مفيد عيسى أحمد
كاتب سوري
(1)حارسُ الحديقة
صرخ الولدُ في وجه حارس الحديقة:
_ عندما يأتي أبي سأطلب منه أن يطلق عليك النار.
كان الحارسُ قد أخرج الأولاد من الحديقة بعد أن أفسدوا نباتاتها بلعبة الحرب..
ابتسم الرجل ولم يرد.
عبس الولد، اقترب خطوةً من حارس الحديقة وقال:
- أبي معه مسدسٌ كبير، "وفتح يديه بمقدار حجمه"، سيضعه في رأسك، تستسلم ثم يطلق عليك النار وتموت.
مسّت الرجل رعدةٌ خفيفة، نفض رأسه كمن يريد التخلص منها، وقال الرجلُ بحسٍّ حزين وكأنّه يكلّم نفسه:
- لن أستسلم أبدًا.. طالما أنّي سأموتُ لا داعي لذلك..!!
صفن الولد قليلًا، نظر إلى نقطة في آخر الشارع، وقال:
- سيطلق عليك النار، ستموت ثم تستسلم.
ردّ الرجل بشيٍء من الجدّيّة:
- الموتى لا يستسلمون، ولا فائدة من استسلامهم.
تململ الولدُ، حرك رأسه بضيق، مطّ شفتيه وبكى. صمت فجأةً، جالت عيناه في الحديقة، ثم عاد بهما إلى وجه الرجل، وقال بلهجة متوسلة :
- عمو... استسلم فقط، وعندما يأتي أبي سيطلق عليك النار، وأعدك بأنّنا لن نعودّ إلى الحديقة أبدًا.
***
(2)فراخ العصافير الخائفة
جلست الطفلةُ عند رأس أبيها المتعب وقالت :
- سأحكي لك حكايةً كي تنام.
ابتسم الرجل وغمغم:
- نعم... نعم..لا بدَّ من حكاية.
قالت :
- كان هناك عشٌّ على شجرة فيه فراخ، شعرت بالجوع فطارت العصفورة الكبيرة، أمّهم، لتجلب لهم الطعام. بحثت في الأراضي والغابات حتى استطاعت أن تحصل على ما يطعمها، وعندما رجعت لم تجدها. خافت الفراخ فطارت وأخذت الشجرة معها .
غمغم الوالد وكأنّه يتكلم في الحلم:
- خافت ممن؟
- خافت من الحرب..!
جفل الرجل، فتح عينيه باندهاش، وقال محاولاً تغيير الموضوع:
- الفراخ الصغيرة لا يمكنها الطيران وإن طارت لا يمكنها حمل شجرة ...
أعادت الطفلة الحكاية وقالت:
- وعندما عادت الأمُّ لم تجد العشَّ ولا الشجرة، فقد هربت إلى الجبل.
فتح الأب ربع عينيه وقال:
- لا يمكن للأشجار أن تمشي، ستموت إن فعلت ذلك.
تطلعت الطفلة حولها ثم نهضت وانصرفت باكيةً وهي تصيح:
- ماما .... ماما ... بابا لا يريد أن ينام، أنا جائعة وأريد أن آكل.
نام الرجل، رأى في منامه أشجارًا تهرول وأخرى تمشي، ورأى فراخَ عصافيرٍ تطيرُ حاملةً شجرة توت إلى الجبل وهي تزقو خائفةً.
***
(3) مطرٌ بالألوان
على قميص "دارين" ما زالت تُمطر...
أمطاراً زرق وخضر وأرجوانيّة، من غيمة وحيدة بيضاء مرسومة على القميص. "دارين" تحبُّ هذا القميص وتطالب أمّها أن ترتديه دائمًا، تفعل ذلك بعد أن تتأمل الغيمة والمطر الملوّن المرسوم عليه، وكأنّها تراها للمرة الأولى، تمطر ....
و"دارين" بدأت ترسم على ورقة نهرًا أزرقَ يجري بهدوء، ينبعُ من التلالِ الزرق في أعلى اللوحة، من جوار شمس أشرقت منذ قليل، ينحدر ليمرَّ بجوار بيتٍ بسقفٍ قرميديّ هدمت الحرب زواياه، على ضفته امرأةٌ صغيرة يمسك بيدها طفل صغير. في السماء غيومٌ ملبدة تكاد تحجب الشمس الخجولة.
توقفت عن الرسم قليلًا، ثم عادت إليه بحماس رسمت خطوطًا زرق وخضر وأرجوانيّة نازلةً من أعلى اللوحة إلى منتصفها.
توقفت ثانيةً، تأملت اللوحة وحدّثت نفسها قائلةً: لن أدع المطر ينهمر على الأرض، سيبتل الولدُ وأمّه ويمرضان.. سأنتظر حتى يدخلا إلى البيت. لكن لا بدّ من إصلاح ما هدّمته الحرب، حتى يستطيعان الدخول إليه، ثم أدع المطر يصل إلى الأرض.
وضعت اللوحة جانبًا، ومن وقت لآخر كانت تنظر إليها وتهمّ بإكمالها..
نامت "دارين"..
الولدُ وأمّه ما زالا خارجًا، والمطر معلقٌ في وسط اللوحة لم يكمل سقوطه على الأرض، فلم يأتِ أحدٌ إلى الآن لإصلاحِ ما هدّمته الحرب..