عبدالحميد محمد الراوي
كاتب وباحث تربوي
بَرْهَنَ الكاتب "آندري مالرو" على عزم لا يكلّ طيلة أيّامه كي يجعل مراحل حياته المختلفة تشبه فصول قصة، وكان مستعدًّا للتضحية في سبيل الوصول إلى هدفه. فكان يرمي من خلال مواقفه، ومن خلال ما كتب من قصص، إلى أن يذكِّر الناس "بالنُّبل الذي يحملونه في داخلهم" بحسب تعبيره. ولعلَّ في هذه السيرة المقتضبة عن حياته ما يشي للقارئ بأنَّ "مالرو" كان بحقّ شخصية مثيرة للجدل.
أصيب الفرنسيون بالدهشة لمّا أعلن "آندري مالرو" في شهر كانون الأول/ ديسمبر 1971 -وكان عمره حينئذ سبعين سنة- عن عزمه السفر إلى باكستان الشرقية للانضمام إلى صفوف المقاتلين من أجل انفصال بنغلاديش، وكان النحول والضعف يبدوان في ذلك الوقت على جسمه، مما جعل الكثيرين يشكّون في جدوى الخدمات التي يمكنه أن يقدِّمها إلى العسكريين.
فهل كان "مالرو" بصفته واحدًا من ألمع كُتّاب هذا العصر، ووزيرًا مرتين للجنرال "ديجول"، وصديقًا حميمًا لبعض عظماء العالم -ماو تسي تونغ، تروتسكي، ديجول، هيرو هيتو، هيلي سلاسي، نهرو، كندي، وغيرهم- هل كان يفكر في أنه، بوضعه لاسمه في الميزان سيعجِّل بإنهاء المعارك؟ أم هل كان يريد مجرَّد التذكير بأنه شارك في أكبر معارك ذلك القرن؟ وأيًا كان الجواب، فإنَّ حرب بنغلاديش انتهت قبل أن ينتهي "مالرو" من ترتيب شؤونه ويغادر باريس.
ولا شكَّ أنَّ في هذا السفر المُعلن، الذي لم يتمّ، شيئًا مثيرًا للعواطف لدى أولئك الذين عرفوا هذا الكاتب، الذي برهن عن عزم لا يكلّ طيلة أيامه على جعل مراحل حياته المختلفة تشبه فصول قصة، والذي كان مستعدًا للتضحية -إذا دعت الحاجة- في سبيل الوصول إلى هدفه. فكان يرمي من خلال المَثَل الذي ضربه، ومن خلال ما كتب من قصص، إلى أن يذكِّر الناس "بالنبل الذي يحملونه في داخلهم" بحسب تعبيره. أمّا حياته التي طبعها مزاجه العصبيّ، فإنها أثّرت إلى حد كبير على قصصه، فتميّزت هذه بدورها بأسلوب عصبي وكان هدفه فيها "توسيع أكبر خبرة ممكنة إلى وجدان (أو إدراك للذات، أو ضمير)" بحسب قوله.
كانت حياة "آندري مالرو" قصة حقيقيّة(1)، فقد وُلد في مدينة باريس سنة 1901م ومات بالمدينة نفسها عن عمر يناهز 75عامًا في يوم 13-11-1976م، ولم يعرف سوى قليلين من مشاهير الكتاب الغربيين ما عرفه "مالرو" من شهرة ومجد. وبعد عشر سنوات من موته، ما زال تراثه يذكِّرنا بأنَّ تاريخ الرجال يحتاج إلى أن يحتوي على نسبة من روح المغامرة والشجاعة، وعلى قدر من الميل الحقيقي إلى المثاليّة.
• لولا "كلارا" لكنتُ أصبحتُ فأر مكتبة
كان والد "مالرو" مخترعًا، ثم رجل أعمال، ولم يلبث أن طلّق والدته الإيطالية الأصل، فاضطرّت هذه الأخيرة إلى العمل كبائعة أغذية في إحدى ضواحي باريس لتربية ابنها، ويقول "مالرو":
"إنني كنتُ أبغض طفولتي التي قضيتها في دكان والدتي، لأنَّ الحياة في ذلك المكان كانت رديئة"، وهذا ما قاده إلى التواجد بصورة شبه مستمرة في مكتبة البلدية، حيث تمكَّن من قراءة عدد كبير من الكتب، وهو ما يزال تلميذًا في الابتدائية.
ولمّا بلغ الخامسة عشرة من العمر، بدأ يستكشف صناديق بائعي الكتب القديمة على أرصفة نهر السين(2) ويبيع الكتب النادرة التي يحصل عليها لإحدى مكتبات الحيّ اللاتيني(3) فطبعت أحداث التاريخ حياة "مالرو" تمامًا كما طبعتها الكتب، فأشار إلى هذا القرن بواسطة استعارة حيث قال إنه عبارة عن "شاحنة تنتصب عليها الأسلحة (كما يغطي الشوك بعض الأشجار)؛ ذلك لأنه شاهد في الثالثة عشرة من عمره -إبان الحرب العالمية الأولى- سيارات الأجرة من الأحجام المختلفة وهي تنطلق من مدينة باريس محمَّلة بالجنود المدجَّجين بالسلاح نحو جبهة المارن إلى الشرق، ولأنَّ دويّ المدافع كان آنذاك يصمّ أذنيه.
كان "مالرو" في السادسة عشرة من عمره لمّا استولى الشيوعيون على الحكم في روسيا سنة (1917م)، وانتهت الحرب العالمية الأولى ولم يبلغ بعد سبعة عشرة سنة، وكانت سنّه دون العشرين لمّا أسّس الحزب الشيوعي الفرنسي بمدينة تور -شمال فرنسا- على مبادئ الشيوعية، ولما أقام موسوليني الحزب الفاشي في إيطاليا.
وكانت هذه الأحداث المهمة المتتالية أكثر ما يلزم لينمو تعطُّش كبير للعمل المؤثِّر لدى هذا الشاب المضطرب الخيال، وهذا أيضًا ما جعله يختلف بصورة جذريّة عن أفراد الجيل الذي سبقه، إذ كان هؤلاء يضعون الأدب فوق كل شيء "وبالنسبة لهم، لم يتغيَّر شيء في الحياة، مع أنَّ التاريخ مرَّ في حقلنا كما تمرُّ الدبابة" بحسب تعبير "مالرو".
وفي سنة (1919م) كان "مالرو" شابًا يحب التأنق، يعيش بمكافآت زهيدة يحصل عليها بواسطة اكتشاف طبعات نادرة لصالح تاجر كتب، وبعد أن قرَّر عدم الترشُّح لشهادة الثانوية العامة، تابع بعض الدروس لتعلم اللغتين الصينية والفارسية بمدرسة اللوغ الشرقيّة الحيّة، وجمع بعض المعلومات عن تاريخ الفن في مدرسة اللوفر.
بدأ ينشر مقالاته وهو في الثانية عشرة من عمره في مجلات ذائعة الشهرة، وما فتئت محاولاته الأدبية الأولى هذه أن لفتت إليه انتباه كبار النقاد. وفي هذه الظروف صادف شابة، شدَّته إليها بذكائها وجمالها، تدعى "كلارا جولد شميدت"(4) فقرَّر بسرعة أن يتزوَّجها، وقال لها بعد ذلك بفترة: "لولاك يا كلارا كنتُ أصبحتُ فأر مكتبة"، ولمّا سألته "كلارا" كيف ينوي أن يوفر لها المعيشة، أجاب قائلًا: "ممّا لا شك فيه أنك لا تتصورين أنني سأعمل من أجل ذلك".
• افتتاحيّات ملتهبة حماسةً لصحيفة محظورة
كان "مالرو" يفكر في إنجاز مشروع خاص، حين اكتشف في تقرير أعده أحد اختصاصيي الآثار أنه يوجد على القرب من أنجكور في كمبوديا معبد صغير متداعي الجدران مختبئ في الأدغال بين الأشجار المتشابكة، يحتوي على رسوم بارزة في غاية الجمال، فقال في نفسه إنَّ هذه العجائب الفنيّة التي طواها النسيان وشملها الإهمال، لا بد أنه إذا نجح في اكتشافها وانتشالها، سيجد من بين عشاق الفن مَن يشتريها منه. فسافر مع زوجته "كلارا" إلى الهند الصينية، بعد أن جمع ما سيحتاجان إليه من مناشير وأدوات أخرى، وملابس صيفية وغيرها، إلا أنَّ المغامرة سرعان ما فشلت فاعتُقل "مالرو" وأُحضر إلى المحكمة، فقال دفاعًا عن نفسه: "إنَّ المعبد الذي كان ينوي تجريده من محتوياته الفنيّة النادرة الجميلة لم يكن قد تمَّ بعد اعتباره أثرًا تاريخيًّا بصفة رسميّة، وإنَّ الحجارة في هذه الحالة تعتبر ملكًا لمن يكتشفها"، وهذه الحجة باطلة بالطبع وغير مقنعة، فاستطاعت "كلارا" أن ترجع إلى فرنسا، وفي باريس استنجدت بعدد من الكُتّاب الذين تضامنوا مع "مالرو" وتظاهروا من أجل إطلاق سراحه، وحوِّل الحكم بعد الاستئناف إلى سنة واحدة مع تأجيل التنفيذ ثم ألغي.
وعلى الرغم من هذا الفشل والإذلال الذي تعرَّض له، فإنَّ "مالرو" قرَّر العودة إلى الهند الصينية مرة أخرى، وكان إبان محاكمته قد تمكَّن من اكتشاف الظروف السيّئة التي كان يعيش فيها الفيتناميون والكمبوديون تحت السيطرة الاستعمارية الفرنسية: حيث كان السبعة عشر مليونًا، الذين شكّلوا سكان الهند الصينية آنذاك يُستغلون استغلالًا بشعًا كيدٍ عاملةٍ رخيصة في مزارع أشجار المطّاط والأرز، بينما كان قليلون منهم -في أحسن الأحوال- يُستغلون كموظفين صغار في مكاتب الحكومة الاستعمارية، دون أيّ أمل في الارتقاء في سلّم الإدارة، فأسَّس "مالرو" مع "كلارا" ومحام فرنسي من سايجون، يدعى "بول مونين" صحيفة أطلقوا عليها اسم "الهند الصينية" للدفاع عن حقوق السكان المحليين.
وهنا نرى "مالرو"، المحتج الحاد، يعبِّر بغضب عن آرائه المُعادية للاستعمار في افتتاحيات هذه الصحيفة الأسبوعية الصغيرة، بعزم لا يكلّ؛ فلم تثنِه تهديدات ذوي النفوذ ولا تحذيرات الوالي، ولا افتراءات الصحف المحليّة المرتبطة بالفئات ذات المصالح. ولمّا لم تجد السلطات الاستعمارية وسيلة قانونية لمنع صحيفة "الهند الصينية" من الظهور، قرَّرت تشديد الضغط على أصحاب المطابع لمنع إصدارها، إلا أنَّ "مالرو" وزوجته صمدا في وجه كل هذه الضغوط، فاشتريا حروفًا مطبعيّة من هونغ كونغ، وصارا ينجزان طباعة الصحيفة في القبو الذي كانا يسكنان فيه، إلا أنهما ما لبثا أن أدركا أنهما لا يستطيعان الاستمرار طويلًا على هذه الحال غير الطبيعيّة، وبعد سنة من ممارسة عملهما الشاق، أرغما على الرجوع مهزومين إلى فرنسا.
وعلى متن الباخرة التي نقلته إلى فرنسا كَتَبَ "مالرو" قصته الشهيرة (إغراء الغرب). لقد شكلت تجربته الأسيوية حافزًا قويًا لبروز موهبته، فاستلهم من مغامراته في الهند الصينية أربعة كتب، بين (1986- 1933) نال بواسطة أحدها "الدرب الملكي" LA VOIE ROYALE جائزة الحلفاء المشتركة، وبواسطة آخر "الوضع البشري" LA CONDITION HUMAINE جائزة "جونكور" بإجماع أعضاء لجنة التحكيم، وفي غضون بضعة أسابيع، بلغت هذه القصة الأخيرة طبعتها الخامسة والعشرين.
• إسبانيا مسرح على مستوى طموحه
استطاع "مالرو" ببراعة فائقة، أن يحوِّل ترجمة حياته إلى أسطورة، ولم يتمكَّن من القيام بمثل هذا التحويل، بالبراعة نفسها، سوى قليلين من الكتاب، وبما أنه وصف الثورة الصينية في صفحات رائعة من قصته الشهيرة، "الفاتحون" LES CONQUERANTS نما لدى الجمهور بأنه كان مناضلًا كبيرًا، ولم يحاول "مالرو" نفي هذا التصوُّر على الإطلاق، بل على العكس حافظ بمهارة على استمرار الغموض حول فلسفته السياسية.
وفي الواقع اكتفى "مالرو" بتحويل ما شاهده من غليان شعبي في الهند الصينية إلى الصين نفسها مستعينًا في هذا التغيير بمواهبه الفنية ككاتب، وهذا ما جعل "تروتسكي"، زميل "لينين"، ومؤسس الجيش الأحمر الروسي، يرى فيه أحد المسؤولين الأساسيين عن تمرُّد مدينة كانتون جنوب الصين، والحقّ أنه إذا كان "مالرو" معارضًا شديدًا للفاشية، فإنه لم يكن شيوعيًا ماركسيًا، بل كان فكره متعلقًا بالأساطير والأحلام والأوهام، أكثر ممّا كان فكرًا ماديًّا، بل يمكننا القول إنَّه كان من أكثر أهل عصره معارضة للشيوعية.
كانت أسطورة "مالرو" ما زالت في بدايتها، فقاده تعلُّقه الشديد بالمغامرات إلى السفر بصحبة مواطنه، الطيار "إدوار كونغليون مولنيه" نحو الجزيرة العربية بحثًا عن عاصمة ملكة سبأ الشهيرة.
ولمّا شبَّت الحرب الأهلية في إسبانيا يوم (18 يوليو سنة 1936م) صار "مالرو" فجأة قائد سرب من طائرات الجمهورية يحمل اسم ESPANA، فعلى الرغم من أنه لم يؤدِّ الخدمة العسكرية، ومع أنه كان عصبيًا جدًا، وبعيدًا كل البعد عن المهارة التقنيّة، ولا يفتر عن التدخين، إلا أنه استطاع، وهو يقود طائرة مقاتلة، أن يستغل علاقاته -التي كانت مهمة جدًا- من أجل حصول مدريد على طائرات وتجنيد طيارين كان لهم دور مهم في المعركة.
إلّا أنَّ الطائرات المُشار إليها كانت غير ملائمة، بحيث كان لا بد من إلقاء القنابل من النوافذ، وبعد ستة أشهر لم يبق من السرب سوى أربع طائرات، وما وصفه "مالرو" من بطولة وأخوّة لدى رفاق السلاح في قصته المشهورة "الأمل" لم يكن أمرًا خياليًا على الإطلاق، بل كان صورة حيّة لما جرى بالفعل، فكان الوصف الرائع للمعارك الحربية التي شنّها هؤلاء الرجال مستوحى من الواقع، ومن هنا جاءت على الأرجح روعته "إننا قاتلنا من أجل قيم كنّا نعتبرها شاملة مطلقة" كما قال.
• "مالرو" يقاوم الاحتلال الألماني لبلاده
وفي شهر أيلول/ سبتمبر من عام (1939م) التحق "مالرو" بكتيبة من المدرّعات بمدينة بروفين كجندي بسيط متطوِّع، وكان عمره حينئذ ثمان وثلاثين سنة، وما فتئ رفاقه الجدد أن لاحظوا أنَّ سترته غير نظاميّة، ذاك أنَّ "مالرو" الذي كان يحب الأناقة، كان قد كلّف مصمم الأزياء الشهير "لانفين" بإنجاز هذه السترة.
وكان يتباهى بمعرفة بعض الوزراء وعدد من أعضاء المجمع الفرنسي ACADEMIM الشهير. وما كان هذا المظهر الأنيق وهذا التباهي بمعرفة بعض أرباب السياسة والفكر ليطيبا لقائد الكتيبة الذي اشمأزَّ من "مالرو"، وأمره بالسَّير مسافة ثلاثين كيلو مترًا، إلا أنَّ هذا الجهد المضني لم يثنِ من عزمه، فلم يتراجع ولم يطلب الإعفاء من الخدمة، بل تحمَّل وكزَّ أسنانه.
وفي الأيام الأولى من انهيار الجيش الفرنسي، ألقى الألمانيون القبض على جميع أفراد الكتيبة واستولوا على معدّاتها بالكامل، على بعد عدة كيلو مترات من قاعدتها، فاستطاع "مالرو" أن يهرب من سجن أعدائه، وانسحب إلى المنطقة الجنوبية، وبدأ في الانتظار والمقاومة.
وفي شهر آذار/ مارس (1944م) استطاع عقيد يدعى "برجي" أن يُحكم سيطرته على جماعات المقاومين، الذين كانوا يلاحقون المحتلّ الألماني باستمرار في منطقة دوردونيه، وبفترة وجيزة بعد انزال الحلفاء، شارك "مالرو" هو والعقيد "برجي" بوحدته في عمليات حرب العصابات التي أسهمت في عرقلة تقدُّم فرقة س س SS المنتخبة الشهيرة، داس راسش DAS REICH وفي شهر أيلول/ سبتمبر أمسك "برجي" و"مالرو" بزمام قيادة لوء الزاس- لورين الذي كان عدد أفراده لا يتجاوز ألفي رجل مجهزين تجهيزًا سيّئًا، والذي اشتهر بتحرير مدينة دانماري قبل أن يساهم في احتواء الهجوم المضاد الذي شنَّه الألمانيون وكادوا بواسطته أن يسترجعوا مدينة ستراسبورج.
هكذا أنهى الجندي البسيط "مالرو" الحرب بعد أن ألحق بالنازيين خسائر أكبر من تلك التي ألحقها بهم جلّ الضباط المحترفين.
• صديق موهوب يحمل حماسةً كبيرةً للأقدار العالية
كان "مالرو" يرى أنَّ أيّ رجل "لا بد أن يكون متعلقًا بمثل أعلى" وأنه "ينبغي أن نبحث في ذاتنا عن شيء آخر غير ذاتنا"، "ولا يحدّد قدره إلا بما تمكَّن من الوصول إليه فعلًا، وما عدا ذلك ليس سوى أسرار تفيهة حقيرة". ويضيف "مالرو": "لا يهمّني ما لا يهم إلا إيّاي" وهذا ما جعله لا يبوح إلا بالقليل من أسراره الخاصة.
ومع أنه فُتن بحب العمل الموضوعي وجنَّد نفسه له، إلّا أنه كان مفكرًا يعتقد أنَّ الأفكار تسمو على كل شيء، وكان بالفعل لا يشعر بالراحة الكاملة إلا في المتاحف، وبين الكتب والآثار والتحف الفنية. وهكذا، لمّا عثر على ابنته "فلورنس" في نهاية الحرب، بعد فراق دام خمس سنوات، وكان عمرها (12) عامًا عاجلها بهذا السؤال: "ماذا تقرئين يا فلورنس؟". إلا أنَّ هذا المستوى من البراعة الفكريّة لم يقضِ تمامًا على ما كان "مالرو" يخفيه من كرم النفس، فقد ترك زوجته "كلارا" سنة (1963م) وعاش مع صحفيّة شابة تدعى "جوزيف كلوتيس" منذ سنة (1973) وأنجبت له ابنين. ولأنَّ بعض فئات المجتمع كانت تُلاحَق ويتمّ نفيها في الفترة التي انفصل فيها عن "كلارا"؛ فإنه لم يُطلّقها علنًا حتى لا يتركها دون حماية في تلك الظروف القاسية.
• "مالرو" وزيرًا
ولمّا تعيَّن "مالرو" وزيرًا فإنَّ كثيرين من أولئك الذين أحبّوا فيه الرجل العملي، والرجل الثائر، لم يرتاحوا لهذا التطوُّر الذي طرأ على حياته، وصاروا لا يعترفون به تمامًا، لأنه تعدّى بدخوله في الحكومة على أحلامهم وأوهامهم وتصوُّراتهم.
غدا "مالرو" وزيرًا للثقافة ابتداء من سنة (1959م) بعد أن قضى فترة وجيزة في مكتب "ديجول" بصفته وزيرًا للإعلام في عام (1945- 1946)، وصار يبغض سنوات شبابه التي قضاها في الفقر، ولا يكره مظاهر السلطة الخارجية، ولا رغد العيش، ولا المطاعم الشهيرة ولا المواكب الرسمية، وكان كثيرون يتساءلون كيف يمكنه أن يؤيِّد حكومة كانت تعمل على استمرار حرب الجزائر.
وكان جوابه عن هذا التساؤل، والنقد الذي ينطوي عليه كالآتي: (أين يوجد أفضل مدخل لإنهاء هذه الحرب؛ في مقهى "لفلور"(5) أم داخل الحكومة؟). إنَّ دخول "مالرو" في الحكومة أعانه في الواقع على العمل السرّي لتخليص عدد من المناضلين الجزائريين من أسوأ السجون الفرنسيّة.
وفي سنة (1961م) عندما قام القادة العسكريون الفرنسيون المتواجدون في الجزائر يتمرُّد ضدّ حكومتهم نكتشف أنَّ "مالرو" ما زال منسجمًا مع أسطورته، حيث صرَّح إبان إنعقاد مجلس الوزراء أنه سيصعد على أوَّل دبّابة لمحاربة المتمردين، وكتب "ديجول" في "مذكرات الأمل"(6): "يجلس إلى يميني، وسيجلس دائمًا آندري مالرو، فوجود هذا الصديق الموهوب المتحمس للأقدار العالية إلى جانبي يجعلني أشعر أنني من هذه الجهة في مأمن من الغوغاء".
• كان يحلم أن يكون "جول فري" الثقافة
بقى "مالرو" وزيرًا للشؤون الثقافيّة في حكم الجنرال "ديجول" لمدة عشر سنوات من (1959) إلى (1969) الأمر الذي مكَّنه من تحقيق حلم طالما راوده، وتطبيق سياسة ثقافيّة طالما فكّر فيها.
هكذا أشرف على تأسيس عدد كبير من دور الشباب والثقافة في جميع أنحاء فرنسا تقريبًا، وكانت فكرة إنشاء مثل هذه الدور تخامره منذ أربع عشرة سنة، وبالتحديد منذ سنة (1946م)، فكان من أحلامه الكبرى أن يقدِّم للثقافة في بلاده خدمة تضاهي تلك التي قدَّمها "جول فري"(7) في مجال التعليم العام.
وفي سنة (1971م) نشر "مالرو" كتابه الصغير "أشجار البلوط التي تُصرع" الذي وصف فيه زيارته الأخيرة للجنرال "ديجول" بكولومبي في شهر كانون الأول/ ديسمبر عام (1969م) قبل موت هذا الأخير بعشرة أشهر، فوصف وقت مغادرته لـِ"ديجول" بقوله: "إنَّ النجوم كانت تتلألأ في السماء"، لكنَّ هذا القول منافٍ تمامًا للحقيقة، ويغلب على الظنّ أنَّ هذه العبارة هي من مادة ما يُعرف بـِ"الكذب الشعري أو الفني" الذي استعمله "مالرو" كثيرًا، ولكنها –في الوقت نفسه- كانت بمثابة إشارة إلى بقاء الأمل في قلبه. ومهما كان فإنَّ المؤرخين الذين ليسوا من أرباب الفن سجَّلوا هذ اللقاء الأخير بين "مالرو" و"ديجول"، وأفادوا أنَّ المقابلة المُشار إليها انتهت عند الساعة الثالثة بعد الظهر، وأنه في ذلك الوقت لم تكن أيّ نجمة تلمع في سماء كولومبي.
• الهوامش والمراجع:
1- مقال لجان لاكتور في مجلة المختار الشهرية، النسخة الفرنسية، رقم (447) نوفمبر (1986م)، ص60-66. وانظر:
- آندري مالرو، حياة هذا القرن، ظهرت هذه القصة سنة 1973م
- قصص مالرو المختلفة: أغراء الغرب 1925، الدرب الملكي، الوضع البشري، الفاتحون، ظهرت هذه القصص الشهيرة بين سنة 1926- و1933م، ثم الأمل 1973، الأصوات الصامتة، والذكريات المعاكسة 1967م، أشجار البلوط التي تُصرع 1971م
2- يشكل نهر السين أحد أشهر معالم مدينة باريس، إن لم يكن أشهرها على الإطلاق.
3- يقع الحيّ اللاتيني في قلب المنطقة الإدارية الخامسة في باريس، وهو حيّ الثقافة والطلاب والسوربون وغيرها؛ حيث توجد المقاهي والمطاعم الصغيرة والمكتبات بكثرة، وجلّ روّاد هذه الأماكن من الطلاب والباحثين والفلاسفة والكتاب والفنانين، بينهم نماذج من شتى أنواع العالم.
4- كلارا امرأة تزوجها مالرو في شبابه، ساعدته على القيام ببعض مغامراته.
5- مقهى معروف في الحيّ السابع في باريس، على شارع سين- جرمين، يبدو أنَّ جلَّ روّاده من المثقفين والمتفلسفة المنحرفين جنسيًا.
6- وهو آخر ما كتب، وجدير بالذكر أنَّ كتاب " ذكريات الأمل " بقى غير كامل بسبب موت ديجول.
7- رجل دولة فرنسي (1832- 1893)م كان له الفضل في التصريح لأوَّل مرَّة بجعل التعليم الابتدائي في فرنسا مجانيًّا خلال الفترة التي قضاها وزيرًا للتعليم العام، وكان جول فري بجانب ذلك مستعمرًا كبيرًا، إذ ساهم مساهمة كبيرة في انتشار الاستعمار الفرنسي وتوسيع نطاقه.