أمين خالد دراوشة
كاتب وناقد فلسطينيّ
تؤثرُ المعتقدات الشعبيّة في الحياة الاجتماعيّة للمجتمع، فهي ظاهرة اجتماعية تولد "عن تفاعل الأفراد في علاقاتهم الاجتماعيّة وتصوراتهم حول الحياة والوجود وقوى الطبيعة المخيفة والمسيطرة أو المتحكمة في تسيير الحياة الكونيّة" . وتنتج لأسبابٍ عديدة منها: "التراكم الاجتماعي للعادات والتقاليد والأفكار، بحيث يصبح المعتقد قوة آمرة قاهرة، فهو يأمر في حالة الإيجاب، ويقهر في السلب" . وبما أنَّ المعتقدات ناشئة من تعاقب الأجيال خلال فترات زمنية طويلة، فإنَّ الأجيال تحمل الأفكار المتعلقة بصراعها مع قوى الطبيعة، وهي نتاج امتزاج العقليّ والوجدانيّ، وأخذت عقودًا طويلة لتسكن المخيال الشعبي. وتهدف المعتقدات الشعبيّة إلى إشباع الحاجات النفسيّة والروحيّة والاجتماعيّة للإنسان. وتكمن أهمية دراسة المعتقدات الشعبية، في تأكيدها على الحقّ العربيّ في فلسطين مقابل ادعاء اليهود الوافدين أنّ جُلَّ تراث المنطقة يرجع للتراث التوراتيّ.
وتكاد روايتا "مدينة الله" و"برج اللقلق" تمتلئان بالمعتقدات الشعبيَّة، فيتحدث الساردُ حول الاحتفال بليلةِ النصف من شعبان في ساحة مسجد قبة الصخرة؛ حيث نجد صلواتٍ وأدعيةً وأذكارًا، ورجاءً، وأناشيدَ وتكبيراتٍ وتسبيحاتٍ وابتهالاتٍ وشباناً "يدورون حول أنفسهم وقد اتّسعت ثيابهم البيض وانتفخت على شكل مراوح قماشية،...، يدورون وسط الغناء المتعالي من حلقة كبيرة. راح محيطه يتسع ويتسع، ونقر خفيف على الدفوف يماشي دوران الشبان واستدارتهم" .
ويحدّث الدليل غازي "فلاديمير" وصديقه عن معنى الخليل، وهو المحتاج المنقطع، فإبراهيم قصر حجته على ربه، وانقطع لعبادته، و"سُمّي النبي إبراهيم بأبي الضيفان لكرمه. هنا وفي هذا المكان تستجيب التوبة، فادخلوا المسجد، والغرف، والزوايا، وبوابات القبور بالقدم اليمنى.. وأشار إلى ساحة كبيرة جداً، وقال: هذه الساحة تسمى ساحة السماط، وفيها يمد السماط ويوضع عليه الطعام فيأكل الجميع، ويأتي من أجل تناول الطعام في المواعيد المحددة التي تضرب فيها الطبول، وكانت تسمى (الطبلخانة) وهي عادة متبعة من أيام النبي إبراهيم" . وسيرى "فلاديمير" بعد خروجه أفران الخبز الذي يقدم للناس، ومستودعات الحبوب، ومعاصر الزيتون.
وكذلك امتلأت رواية "برج اللقلق" بالمعتقدات الشعبيّة حتى التخمة، فعندما أراد عبد الجبار الجد الخروج للبحث عن رزقه خارج أسوار المدينة القديمة، اعترضت زوجته بشدّة، فلم يسبق أن ذهب أحدٌ هناك إلا أبو العناتر، الذي كان شابًا ذكيًّا وجريئًا، خرج ليلًا ليزورَ المقابر في الليل في تحدٍّ لأهل الحي، فوقف الرجالُ على السّور ينظرون إليه وفي يده سراجٌ ذابل، خرج من باب الساهرة بعد منتصف الليل، وما إن وصل أطرافَ المقبرة انطفأ السّراج، ولكن كرامته لم تسمح له بالتراجع، وصل المقبرة وأضاء شعلة، ورآها الناس، وتبعت الإضاءة صرخة، عاد بعدها أبو العناتر بلا عقل راكضًا، لسانه يتدلّى من فمه، جاحظ العينين، ولم يستطع أحد علاجه، واختلف الشيوخ بحالته، فمنهم من قال: "دخل في جسده شيطانٌ شرير كافر. لا يخرج إلا بالضرب ويعود الرّجل معافى كما كان.. فضربوا المسكين حتّى آذوه.. وما خرج الشّيطان.. وبقي أبو العناتر على حاله جاحظ العينين مأخوذ العقل ساهماً" . وما زال أبو العناتر بلا عقل يدور في حواري البلدة القديمة. غير أنَّ عبد الجبار رفض تصديق كل هذا الكلام عن الأشباح والشيطان، وصمّم على ما نوى عليه. وعندما عجزت زوجته "نفيسة" عن إقناعه، لجأت إلى الحيلة، وألقت برأسها على صدره، ورجعت إلى الماضي، وكيف تمت خطبتها، قالت له: كنت بك معجبة، وتمنيتك عريسًا، فجئت إلى بيتكم بحجة ملء إبريق الوضوء من بئركم، دخلت إليه واستقبلتني أختك مليحة، "توجهت ناحية البئر وقد عزّ عليّ أن تبوء محاولتي بالفشل،...، كشفت غطاء رأسي.. وفردت شعري الطويل الذي كان يصل حدّ ركبتي وصرخت.. وركضت إليّ أنت وأبوك وأمك ومليحة تهبّون إلى نجدتي" . وأخبرتكم إني شعرت أن الدلو يسحبني إلى البئر، وقال أبوك: "الحمد لله على سلامتك.. لنا شركاء في البئر يا ابنتي.. كان يجب عليك أن تذكري اسم الله قبل أن تُدلي بدلوك. وقد ساعدني على ذلك أنّ جميع أهل الحي يعرفون أن بئركم مسكونة يا عبد الجبّار.. يتخّبط فيها الماء أحياناً كالمجنون.. فلا يهدأ إلا عندما يقرأ أحدكم بعضاً من آيات الله على بابها.. نظر إليّ أبوك نظرة عطف وقال لأمك: - خذي نفيسة واسقيها من (طاسة الرجفة) يذهب عنها الخوف بإذن الله. أوصلتني إلى باب بيتنا، ولم يسعفك لسانك حتى على ردّ الشكر. " .
وتوجد طاسة الرجفة في الكثير من البيوت الشعبيَّة الفلسطينيّة، وتُسمّى أيضًا (طاسة الرعبة، أو طاسة الروعة)، ويعتقد الناس أنَّ الجنّ كانت تستخدمها في الاستحمام، "وذات مرة ذهب جنٌّ يستحم بالقرب من نبع، وبعد أن أنهى الاستحمام نسي الوعاء السحريّ بالقرب من النبع، واتفق أن مرّ بالمكان شخصٌ محظوظ ووجد الوعاء فأخذه، وفي وقت قصير تمكّن هذا الرجل من اكتشاف مميزاته. وبمرور الزمن صُنعت نسخ عن الأصل وأثبتت أنَّ لها ميزات الأصل نفسها" ، ويُكتب على الطاسة كلمات دينية عادة، قد تكون آيات من القرآن الكريم، أو أسماء الله الحسنى. وتستخدم (للقط الخوفة) أي عندما يتعرض شخص لرعبة كي يذهب عنه الخوف.
وأورد عارفُ الحسيني بعضَ المعتقدات الشعبيَّة في روايته بالإضافة لبعض العادات والتقاليد، فعندما تأخرت والدة حورية بالإنجاب بسبب قرينة كانت تقتل أطفالها ببطنها، رأت الجدّة أنّ الحلَّ يكمن بشدِّ الرّحال إلى امرأة مبروكة، تسكن إحدى القرى النائية، تذهب إليها مع ابنتها، وتقوم المرأة المبروكة بقراءة آيات مختارة من القرآن، "وأسقتها الماء المبارك، وأعطتها وجبة طعام تحوي البيض واللّحم لتقسمها مناصفة بين كلبٍ وقطّة، وتتأكّد من أن يأكلا منها ويفترقا لضمان التنافر بينهما فيدوم ابتعاد قرينتها عنها" . وتحمل الأم بطفلتها بعد ستة أشهر، وهنا تتساءل حورية؛ هل "عالجها القرآن والماء المقروء عليه، ووجبة طعام لحيونات لا تتفق على شيء؟ صدقاً وحتى اليوم لا أدري، ولكنَّ جدَّتي أقسمت عدة مرات بأنه لولا ذلك لما كنت أنا هنا اليوم" .
إنَّ أهمَّ التصوراتِ في المجتمع الفلسطينيّ بشكلٍ خاص، والعربيّ بشكل عام تصورٌ يرتبط بالعلاج بالقرآن الكريم، فقد استخدم الرسول (عليه السلام) وصحابتُه سورَ القرآن في معالجة المرضى، وفيه يقرأ المعالج على المريض بعض الآيات القرآنيّة المختارة، والأدعية الخاصة بقصدِ العلاج من مرض ما، أو طلبٍ للوقاية من أمراض جسديّة أو نفسيّة، وعلى الأغلب يضع المعالج يده إثناء القراءة على رأس المريض، أو على العضو المعتل. وأكّد القرآن الكريم على مشروعية العلاج به من خلال بعض الآيات، ومنها قوله تعالى: "وإذا مرضْتُ فَهٌوَ يَشفِينِ" .
إنَّ المعتقد هو: "الثقة والإيمان المطلق بقوة المعتقد (الشيء المعتقد به الذي يؤثر في مجرى حياة الفرد كإنسان وبالمجموع كبشر لهم إيمانهم)" . والنبعة الرئيسة للمعتقدات الشعبيّة هي الأديان سواء أكانت سماوية أو تؤمن بتعدد الآلهة، أو وثنية، لذلك ظهرت بعض المعتقدات كأساطير. "والمعروف أنَّ الإنسان كتلة من الماضي السحيق والحاضر والتصّور، وبالطبع فإنَّ ما ورثه هذا الإنسان لا بدّ وأن يؤثر في تفكيره وسلوكيته وعلاقاته الروحيّة والفرديّة والاجتماعيّة المسلكية" .
ويمكن للإيمان بالحُجب والتماتم وغيرها أن يكون له نتائج إيجابية بعض الأحيان، في تقوية عزيمة المريض وشفائه، ويعتمد ذلك على مدى قوة تأثير المعتقد في العلاقات الاجتماعية.
ويذكر واسيني الأعرج في روايته، زيارة القبور عند الفلسطينيين، إذ يتذكر "يوبا" على قبر أمّه ما قالته له في لحظة صفاء ذهني: "زيارة القبور تعني في ثقافتنا محاربة النسيان الذي يأكل كلّ شيء، حبّ متبادل وحديث صامت مع الذين ينامون تحت التراب كليّاً أو جزئياً" . وتطالبه بالاحتفاظ ببعض رمادها، لعلّه يخفّف عنه الوحدة القاسية. "الأموات يجيبون ويتحدَّثون، ولكن يجب أن ندرك المشاغل التي ظلَّت عالقة بقلوبهم لكي نعرف كيف نحاورهم ونعمّق شهوة المجيء نحوهم باستمرار" .
ونلاحظ أنَّ قوة المعتقد لها "تأثير قوي في تحول التصور إلى فعل جماعي أو فردي" . وأن لغته مجازية لا تحتاج إلى توضيح كي يفهمها السامع. ولا بدَّ من الإشارة إلى أن المعتقدات الشعبيَّة مرتبطة بالطبيعية الإنسانية في القرية كما المدينة، إلا إنّ تأثيرها أقوى في مجتمع القرية عن مجتمع المدينة بسبب قلة الإمكانيات، والضعف العلمي، وطبيعة الإنسان القروي التي تتصف بالبساطة والفطريّة، مما يجعل تفسير مصاعبهم ومشكلاتهم تفسيرًا غيبيًّا أسهل بالنسبة لهم.
إنَّ استدعاء التراث الشعبي في الروايات له أبعاد حضارية، ترتبط بالصراع الشائك مع العدو الصهيونيّ، وأيضًا له أبعاد جمالية تُغني النصَّ الروائيّ، ويبقى الهدف التأكيد على أصالة الفلسطينيّ، وانتمائه القوي لثقافته وأرضه المغتصبة، وتُعتبر نوعًا من أنواع المقاومة لادعاءات الحركة الصهيونيّة المزيفة، وتأكيدًا على هُوية الأرض والإنسان الفلسطينيّ.