سامح المحاريق
كاتب أردني
لا يشكِّل ما تحمله كتب التراث العربي من قصائد نسبةً تصل في أحسن أحوالها إلى 1% من المُنتَج الشعريّ العربيّ، ويكفي أن تجلس في أمسية في أحد المجتمعات البدويّة أو في سهرة جبليّة على الساحل السوريّ، أو الصَّعيد المصريّ، حتى تستمع لكثير من الشِّعر الذي يكون مصيره المشترك هو النّسيان الكامل؛ حتى وإنْ حملته ذاكرة الكون بوصفِه ذبذباتٍ صوتيّة أحدثت اختلالًا في عناصر المادة، وأمام هذه التجربة يجد الإنسان نفسه في مواجهة عبثيّة مع الذاكرة الماكرة للتاريخ.
هي أكثر مَكرًا ممّا نتصوَّر، ففي بلدٍ ما، قبل عشرات السنين، كان أحدهم يرسل إلى المجلّة بقصيدة يؤمِّل أن تدشِّنه شاعرًا مُعترَفًا به، واليوم، ينضمُّ صاحبنا إلى قافلة الغبار الذرِيّ في الكون، وقصيدته هاجعة من غير قارئ واحد في بطن أرشيف مكتبة عامّة لغايات التوثيق الذي يُعنى بالأخبار والأحداث الأخرى التي ضمَّها ذلك العدد المنسيّ من المجلّة.
هذه العدسة التي تنصرف لتأمُّل الماضي، تقابلها أخرى تتصدّى للمستقبل، حيث يذهب كثير ممّا يسمّى أو يتخيَّل أنه "شِعر" إلى خوادم عملاقة فيبقى قابلًا للاستعادة، ومع ذلك فالمتلقّي يحتاج لبعض الوقت لتمييز أنَّ ما يقرأه أثناء التصفُّح غير المكترِث لمواقع التواصل الاجتماعي ينتمي إلى عالم الشِّعر الذي أصبح متَّسِعًا لدرجة انفلاته من أيّ تعريف أو تحديد، فالأمر يبدو أحيانًا مسألةً هندسيّةً أكثر ممّا هي لغويّة أو شعوريّة؛ عبارات متقطِّعة لا تملأ السَّطر، ونقلات إلى الأسطر التالية المتباينة في طولها، وبذلك يبدأ تعالق النص المكتوب ذهنيًّا مع التصوُّرات المُسبَقة عن الشِّعر في حقبته الحديثة المتحرِّرة، وينضمُّ الشِّعرُ إلى عالم السّيولة ما بعد الحداثيّة، والشُّيوع المفرط الذي أتاحته وسائل التواصل التي أنهت عصرًا من ديكتاتوريّة بريد القرّاء أو المحرِّر الثقافي.
السّيولة المُفرِطة لعلاقة الشاعر بالشِّعر أو النص الذي يبدو شعريًّا تجعل الاتِّساع والتداخُل مرهقًا أمام المتلقي العمومي، لدرجة أنني اعتبرتُ صفحات كاملة من كتاب مثل "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" لـ"ميشيل فوكو" نصوصًا شعريّة بمفاهيميّة ما بعد الحداثة، وإذا كُنّا نمتلك حدًّا أدنى من التصوُّر للشاعر بوصفه إدعاءً ذاتيًّا مجانيًّا لا يتطلّب الحضور أمام لجان نقابيّة، وللنصِّ الشعريّ، بتجلّيه الشَّكلي ذي الطبيعة شبه الهندسيّة، فإنَّنا بحاجة لمراجعة مفهوم "المتلقي العمومي"، والذي يُكمل ثالوث تشظّي الكينونة الشعريّة التي أخذت تترنَّح أمام محطّات كثيرة، فكانت المطبعة تفسح للنص النثريّ مكانه، فلم يعُد النَّظم الشعريّ ضروريًّا لاستبقاء النص في الذاكرة وتداوله بين الناس، ومن بعدها كانت تطوُّرات الفنون البصريّة تجرِّد الشعريّ من مسعاه العبثيّ في استراق النَّظر على جريان الزَّمن، فكم تبدو بائسة محاولة الأعشى موصفًا هريرة "غراء فرعاء مصقول عوارضها"؟ وكم من صورة أنثويّة يمكن أن يستدعي الوصف من غير أن يستدعي صورةً واحدةً بعينها؟
ثم ماذا؟
أخذت التكنولوجيا الحديثة تختزل مشاعر كثيرة، ألم يتواضع الفضول للسَّفر والترحال أمام مليارات الصُّور التي ترصد العالم بأسرِه؟ وكذلك الحنين الذي يتخفَّف من وطأته مع مكالمة مرئيّة عبر تطبيق على شبكة الإنترنت، والغيظ والغضب والحقد ألا يمكن تنفيسها في إدراج صغير أو كبير يصدر عن شخص مجهول؟ ما الذي يبقى أمام الشاعر والمتلقي على السواء؟ إنه الشعور بالوحدة والهزيمة، المصادفة التي تدفع الشاعر والمتلقي العمومي بصورة حرجة ومحرجة للتواجد في هامش التمرُّد.
لم يعُد الشِّعر قصديًّا، لم يعُد مرتبطًا بغاية ما، فقد انتهت أزمنة الآمال والهموم الكبيرة، وليس في العالم ما يكفي لزوّادة شاعر واحد، هي نتف تصطدم بفضاء الشّواش النفسي للمتلقي العمومي الذي يستمع لصرخة بعيدة فقَدَتْ زخمها لتصله حسيسًا أو هسيسًا، فيتوقف عند مقولة ما، مقولة بين مقولات أخرى كثيرة، ليس مهمًّا صاحبُها، المهمّ أنه صوت يخرج من الخندق نفسه أو الخندق المجاور، استغاثة في مواجهة ما هو مجهول وما هو ورائي، بما يعني ما وراء الظاهر من براءة العصر التواصلي الذي يحوِّل الإنسان إلى سلعة تنقاد بحبال الطَّلب الاستهلاكيّ.
نجامل بعضنا بعضًا بأن نترك ببساطة إشارة الإعجاب الزرقاء، ولكن علامات الاستحسان ليست كافية من أجل إعالة قصيدة تخرج مثل كائن يتيم وعاجز وطاعن في الخيبة، فالمتلقي العمومي هو الذي يصنع الشاعر المتعلق بـِ"كناسة" إشارات الانتباه والإعجاب. بمحاذاة ذلك، ملايين كثيرة تدمن الصراخ لأنه يتحوَّل إلى هستيريا جماعيّة أمام سفينة نجاة يمكن أنْ تعبُرَ هاوية النّسيان المتّسعة، وقلّة من الشعراء الحقيقيين يتمكنون من القفز على ظهر طائر رخّ يحملهم إلى خلود مؤقَّت يحلِّق في فضاء اللغة المحدودة، فضاء الذبذبات القليلة التي تخترق جدار المعنى لتستولد شيئًا جديرًا بالبقاء وسط الأشعار المرسَلَة للعابرين مصادفة أثناء تقليبهم.
تُسمّى الوجوه المبتسمة أو العابسة على مواقع التواصل "الإيموجي"، ومع تواصل تفكُّك اللغة وتشتُّتها كأداة تواصل، فربما يكون العالم في النهاية معرَّضًا لإنتاج شعري جديد يشبه الإنتاج ما قبل اللغويّ الذي وصفه الشاعر الأردني الشاب مروان البطوش: "كان للشعراء -قبل اختراع اللغة- يومٌ يجتمعون فيه إلى قمّة جبلٍ ويصرخون، حتّى يغشى عليهم".
وفي عالم يضجُّ بالعبث والفوضى، فالتَّعب لا بدَّ أن يُنتجَ صمتًا مريعًا ومستحكمًا.