****
كما استلهم الكاتب بعضًا من قصص القرآن الكريم، فقد استحضر الكاتب قصة أهل الكهف في رواية "الرقص على ذرى طوبقال"، فقد ورد على لسان الراوي: "… بين الكثبان والتلال أناسٌ… وتقلبهم الشمسُ، بغضب رمضائها، ذات اليمين وذات الشمال… يلتفتون إليها بجرأة فيقلبونها وهي راكدة في كبد السماء…».( الرواية، ص: 115.)
وفي هذا النص إشارة إلى معاناة الناس في الصحراء من قسوة الحياة فيها وشدة حرارتها، ومن ضمنهم المناضلون ضد جنود الاحتلال، فأينما يتوجّه الناس في الصحراء تبقى المعاناة نفسها.
وقد استحضر الكاتب هنا قصة أهل الكهف: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ۚ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) .( سورة الكهف، آية 18.)
ب- التناصّ التراثي:
وظف القوابعة الكثير من الموروثات الشعبيّة في رواياته، وبالأخص روايتيه: "الرقص على ذرى طوبقال وجرح على الرمال" كالأدب الشعبي: الحكايات الشعبية والأمثال والأغاني والمعتقدات الشعبية. وقد أعطى رواياته نكهةً شعبيّةً مُتكئاً على مخزونه الثقافي، ليكشف لنا الانتماء إلى الأرض التي أقلت أهلها والسماء التي أظلتهم. وقد جاء ذلك بلغة مرسومة بصورة شفافة.
فمن الأدب الشعبي ما جاء في رواية "الرقص على ذرى طوبقال" على لسان البطل الراوي، وهو يتخيل عشيقته (ميري) في السكن، وهي تهمس في أذنيه لتودعه في جوف الليل، يقولُ لها: «لقد دنا الليلُ من فجره… فهاتِ ملحة الوداع». (الرقص على ذرى طوبقال، ص: 74.) وهنا استحضر الكاتب هذه العبارة من كتاب الإمتاع والمؤانسة التي جاءت في آخر حكاية الليلة الحادية والثلاثين. ( أبو حيان التوحيدي" محمد بن علي بن العباس": الإمتاع والمؤانسة، ج3)
وورد على لسانه وهو يصغي إلى (ميري) وهي تتحدث عن الحضارة والتحضر، وعن زوجها، فيمل منها ويسخر من حديثها ويطلب إليها أن تعطيه شيئًا من الراحة: «زمت شهرزاد شفتيها بإلحاح… وسكتت عن الكلام المباح».( الرواية، ص: 92.) وهنا استحضر الكاتب الجملة المتكررة في آخر كلِّ حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة؛ «وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح».
وفي رواية "حوض الموت" استطاع الكاتب أن يوظف حكاية "تغريبة بني هلال" ولو بإشارة عابرة من بعيد لنصّه الروائيّ، فقد طلب عوض بن خلف من جدعان بن عاتب أن يحدثه عن «تغريبة بني جبال»، (حوض الموت، ص: 164.) وهنا يربط الكاتب هذه الحكاية بـ «تغريبة بني هلال» إلى شمال أفريقيا.
ومن أشكال التناص الأخرى لدى الكاتب في رواياته توظيفه للأحداث التاريخيّة ورموزها والأعلام والشعر، ولو بإيماءةٍ من بعيد. واستطاع أن يجعلَ من شخوصه متحدثين عن أثر الوشاية والجاسوسية في تدمير البلاد وسقوطها، في حين أن الاتحاد قوة للجميع.
فعلى سبيل المثال ما جاء في رواية "الرقص على ذرى طوبقال" من حكاية المعتمد بن عباد: «وشيخٌ بعمامة جلس على كرسيٍّ يتحدث في مدار حلقة… مؤلمة جدًا عذابات الوشاية… نعم… ابن تاشفين وقبل خمسة قرون هرّب المعتمد بن عباد من إشبيلية إلى المغرب…جردوه من ملكه، أبقاه مطعون الخاطر في سجن (آغمات) بمراكش مُقيدًا بسلاسل وكرات حديد، يعيش على فتات من عرق بناته وزوجته الرميكية… يغزلن الصوف بأجر…آه…آه… ومات ابنُ عباد الفارس صبرًا؛ بسبب وشاية مخبر، أو بصّاص… يا سادة… !». (الرقص على ذرى طوبقال، ص: 61.)
فقد استحضر الكاتب هذه الحادثة التاريخيّة وربطها بحكاية العملاء والوشاة والمخبرين والبصّاصين لصالح المحتل الأجنبي، ولاسيّما الرياحي بن ميلود-أبو مدين- وأعوانه.
وشبيه بهذه الحكايات التاريخيّة، حكايات بو سعيد الأعمى للأطفال: "بو سعيد الأعمى كان يحكي لطفولتنا عن ألف ليلة وشهرزاد… يتبعها ليلة عن غزو الرومان وأخرى عن التتار، وقد ذبحوا بغداد بسرٍّ من الوزير ابن العلقمي…" وفي لحظة حزن يُحدّثنا عن احتلال غرناطة وخيبة أبي عبدالله الصغير حين بكى.(المصدر نفسه،ص:75.)
وكذلك جاء الكاتب بقصة (أبرهة الحبشي) عندما غزا الكعبة، فقد كان يعتمد على جاسوسه ( أبو رغال)، الذي دلّهم على مكة، لكن الجاسوس مات في (المغمس) بين الكعبة والطائف ورجمه الناس. يقول الراوي البطل على لسان رجل طاعن في السن: « أه… يا حضار… أسمعتم بسيف بن ذي يزن يوم اهتزّ للوطن… امتشق السيف… انطلق مع السرى في حومة الوغى ينوي تحرير تربة اليمن…التقى خصمه في بداية النزال…نعم، نعم، التقى البطلان كأنّهما جبلان… فاستمر الضرب والطعان إلى أن وصل الدم حدَّ الركب… ابن ذي يزن وقومه إذ توحدوا يا سادة يا كرام، أزاحوا الظلم والبؤس عن بلادهم فخف عنهم الوجع…». (الرقص على ذرى طوبقال، ص: 100.)
لقد استحضر الكاتب هذه الأحداث التاريخية من الماضي على لسان شخوصه ليأخذَ منها المستمعون الدروسَ والعبرَ من الماضي إلى الحاضر، ويربط ذلك بحكايات الوشاية وأثرها في سقوط بعض الدول واستمرار الاحتلال أحيانًا، ويقارن ذلك مع حكاية (سيف بن ذي يزن)، كيف اتحد معه قومه وحرروا بلادهم، فبالعزم والتصميم والاتحاد تمكنوا من مقاومة الغزاة وطردهم.
كما تحدث الكاتب عن رموز تاريخيّة موروثة على لسان البطل الراوي: "فالوهم ما زال يسيطر على الجنرال (جاكوب) في سيطرته على رجال المقاومة، فكان يكابر أنَّه ما زال مسيطراً عليهم". وهنا استحضر الكاتب أحدَ الرموز التاريخية القديمة وهو (يوشع):
«ربما صدّق… أنَّ (يوشع) حاول أن يسبتَ فأوقف الشمس… ذبح أريحا، وداس رمادها…» (المصدر نفسه، ص:154.)
ولم تخلُ رواية "الرقص على ذرى طوبقال" من شطر بيت من الشعر أو مقطع، وذلك لما يحمل الشعرُ من دلالاتٍ وإيحاءات نفسيّة تتناسب وبنيةَ الرواية، سواء أكان الشعرُ قديمًا أم حديثًا. فمن الشعر القديم ما جاء على لسان (بو عرام) وهو يخاطب مدين: « … من… يا ساهر البرق، مساحة الهم تكبر…أيقظ ابن حسون… أيقظ راقد السمر…». (الرقص على ذرى طوبقال، ص: 107.) وهنا استلهم الكاتب بيتَ أبي العلاء المعري ( أحمد بن عبد الله بن سليمان) المشهور:
- "يا ساهرَ البرق أيقظ راقدَ السّمُر لعلَّ بالجزع أعوانًا على السهر"ِ.( المعري، أبو العلاء ديوان سقط الزند).
وجاء كذلك في الرواية: "… جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل…" !!( الرقص، على ذرى طوبقال، : 181.)
وقد استلهم الكاتب هذا البيت من مطلع موشحة الشاعر لسان الدين بن الخطيب المشهورة، الذي عارض فيها موشحةَ ابن سهل الإشبيلي، وفيها يمزج المدح بالغزل ووصف الطبيعة:
- "جادك الغيث إذا الغيثُ همى يا زمانَ الوصلِ بالأندلس".
استلهم الكاتب بعضَ النصوص القرآنيّة والتراثيّة، إلى جانب بعض الأحداث التاريخية، فكانت عنصرًا أساسيًّا في بناء رواياته، فقد جلبت تلك النصوص معها بعض المعاني، وخلقت صلةً بينها وبين العمل الجديد مما شكل تعزيزًا للغة الروائية.
ومن الواضح أنَّ جميع هذه العناصر التناصية لم تُقحم على الروايات بل جاءت في مواقعها، فأسهمت في البناء الفني والتحمت مع الأحاديث وانسجمت معها بحرارة.
• كاتب وناقد أردني