د. غسان إسماعيل عبد الخالق
يبدو أنَّ هناك ما يشبه الإجماع على أنَّ أدب السّجون في العالم، يبدأ مع (عزاء الفلسفة) لبوئتيوس، ويمرّ بـ(الكوميديا الإلهية) لدانتي و(دون كيخوتة) لسرﭬانتيس. ولا تعوزنا الأدلّة في الأدب العربي للزعم بأنَّ غير قليل من أدبائِنا القدامى قد اصطلوا بنار السِّجن أيضًا، بطريقة أو بأخرى، ولسبب أو لآخر، وعبّروا عن هذه المحنة بأساليبهم الخاصة التي راوحت بين الشعر والنثر. ومع ضرورة النظر بعين الاعتبار الشديد إلى سمة السردية الطاغية في موروثنا العربيّ بخصوص تجربة السجن، فحسبنا أن نشير على هذا الصعيد إلى تجربة أبي فراس الحمداني الذي سلخ في سجن الروم أعوامًا عديدة تمخّضت عن (أراك عصيّ الدمع شيمتك الصّبر) و(أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ) على سبيل المثال لا الحصر، وحسبنا أن نشير أيضًا إلى تجربة أبي العلاء المعرّي الذي سجن نفسه خمسين عامًا في دهليز داره، حتى يقلّل خسائره النفسية بسبب سجن العمى الذي ابتُلي به، فتمخّض هذان المحبسان عن (رسالة الغفران) و(اللزوميات) على سبيل المثال لا الحصر. وأمّا بخصوص أدبنا الحديث، فلا أحسب أنَّ هناك ناقدًا أو باحثًا منصفًا، يمكن أن يماري في حقيقة أنَّ رواية (شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف، هي النموذج الأوّل والأنضج لأدب السّجون في السّرد العربي المعاصر.
وبالعودة إلى (عزاء الفلسفة) - بوصفها أيقونةَ آليّات الدّفاع عن جسد السجين ووعيه ونفسه - فإنَّ بوئتيوس استحضر في هذه المأثرة، امرأةً على قدر كبير من الجمال والنبل والحكمة، وراح يحاورها في عدد من المسائل الفلسفية الشائكة، على نحو جعله يظل متماسكًا حتى حانت لحظة إعدامه، وعلى نحو يؤكّد أيضًا أنَّ ما يشغل بال السجين في السجن، هو التماسك الجسدي والعقلي والنفسي، بغض النظر عن المصير الذي ينتظره، وأنَّ الانهيار الجسدي والعقلي والنفسي هو - في الواقع- أكثر ما يرعب السجين ويقضّ مضجعه.
***
على هدي من هذه الإضاءة التاريخيّة والفكريّة، يتقدّم الروائي الأردني سليمان القوابعة، بمقاربته الخاصّة لتجربة السجن عبر روايته السابعة (دروب الرمل) التي صدرت عن دار (الآن؛ ناشرون وموزعون) عامَ (2017) في (248) صفحة من القطع المتوسط. وقد استلهم القوابعة في هذه الرواية تجربة الحزب الشيوعي الفلسطيني في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، قبل وبعد الوحدة بين الضفتين التي تمخّضت عن التحاق الشّيوعيين الفلسطينيين بالحزب الشيوعي الأردني. ورغم أن الرواية اشتملت على إشارات قليلة للقوميين، إلا أنّها تكاد تكون شهادة لشاهد عيان على ما عاناه أعضاء الحزب الشيوعي الفلسطيني-الأردني، من ضروب التضييق والاعتقال والتعذيب والنفي والمطاردة، ما بين القدس وعمّان والشوبك والطفيلة ومعان وبغداد وأهوار العراق!
يتقاسم أدوار البطولة في هذه الرواية ثلاثة من الشيوعيين أو المتهمين بالشيوعية وهم: سيّد حسيب وسامح الأحمد ويحيى عبد الرحيم. وعلى وقع سرد الرّاوي (سليمان القوابعة) وسرد الشخوص (سيد وسامح ويحيى) نرتحل وعيًا وخيالاً ومعاناة من سجن المحطّة في عمّان الذي شهد نزلاؤه من ضروب الهوان والعنف ما شهدوا إلى (بلد الجبال)؛ إحدى قرى الطفيلة والمكان المختار لنفي المعتقلين وإلزامهم بالإقامة الجبرية والتوقيع صباح كلّ يوم في مخفر القرية الذي يراقبهم ويعدّ عليهم أنفاسهم. ورغم أنَّ أهل القرية لا يدّخرون وسعًا للتعاطف مع هؤلاء المنفيين والتواصل معهم وشدّ أزرهم بكل الوسائل الممكنة، إلا أن ظروف التقييد والحصار الشديدة، سرعان ما تدفع بسامح الأحمد إلى التسلل والهرب عبر الصحراء إلى بغداد فالعمارة في جنوب العراق؛ لينعم بضيافة بدو العراق ويواظب على مراسلة يحيى عبد الرحيم وحثّه على اللحاق به، كما تدفع بسيد حسيب إلى التنكّر لماضيه النضالي – أو ما نحسب أنَّه ماض نضالي- فيغادر موقع الضحيّة إلى موقع الجلاّد. وأمّا يحيى الذي اشتدت معاناته بعد ترحيله إلى سجن المحطّة ثم إلى سجن باير ثم إلى سجن الجفر، ويكاد ينهار جسديًا وذهنيًا ونفسيًا، فإنَّه سرعان ما يثوب إلى رشده ويتماسك مجدّدًا – جرّاء الدعم الذي يحظى به من أهل الطفيلة بوجه خاص ومن أهل الجنوب بوجه عام، وفي ضوء الأمثلة البطولية اليومية التي يضربها رفاقه الشيوعيون الأردنيون، وبفعل الطاقة الاستثنائية التي تمدّه بها (رتيبة) حبيبته التي دفنها أبواها الغجريان وهي حيّة واستنقذها المختار الطفيلي الشهم، فآواها وحنى عليها وألحقها بالمدرسة حتى صارت معلمة- وينجح في الهرب من سجن الجفر والتسلّل إلى العراق فبغداد فالعمارة، حيث يلتقي برفيقه سامح الذي يفضل العمل في إحدى دول الخليج، فيما يفضّل يحيى العودة إلى الطفيلة للاقتران برتيبة والعمل في التدريس بعد صدور عفو عن المعتقلين والمحكومين بالإقامة الجبرية.
***
تقف الرؤية الفروسية التي تنتظم الرواية، على رأس المفارقات التي تشتمل عليها؛ فهي تحكي معاناة الشيوعيين الفلسطينيين-الأردنيين الذي يواظبون على قراءَة (رأس المال) لكارل ماركس في مهاجعهم، ولا يدّخرون وسعًا للتسلح بالنظرية العلمية المادية التاريخية، بلغة مثالية لا تخلو من العبارات العامية أحيانًا. ورغم أنَّ الرّاوي والشخوص يتعاقبون في السّرد على امتداد الرواية، إلا أنَّ الحوار بين المحقِّقين والمعتَقلين أو بين المعتقلين والأهالي في أماكن الإقامة الجبرية أو الاختباء، يؤكّد التطابق بين مضمون التجربة التي تقاربها الرواية والشكل الذي ينبغي أن تكون عليه؛ فالاعتقال يهدف دائمًا إلى الاستجواب الذي يمثل الحوار غير المتكافئ لحمته وسداته.
ولا يقتصرُ هذا الاستلهام لجوهر تجربة السجن على إبراز موقف الحوار فقط، بل يمتد ليشمل العتبات أيضًا؛ بدءًا من العنوان (دروب الرمل) الذي يكثّف سيمياء الصحراء والغبار في مدن وقرى وسجون جنوب الأردن، مرورًا بالعناوين الفرعية لفصول الرواية التي اعتقلت جميعها بعلامات التنصيص على هذا النحو: "يومك في أوّله"... "في عتمة نهاية الليل"... "حسيب سعيد"... "هناك في الأبعاد القصيّة"... "مخيال سامح يسبق الزمن"... "سامح يعود إلى حاضره"... "وجوه عليها غَبَرَة"... "خيالك يقول"... "انتهت الجلسة"... "سامح يلتقي مخياله القديم"... "موسم الهجرة إلى الجنوب"... إلخ. وكأنَّ الراوي يصرّ على إبراز العناوين الفرعية بوصفها شكلًا من أشكال الأصفاد والقيود، أو بوصفها شكلًا من أشكال بوابات السجن المتوالية والمغلقة بإحكامٍ شديد.
ولعلّ مقولة (شدة القرب حجاب) تقف بوصفها المفارقة الثانية في رواية (دروب الرمل)؛ فالمتوقّع أن يستفيض الراوي أو شخوصه في وصف المكان ما بين القدس وعمان والشوبك والطفيلة ومعان... وأن يوجز/ يوجزوا في وصف المكان في بغداد والعمارة والأهوار، لكن ما حدث هو العكس تمامًا، ولسبب وجيه لا ينبغي أن يفوت القارئ أو الناقد الحصيف؛ فانتفاء الحرية وما يترتب عليه من تلصّص متقطّع عبر شقوق شوادر سيّارات السجن لاستطلاع بعض التفاصيل، كفيل بأن يبدّد ملامح المكان حتى لو كان قريبًا، وامتلاك الحرية وما يترتب عليه من استجلاء واسع لكل التفاصيل كفيل بأن يبسط ملامح المكان، ولهذا فإنَّ بمقدورنا أن نتفهم هذا الفقر في تفاصيل المكان القريب المضاد، وذلك التدفق في تفاصيل المكان البعيد الصديق.
وبوصفها روايةً واقعيّة سياسيّة؛ فإنَّ بمقدورنا كذلك أن نرصد حرص ساردها على عدم التفريط بجملة من محرّكات السّرد الفروسي؛ مثل البطولة الجماعية للمعتقلين ولعدد من شيوخ ومخاتير الجنوب الأردني والعراقي، ومثل الحضور الشعبي-الأسطوري الساحر للغجر الرُّحَّل، ومثل الاستحضار العفوي لشخصيات تاريخية حقيقية مثل يعقوب زيّادين وتيسير سبول، ومثل تسليط الضّوء على لحظات التعاطف والتواصل بين الجنود والمعتقلين بوصفهم شريحةً مُستغلَّة من جهة ومضطّهَدَة من جهة ثانية، ومثل التذكير الدائم على نحو بعيد عن المباشرة والإقحام بوحدة الآلام والآمال بين الفلسطينيين والأردنيين..
ولنا أن نختم هذه المقاربة الخاطفة بهذا السؤال المشروع: أي عزاء اضطلعت (دروب الرمل) بتقديمه لساردها أو لشخوصها أو لقرّائها؟!... إنَّ سليمان القوابعة لم يسرد في هذه الرواية تجربة سجنه هو، بل سرد تجربة سجن نفر من الشيوعيين الفلسطينيين والأردنيين الذين استأثروا بتعاطف نفر من الناس البسطاء غير المسيّسين الذين لم يسمعوا بماركس ولا يدّخرون وسعًا للصلاة والصوم، لكنهم يرفضون مصادرة حريّات الآخرين لأيّ سبب من الأسباب، وقد ضنّ الراوي –على الأغلب – بهذه المأثرة الإنسانية على النسيان وأصرّ على توثيقها روائيًا، وأحسب أنَّه حاز بذلك عزاءَه الخاص، كما تطوّع لتقديم العزاء لشخوص روايته المعتقلين خاصة؛ لصمودهم وتلاحمهم وتمسّكهم بأفكارهم ومواظبتهم على إغناء هذه الأفكار حتى وهم قيد الأسر، وكان كريمًا في تقديم العزاء لقرّاء روايته الذين أثّثوا خيالهم بصفحات من النضال التي كاد يطويها النسيان.