ناجح حسن، باحث وناقد سينمائي
يُحسب للناقد والباحث السينمائيّ الأردنيّ الراحل "حسّان أبو غنيمة" المولود في إربد العام 1949، أنَّه أبرز من عَمِل في مجال الثقافة السينمائيّة عربيًّا ومحليًّا، طوال ثلاثة عقود من الزمان، في أكثر من مكان: عمان، دمشق، بيروت، وفي مؤسسة السينما الفلسطينيّة في بيروت .
كان حسّان أبو غنيمة محايدًا ونزيهًا ومؤمنًا بالمبادئ الصحيحة التي يجب أن تنهض عليها السينما العربيّة الجديدة، والمفاهيم والقيم التي تحكم الناقد في كتابته وتحليله للأفلام، ويمكن لمن تابع خطواته النقديّة في أكثر من صحيفة ودوريّة عربية، أن يلحظ الجهود الكبيرة التي بذلها فيما نشره من مقالاتٍ ودراساتٍ وكتب. وتُحسب له ريادته في تأسيس النادي السينمائيّ الأردنيّ في بداية الثمانينيات من القرن المنصرم، النادي الذي أضحى علامةً ثقافيّةً مميزة في الحياة الثقافيّة في عمّان لسنواتٍ طوال، قبل أن يتوقف نشاطه بوفاة "أبو غنيمة". وقد عمل الراحل من خلال النادي على دعم المبدعين من الفنانين والكتّاب وأصحاب المواهب من الأردنيين، وتشجيعهم على التواصل مع النّقد السينمائيّ، وتكريسه كحالةٍ ثقافيّة في زوايا الصحف والمجلات، وعلى شاشة التلفزيون الأردنيّ في أكثر من برنامج تلفزيوني متخصّص .
قضايا ثقافيّة وإبداعيّة عديدة شغلت الراحل، كان من جملتها هموم إيجاد صناعة سينمائيّة أردنية، وبدأ في طرح مسابقاتٍ مفتوحة لأصحاب القدرات الفنيّة في كتابة السيناريو، وكان من نتيجتها أن تم تصوير خمسة أفلام قصيرة أخرجها أصحاب السيناريوهات الفائزة في العام 1983، ولقد حاول الراحلُ إقامةَ مهرجان دوليٍّ للسينما يُعقد في عمان، وبدأ في إعداد لائحة الخطوط العريضة له، ولكنّه للأسف لم يرَ النور بسبب معوّقات تمويليّة حالت دون إخراجه إلى حيز الوجود.
سنوات طويلة أمضيتُها إلى جوار الراحل، لمستُ فيها عن قرب جوانبَ كثيرةً من أخلاقياته وتفانيه في العمل الدؤوب، من أجل النهوض بثقافة سينمائيّة محليّة منفتحة على كل فضاءات السينما العربيّة والعالميّة .
كان يكفيه من الفن السابع عشقه للسينما ولعالمها وناسها، وكانت تجربتُه في التعامل مع السينما غنيةً وثمينة، ولعلَّ أهمية هذه التجربة تكمن في التفاعل الخلاّق بين الناقد والمبدع، وفي تلك العلاقة الخاصّة بين الناقد والعمل، تلك العلاقة التي كانت تبدأ أحيانًا، والعمل ما يزال مجرّد فكرة تبحث عن نصٍّ أو تمويل .
الناقد أبو غنيمة لم يكن ينتظر ظهور السينما الأردنيّة لكي يتحدث عنها أو يقوّمها، بل أراد، أولاً، تأسيس قاعدة لصناعة السينما الأردنيّة، وهذا ما دفعه إلى بذل جهودٍ كبيرةٍ في أكثر من برنامج وعمل دراميّ تلفزيونيّ محليّ، وعندما لاحت في الأفق بشائرُ لأفلامٍ أردنيّة، لم يتوانَ لحظةً عن دعمها ومساندتها، ولو كانت هذه الأعمالُ السينمائيّةُ قادمةً بفعل عملياتٍ قيصريّة، مثل تلك المحاولات التي قدمها الراحل غازي هواش ما بين الأردن وتركيا، أو تلك الأفلام التي أُنجزت خارج حدود الأردن، كما هو الحال بالنسبة لتجربة السينمائي الأردني توفيق ناصر أسعيد في إيطاليا بفيلمه الروائي "3 في الخارج و 10 بالداخل"، أو تجربة المخرج السينمائي الأردني محيي الدين قندور، الذي حقّق في الولايات المتحدة الأمريكية محاولته السينمائية الأولى في ميدان الفيلم الروائيّ الطويل، التي تمثلت بفيلمه "طيف إدغار ألن بو" في العام 1974، وقد حاول أبو غنيمة أن يبيّن الدوافع الأساسية التي حدت بقندور إلى التوجّه نحو أفلام الرعب والغرائب .
كان حسّان أبو غنيمة يدعم صانع السينما ويتابع خطواته، ويسير معه جنباً إلى جنب، يأخذ بيده، يشاركه معاناته ويزور فريق العاملين بالفيلم في أمكنة التصوير، ويحاول تقديم كلّ توجيه أو مساعدة ممكنة للمخرج ولسائر العاملين، وكان علاوةً على كونه ناقدًا، ذا إحساسٍ سينمائيّ مرهف اكتسبه عبر مشواره الطويل ومخالطته صنّاع السينما العربية والعالمية، متفهمّاً صعوبة صناعة السينما في الأردن .
حالة من الحراك الثقافي صنعها حسّان لدى عمله بالصحافة، وإشهاره أوّلَ صفحةٍ متخصّصة في السينما في جريدة الرأي بتاريخ 17/3/1978، قدّم فيها نوعيةً مختلفة عن الأخبار التي كانت سائدة في صفحات الصحف، والتي لا تتجاوز عادةً أخبار وحكايات النجوم من الفنانين وفضائحهم .
لقد كرّس حسّان في الصفحة مسائل أساسية في التعريف بالسينما الجديدة (الجادّة) على صعيد السينما العربيّة والعالميّة، وبشكلٍ خاص السينما ذات الاهتمام الإنسانيّ والمتّصلة بقضايا الشعوب، وكان دائم التساؤل عن غياب صناعة السينما الأردنيّة، وهل هي مجديةٌ أم لا، كما ناقش في كتاباته الأفلام التي شكّلت علاماتٍ بارزةً في تاريخ السينما العالميّة، والأفلام التي يجري العمل على إنجازها وعرضها على المشاهدين، وتحدث عن الإحصائيات السينمائيّة، وأسّس زاوية "زوم" المخصّصة للأخبار السينمائيّة القصيرة. وغالبًا ما كانت مصادر هذه الأخبار من الوطن العربي، ومن العالم الثالث وبلدان أوروبية، بعيدًا عن أخبار وفضائح نجوم هوليوود، أو السينما الهنديّة والمصريّة التقليديّة، التي كانت أفلامها تملأ عروض صالاتنا المحليّة .
كما قدّم تعريفًا بالعديد من الكتب السينمائية العربيّة، والأجنبيّة المترجمة، وتوضيحًا لمصطلحات الإخراج السينمائيّ والمونتاج والمعدات السينمائيّة. أمَّا الإحصائيات التي قدّمها الراحل فلم تتجاوز نتائجها التعريف بعدد المخرجات السينمائيات العربيات، والمخرجين العرب الذين أنجزوا أفلامًا خارج بلادهم، بالإضافة إلى إحصائيات للأفلام التي تناولت القضية الفلسطينيّة، وأخرى بالأفلام التي تناولت الصراع العربيّ – الإسرائيليّ. كما تحدّث عن السينمائيين الأجانب من العاملين في السينما العربيّة، وعرَّفَ أيضًا بالكثير من النقّاد السينمائيين العرب الذين يحملون هموم السينما الجديدة، وأولئك الذين أسّسوا تياراتٍ ونواديَ سينمائيّة في أقطار الوطن العربي، مثل: الطاهر الشريعة، سمير فريد، محمد رضا، سمير نصري، سامي السلاموني، ونور الدين صايل .
بعد توقف صفحة "سينما" التي كان يُشرف عليها حسّان في أكثر من صحيفة محليّة بسبب ضرورات العمل الصحفي، ظلّ قلمُ الراحل مواظبًا على الكتابة عن السينما في أكثرِ من ركنٍ وزاويّة، رغم إشرافه – في الكثير من الأحيان – على صفحات أسبوعيّة متخصصة للمنوّعات والثقافة .
لقد عمل على تغطية الأسابيع والندوات السينمائيّة المتخصّصة لمجموعة من السينمائيين الذين يأتون لزيارة الأردن، أو إجراء المتابعات النقديّة لأهم نشاطات النادي السينمائي، والمناقشات التي تجري أسبوعيًّا عقب عرض كلّ فيلم، مما كان يفسح المجال للقارئ للمشاركة في النقد السينمائيّ، ويخلق لديه الرغبة بمشاهدة نماذج من هذه الأفلام المنوّعة، بغيةَ سبرِ أغوار هذا النوع من الفن، والكشف عن أساليبه ومضامينه وخلفياته، وبالتالي التعريف بمنجز قاماتٍ سينمائيّة رفيعة ومهمة، والمساهمة في تجاوز النظر إليها من باب التسلية البريئة، بالإضافة إلى المشاركة في خلق تراكمٍ نقديٍّ نظريٍّ عن الإبداع، والبحث في الإشكاليات المختلفة المتعلقة بالفن السينمائي .
لقد أَثْرَت كتاباتُ الراحلِ "حسّان أبو غنيمة" فضاءاتِ الثقافة المحليّة، وعملت على التعريف باتجاهاتِ السينما ومدارسها ونماذجها، بمختلف دلالاتها ومستوياتها المحليّة والعربيّة والعالميّة، وبشكلٍ خاص سينما العالم الثالث التي تكاد تتشابه في مواصفاتها وملامحها في مختلف البلدان النامية، بدلاً من التركيز على الاتجاهات والنماذج السينمائيّة السائدة، والاستهلاكيّة الباليّة، وتكريس تعريفاتها الخاطئة للمفاهيم والقضايا السينمائيّة، التي تؤدي إلى تشويه القيم وتقزيم القضايا الاجتماعية.
ومن خلال قلم الناقد "أبو غنيمة" ازداد القارئ الأردنيّ معرفةً واطلاعًا على تيارات السينما، مثل: الواقعيّة الإيطاليّة، الموجة الجديدة الفرنسية، السينما الحرة البريطانية، أفلام جيل التلفزيون الأمريكية، سينما الأندر جراوند الأمريكية، والسينما النضالية في العالم (في فلسطين وآسيا وأميركا اللاتينية والقارة الأفريقية)، كما عرَّف بأسماء كانت مجهولة ومغيّبة عن منابر الثقافة المحليّة مثل: "مصطفى أبو علي" (فلسطين)، توفيق صالح (مصر)، مروان حداد (سوريا)، برهان علوية (لبنان)، وغيرهم .
كان حسّان مشغولًا بالسينما، وشغوفًا بالكتابة والتأليف، وقد أصدر عددًا من المطبوعات في سنواته الأخيرة، من خلال إصداراته السينمائيّة المتتالية، التي بدأها بكتاب (السينما ظواهرٌ ودلالات) الذي كان بمثابة تحول إيجابيّ في المشهد الثقافيّ المحليّ، حيث معالجاته الجماليّة والدراميّة لوظيفة الفيلم، وتكررت إصداراتُه إلى أن وصلت إلى أزيد من عشرين مؤلفًا، وكان قبل ذلك قد اتّجه إلى الأرشفة والتوثيق وتأريخ كل ما يتعلّق بالكتابات التي تناولت الفن السابع نقدًا وتحليلًا وصحافة، وكان أيضًا الناقد والباحث والمؤرخ، كما كان يوصّفُ نفسه؛ كان حسّان يخطو وحيداً في مشروعه، يعمل صحافيًّا، ويشرف على فعاليات نادي السينما، يعدُّ البرامج التلفزيونيّة ويشارك في تقديمها، ويتطلّع إلى إخراج فيلمٍ روائيٍّ قصير.
ولقد صُوِّر فيلمٌ له بعنوان "عبد الخالق" داخل شوارع عمان وأرصفتها ومقاهيها، لكنَّ موادَ العمل اختفت، أو أُتلفت إبّان وجودها في إحدى البلدان العربيّة المجاورة لإجراء العمليات الفنيّة .
أشعل حسّان أبو غنيمة معاركَ وسجالاتٍ ثقافيّةً صاخبة، وكان أن اختلف معه الكثيرُ من الأصدقاء، لكنهم احتفظوا له بمساحةٍ من الود، والاعترافِ بدوره المؤثر والرياديّ في الثقافة السينمائيّة الأردنيّة.