د. سعيد عبيدي
كاتب مغربي
في بداية التسعينات من القرن الماضي، راج الحديثُ عن الفتح التكنولوجيّ الذي أُطلق عليه الثورة الرقميّة، التي كانت لها انعكاسات أكثر ثوريّة، تجلّت في التطور المتلاحق لما يُعرف اليوم بالتكنولوجيات المعلوماتيّة والاتصاليّة، والتي وضعت معها رزمانة من الإشكالات البحثيّة، فمثلًا هي عند بعضهم تؤسّس لمزيد من الراحة والرفاهيّة، وعند بعضهم الآخر هي مقدمة لمآسٍ اجتماعيّة وأضرار نفسيّة لا حصر لها، فهذا الفريقُ الثاني يرى أنَّ الاكتشافات العلمية حرَّرت الإنسان ماديًّا ومعنويًّا من عبودية الطبيعة، لكن لم تحرِّره إلا لكي تضعه تحت عبودية آلياتها وآلاتها.
في هذا الصدد يأتي المؤلَّف الصادر سنة 2019 عن المركز الثقافيّ للكتاب "الإنسان العاري: الدكتاتورية الخفيّة للرقميّة" للكاتبين مارك دوغان (Marc DUGAIN) وكريستوف لابي (Christophe LABBÉ)، والذي قام بترجمته السيميائي المغربي سعيد بنكراد عن الأصل الفرنسي "L’HOMME NU: La Dictature Invisible Du Numérique"
والعملُ الذي بين أيدينا تدورُ جُلّ صفحاته حول الإنسان الحديث، إنسان العصر الرقميّ الذي كشفت مختلف وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية الغطاء عن الكثير من المعلومات والمعطيات الخاصة بحياته، الإنسان الذي يتمّ أيضًا اختزاله في مجرّد مستهلك ومنتج للمعطيات التي يمكن استخدامها في العديد من المجالات التي تمتد من التسويق والتجارة إلى الأمن والدفاع، هذا الإنسان الذي -كما ذكر المترجم في المقدمة- "سلَّم رقبته طوعًا إلى جلّاد بلا سيف، إنّه يفعل به ما يشاء برضاه وبدون ألم، فهو مَن يزوِّده يوميًّا بمعلومات عنه، وبذلك يزداد ارتباطًا به وتبعيّة له. وهكذا سيكون، بعد أن وضع مصيره وحريته بين أيدٍ رقميّة تلتقط كلّ شيء يخصّه، ضمن الحالة التي يصفها دوستوفسكي في الأخوة كارامازف: (سنضع حريتنا عند أقدامهم قائلين، خذونا عبيدًا عندكم، ولكن أطعمونا). لقد قُضي الأمر، فقد أصبحت الرقميّة جزءًا من وجدان يُصَرِّف جزءًا كبيرًا من انفعالاته في الافتراضيّ. ومع ذلك، علينا ألا نستسلم لجبروت هذه الآلة الجديدة. علينا أن نقاوم بترشيد استعمالاتها للحدّ من العبثيّ والاستخباراتيّ فيها حفاظًا على حياتنا الخاصة بكامل النقصان فيها.
إنَّ الإنسان العاري كما أكد الكاتبان يهرول إلى العالم الافتراضيّ/ الرقميّ هربًا من عالمه الحسّي، متوهِّمًا أنّه حصل على التحرُّر والانعتاق، بحيث يبحر ويكسب معارفَ وصداقاتٍ كثيرةً من بلدان متعدِّدة لم يكن يحلم بها في وقت سالف، بل أكثر من ذلك يفتح الباب أمامه على مصراعيه للغوص في ثقافات الشعوب الأخرى، لكنّه في الوقت نفسه يفقد حياته وصداقاته الحقيقية بشكّلٍ تدريجيّ كلما زادت شدة انغماسه في منظومة العالم الرقميّ التي تستغرقه بالتدريج، بأشكالٍ مُخطط لها سلفًا من طرف شركات كبرى، هدفها استنزاف جيوب مَن وقع في شباكها دون شعور، فهذا الانغماسُ هو نوعٌ من الاستعباد الجديد الذي تقوم به الدول القويّة ضد شعوب الدول الفقيرة، وضد شعوبها في بعض الأحيان على حدٍّ السواء، بحيث لا ينجو من هذا الاستلاب إلا مَن دخل هذا العالم وهو يعرف سلفًا أين يضع قدميه، فيأخذ محاسنه دون الانزلاق في متاهاته وسراديبه.
إنَّ العالم الرقميّ بحكم انفتاح مكوّناته على الأفراد والجماعات كافة، وفي ظلِّ عدم وجود أية ضوابط قانونيّة وأخلاقيّة، أدى إلى ظهور بعض السلوكات السلبيّة التي من أبرزها استهداف البعض في معتقداتهم وقناعاتهم، ونشر الأفكار والقيم المخالفة للقانون، والتشهير بالناس من خلال الشائعات، والابتزاز والتزوير وقلب الحقائق، والتفكّك الأسريّ، وغيرها من الأفعال والأنماط السلوكيّة والثقافيّة التي تؤشر على فقدان الأفراد لحسّهم النقديّ ولقيمهم الأصيلة، بعدما تمكنت الشركات المالكة من امتلاك عقول بعض مستعمليها وسلبهم إلى درجة يمكن وضع وتوصيف هؤلاء في خانة "العبيد الرقميين" .
فالعالم الرقمي إذن، رغم مزاياه في تقليص المسافات الزمانيّة والمكانيّة، وسيولة الإعلام وتيسير المعلومات والتلاقح الثقافي، ودوره أيضًا في تحسين الأداء التعليميّ والتكوينيّ، الإداريّ والمعاملاتيّ، والتطبيب عن بعد، وتنظيم العمل عن بعد، وغير ذلك، فإنه يمكن عدّه أيضًا الثورة التي تحوّلت إلى أخطر سلاح لا مادي ضد الإنسان، وذلك عبر عمليات التجسّس على الحياة الداخليّة للأفراد والمجتمعات، وعبر القرصنة الإلكترونية وسرقة المعلومات، وعبر السيطرة الإعلاميّة وتزييف الأخبار وإفشاء ثقافة العنف والجنس والمخدرات خاصة لدى الأطفال والمراهقين.
لقد خلقنا بأيدينا مجتمعًا يعوّل فيه على الأجهزة الرقميّة بشكل كبير، حتى إن قدرتنا على التفكير –أقصد التفكير العميق- لم يعد لها أيُّ مسوغ، مما يجعل فهمنا للأشياء سطحيًّا، ويجعل وقوعنا في الأخطاء أكثر شيوعًا، لذلك علينا أن نفكّر بجدية إلى أين ستأخذنا هذه الأجهزة الرقمية، وأن نضع في الحسبان أنها تعيد صياغة تفكيرنا وتشكيله من جديد؛ فقد بدأنا نطلب من التكنولوجيا الرقميّة أكثر مما يجب، فلو أنَّ كل شيء أصبح سهلًا للغاية فإنَّ عقولنا وأجسامنا ستفقد في النهاية القوة العضلية والمرونة والإبداع، حينئذ سنحتاج إلى أنواع من التوازن؛ توازن بين السريع والبطيء، توازن بين التماثلي والرقمي، توازن بين المادي والافتراضي، وأيضًا سنحتاج إلى توازن بين القديم والحديث، لكن قبل أن نتمكن من فعل أيٍّ من هذا كلّه سنحتاج إلى أن نغير الطريقة التي نفكر بها اليوم.
لقد أكّد الكاتبان على مدار صفحات هذا الكتاب أنَّ العصر الذي نعيشه اليوم - والذي تسيطر فيه الأجهزة الرقمية على حياتنا- هو عصرٌ يمكن وصفه بعصر الانتقال والانفصال؛ الانتقال من عصر المنتديات العلمية إلى سوق التّجارة الإلكترونية، ومن تبادل البحوث التي تهدف إلى المعرفة كغاية في ذاتها إلى توظيف المعرفة وتسليع الثقافة، الانتقال من الباحث البشري إلى الوكيل الآلي، الانتقال من عصر القلق الفكري إلى عصر القلق الوجودي، وهو أيضًا عصر الانفصال؛ الانفصال بين الفكر والسّلوك، بين النّظرية والتّطبيق، بين التّعليم والتّربية، بين التّنمية والمحافظة على البيئة، وبين التّقدم الاقتصادي والرّفاهية والسّعادة الحقّة، الانفصال بين غايات وأهداف التّكنولوجيا الأصليّة والحقّة وتوظيفاتها واستخداماتها، والخوف أن يؤدّي تيّار الانفصال هذا إلى انفصال الإنسان عن واقعه وعن بيئته، والذي يفضي في النّهاية إلى انفصال الإنسان عن الإنسان ويغرقه في فرديّته المفرطة، فينهي نفسه، أو ينتهي وحيدًا.
في الختام نشير إلى أن محتوى هذا الكتاب - كما ذكر سعيد بنكراد - قد لا يعجب "الجالية القاطنة في الفايسبوك، على حدِّ تعبير أحدهم، فهو يقلقهم ويشكّك في نمط حياتهم، اعتقدوا أنّه النمط الوحيد في الوجود. ولكنه تنبيه أيضًا إلى أنَّ الحياة ليست في الصور؛ إنَّها في الطبيعة، في المراعي والحقول والبحار التي تهب العين متعة هي ما تستبطنها في أفق إبداعٍ حقيقي. يجب أن نعود إلى الحياة، أن نكتفي بتأمل البحر عوض التقاط صورة أمامه، ويجب أن نعيش لحظة حب حقيقيّة مع أصدقائنا عوض أن نقضي ساعاتٍ من النفاق ونرسل صورة "بارتاج" كتعبير عن زهو مزيف. يجب أن نحب الناس في الحقيقة لا أن نقول لهم 'لايك' و'جيم'. هو ذا النداء الذي يبعثه الكاتبان".