قصة: ناظم علاوي
أديب عراقي
مساءٌ قائظ، يطوي القطارُ ليلَ الموصل ويسحبهُ عُنوةً إلى نهار بغداد المكتظِ بالأماني السائبة، ليل أسود وحالم. لا فرق.!
النافذةُ المزدوجة للقطار تَعكس ما بداخل العربة؛ وتَرسِمُ خيباتِنا بكل شيء في الفراغ المتلاشي عند أفق الأبديّة.! كنّا ثلاثة نمتطي صَهوة رغبة داكنة بعد انعتاقنا من الأسر الآفل إلى انفتاح مُقعر. يَضجُّ القطار فوق سكة الحديد بأقدامه المدورة في ضجيج متورم.! فيما ظلت ولا زالت النافذة تعلن عبر شفافية زجاجها عن أراضٍ تنوء بالحياة.!
الجوعُ بدأ يطرق بوابات معدتي المُنكمشة –يحيلني نحوَ عالم حيوانيّ– أَلوكُ بأسناني التي أنهَكَها عمل –ثلاثين عاماً– بضع مضغات، من طعام هيأهُ لنا ثالثنا المُستلقي منذُ سنينَ على دكّة حلم مُزجّج.
تطيل عيناي النظر الى النافذة التي تُسحرني بما تعكسه ما بداخل العربة من أجسادٍ نائمة؛ تبدو مثل كتلٍ وصخورٍ من عصور مهجورة؛ يشخرون حَدَّ إزعاج قواعد القطار المرتبكة (هذه العربة التي ذكّرتني بذلك الكهف.!).
لا أدري لماذا أتذكّر هذا.؟! رَبَما كنتُ واحدًا من هؤلاء الفتية؛ الذين فرّوا إلى ربهم، لكنني أهربُ من وجعي، تذكّرتُهم الآن عندما تَعَطشتُ إلى مَجّة من سيجارة؛ لكنَّهم لا يعرفون التباين في تَوليفات التبوغ؛ هُم بحاجة إلى النقود والطعام، بينما أحتاجها لتطفئ جزءاً من ألمي: رُبما سيجارة (الفايس روي) أفضلها.؟! هذا ما قالهُ أحَدُنا، كان صاحب الكلب الجالس عند باب الكهف.!
التفتُّ إلى صديقي الذي ما انفكَ يكتب منذ لحظة انطلاق القطار، ليأَخُذَ هذه السيجارة التي أُحِبُّها وتُريحني، وبحركة مجنونة تدلُّ على الأُلفة بيننا، يَضَعُها بين شفتي المُتَعطِشتين.
يتعالى شخيرُ الصخور الناتئة، لتنزّ أجسادها حشراتٍ متورمة، تقضم هواء العربة؛ فَتَنكَسرُ سيجارتي. وليحتَرق بياضها المُنغرِس في النافذة، فيعمّ سواد مرتبك. فيما ظلّ ثالثنا جميلُ الطَّلَة يصارع أقدامه القصيرة التي لا تلمس أرضية العربة وهي تَسحَبها بحركات أُخطبوطيّة رشيقة وتَلُمها؛ فيتسرب الفراغ إلى عينيها، وتندمج مع الكرسي في إطباقة حانية، وتَضيعُ كما الصبية عن عيوني في سبات مكتئب، نافثةً آخر أنفاسها فيَّ قبل أن تضيع في المقعد. تَشدني النافذةُ مرةً أخرى وكأنَّ خيوطًا بَرزَت لتَسحبَ عينيَّ باتجاهها، وأسبَح في تشكيلات عتمَتِها وتلك البُقع البيض التي تخدشُ سواد النافذة.
من بعيد خلال النافذة يطلُّ ضوءٌ كفأر مُرتبك ليكمل متاهتي، ينبثق من فمه، ظلّي المنعكس في النافذة ليملأ الفراغ برغبات هاربة:
كان مسرَّح الشَّعْرِ، جميلاً ليس كقبحي، ذراعاه المحنطتان لهما قدرة ألف حصان، وقلبُه استَوعَب عشرات الجميلات، وله جسدٌ ضخمٌ ليس كجسدي الضعيف المُتَغضِن، بينما رأسهُ يَضُجّ كالمدورات اللعينة للعربة بأصوات قذائف الخوف ليقدم لي (آآه) على محفل من زهور مغسولة بالوجع. غير أنّه يتجسّد أمامي، أراه صورًا عديدة [بطلاً، إنساناً يتألم، طفلاً يبكي، امرأة حبلى بالقيح والصديد، ومرة كنورس جميل غير قادر على الصياح].
لكن هذه الصورة الأخيرة استهوتني، حاولت أن أحدثه... كان فمه بركانًا يثور ثم يصبح باقة من ورود مشتهاة كأنثى تستقبل أول قبلة.! قلت له:
-مَن الذين يجلسون حولي..؟ "بصوت فخم".
-لقد سرقوا نهاية الرحلة قبل أن تبدأ.!
أدَهشَتني ضَخامة صوته الذي هزّ أحشائي المتداعية:
-على من نعوّل في الوصول إلى غاياتنا ؟ "صمت مستغرباً":
-ومَن الذي رسم طريق... ك...ي... نا...؟
لاحظ ثالثنا جميل الطَّلة شرودي، بعد أن حاول الانعتاق من الكرسي، مدَّ يديهِ الخَرطوميتين، لكنّه أرجعهما حين مسّ سائلًا لزجًا من الأوجاع، ليضيع مع مقعده مرةً أخرى، وكأنّه اقتنع بضياعنا معًا.
بينما ظلَّ صديقي يكتب؛ لا أدري هل يكتب أوجاعنا، أم، خيباتنا!؟
فيما بقيتُ أحادث ظلّي:
-ألا ينتهي هذا الوجع.؟!
-أنتَ مجرد وهم.؟
زادَ ضيقُ صدري:
-أنت ظِلّي المُنعَكس؟
ضحك هازئاً، وبلسان امرأة شعثاء:
-ستدوم هذه الرحلة حتى بعد انتهائك.!
ونظر إليَّ بعين النورس ونَهض على ساقيه ليطارد أحلامه الهاربة، بقيت أُرَدِّد -لا تغادرني- غير أن فراغ النافذة عادَ مرَّة أخرى ليَصفعَ وَجهي، ولينكمش المشهد عبر الزجاج. ليَنكُث الظلام في عينيَّ الزائغتين، ويَقتِل الوجع النابت من رأسي. فيما يواصل بياض النهار المُصفر مطاردة غُبار الليل الهارب، وليَنسِف مخيلتي الاكتئاب المُنطلق من صفارة القطار إيذاناً بالوصول.!
قبل أن أترجل ألقيتُ نظرةً إلى مرآة النهار التي ابتلعتني مع السائرين والشوارع، وبقيتُ وحدي أهمس سرًّا:
-ما أجملَ أن يأكل النهار النوافذ.!