د. مها العتوم
شاعرة وأكاديمية أردنية
ظلَّ مفهوم قصيدة النثر غائمًا عربيًّا، ومحلّ صراع وحيرة وتردُّد على الصعيدين الإبداعي والنقدي، وفي هذه الدّراسة تسلِّط الكاتبة الضوء على قصيدة النثر عند أمجد ناصر، والتحوُّلات والتطوُّرات التي مرَّت بها قصيدته، بدءًا من قصيدة التفعيلة، التي كتبها بأسلوبه الخاص والمغاير للمألوف والسائد، بما يُظهر تميُّزه وعمق موهبته من جهة، ويبيِّن ملامح الخطوات الجديدة الواثقة التي سيخطوها باتِّجاه كتابة قصيدة النثر من جهة أخرى.
شهدت العقود الثلاثة الأخيرة حضورًا لافتًا لقصيدة النثر في الأردن، وهذه الحركة وإن تخلّفت زمنيًّا ونسبيًّا عن مثيلاتها في الوطن العربي، إلا أنَّ من اللافت أنها استفادت من النقاش الدائر في الساحة الثقافية العربية وخاصة في لبنان التي شهدت ولادة هذه القصيدة، والصراع الكبير حول قوانينها وشرعيتها، وظهرت في الساحة الأردنية نماذج ناضجة فنيًّا وجماليًّا، وعلى قدر كبير من الفهم لأدوات وإجراءات قصيدة النثر، وشروطها الفنية والجمالية إذا ما قورنت بقصيدة النثر العربية. ولكنّ النقد لم يواكب هذه القصيدة كما قصّر في مواكبة الأشكال الأخرى كذلك، إلا أنَّ علامات الاستفهام التصقت بهذه القصيدة أكثر من قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية نظرًا لعدم استقرارها إبداعيًّا ونقديًّا، محليًّا وعربيًّا، على الرغم من وجود النماذج الإبداعية المتفردة ومنها أمجد ناصر موضوع هذه الدراسة، بالإضافة إلى أسماء أخرى سجّلت حضورًا مميّزًا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: ثريا ملحس وزليخة أبوريشة، وزياد العناني، ونادر هدى، ورانة نزال، ومريم شريف، ومحمد عريقات، ومروان البطوش، وجمانة مصطفى، وسنابل قمو، وسناء الجريري، وإسلام سمحان، وأحمد يهوه، ومهند السبتي، ومحمد المعايطة، وماهر القيسي، وبريهان الترك... ولا بدَّ من التأكيد على أهميّة الأصوات الشعريّة الجديدة، وعلى أهميّة حضورها، علـى الرّغم من تفاوتها، وضرورة متابعتها نقديًّا، واكتشاف جمالياتها، وإضافتها الفنيّة إلى الشعريّة العربيّة.
وأمّا هذه الدّراسة فإنها تُسلط الضوء على قصيدة النثر عند أمجد ناصر، والتحوُّلات والتطوُّرات التي مرَّت بها قصيدته، بدءًا من قصيدة التفعيلة، التي كتبها بأسلوبه الخاص والمغاير للمألوف والسائد، بما يظهر تميُّزه وعمق موهبته من جهة، ويبيِّن ملامح الخطوات الجديدة الواثقة التي سيخطوها باتجاه كتابة قصيدة النثر من جهة أخرى، وهي البداية التي صنعت له أساسًا صلبًا عميق المعرفة بأوزان الخليل وشروط كتابة قصيدة التفعيلة، ومكّنته من التحوُّل إلى قصيدة النثر في ضوء الاستفادة من إمكاناتها وإجراءاتها المختلفة. وقد كانت المؤثرات العربية جليّة وواضحة فيها، وكذلك المؤثرات الغربية بفعل الترجمة وآثارها في كتاباته، ومع ذلك فقد كان لقصيدة التفعيلة العراقية آثارها البيّنة، التي أشار إليها في مقابلاته، والتي لفتت إليه الأنظار منذ بداياته، ومنذ ديوانه الأوَّل، ولكنه سرعان ما تحوَّل إلى قصيدة النثر منذ ديوانه الثاني "منذ جلعاد كان يصعد الجبل" (1979)، وكتب قصيدة نافح عنها وعن شروطها في مقالاته ومقابلاته فيما بعد حتى وفاته.
وأمّا مفهوم قصيدة النثر فقد ظلَّ غائمًا عربيًّا، ومحلّ صراع وحيرة وتردُّد على الصعيدين الإبداعي والنقدي. فهي قصيدة تفتقر إلى نظريّتها، ويصعب بالتالي التحقق من المعيارية فيها. قصيدة ذات تجارب غنية ومتعددة، لكنها لا تنضبط أبدًا وفق الصفات الثلاث في كتاب "سوزان برنار" الشهير، لا في فرنسا وغيرها، ولا في ثقافة الشعر العربية(1)، وقد كان لمجلة "شعر" وروّادها الأوائل فضيلة السبق في الإعلان عن هذه القصيدة، وكذلك الكتابة عن شروطها وإجراءاتها الفنية والجمالية، من خلال الأسماء الكبيرة التي اجتذبتها المجلة، وقدَّمت قصيدة النثر العربية التي اعتمدت على المصادر الغربية في الترجمة والتقعيد من جهة، وعلى أسماء الشعراء الكبار الذين احتضنتهم وقدَّمت نتاجهم الإبداعي تحت مسمّيات عديدة كانت قصيدة النثر أبرزها وأهمها، ومع ذلك فإنَّ التخبط لم يفارق الحالة العربية بين الاعتراف بقصيدة النثر على أنها شعر أو إنكارها ونسبتها إلى النثر أو المزج بينهما تحت مسميات مختلفة، وصولًا إلى تجاهلها وتجاهل كتّابها، والتخبط في مصدر هذه القصيدة إن كان عربيًّا يعود إلى بدايات عربية قديمة وحديثة مع بداية عصر النهضة، أم أنه غربي المصدر عبر الترجمة والاطلاع على النصوص الغربية في لغاتها أو في ترجماتها، يقول أمجد ناصر: "في ظنّي أنَّ قصيدة النثر العربية، وليدة تلاقح مع شعريات أجنبية، ولا ضير في ذلك ما دامت أنتجت في نهاية الأمر شعرًا عربيًا يستمد مادته وبلاغته من النثر"(2).
ولعله من الثابت أنَّ لمجلة "شعر" وروّادها فضيلة استحضار كتاب "سوزان برنار" (قصيدة النثر من آرثر ميلر إلى رامبو)، واعتباره مرجعًا وبابًا لدخول هذه القصيدة بدمائها الجديدة إلى الشعر العربي، وقد خاضت المجلة صراعات في التحديد والتصنيف مع المتشددين للوزن وبحور الخليل وعلى رأسهم نازك الملائكة، لكنهم كانوا على وعي بالجديد الذي يدعون إليه، وناضلوا من أجله. وجدير بالذِّكر هنا أنَّ قصيدة النثر الغربية قد ظهرت لأسباب اجتماعية وسياسية وفكرية مخالفة ومفارقة للظرف العربي الذي شهد ظهور قصيدة النثر، وعلى الرغم من ذلك فإنَّ مجلة "شعر" هي إفراز ونتيجة للرغبة في التغيير، وقد كان لمؤسسي المجلة فضل الجرأة في التنظير لهذه القصيدة، والإعلان عن شعرائها وقصائدهم وتنظيراتهم رغم سعة الخلاف حول القصيدة، وعلى رأسهم أدونيس ويوسف الخال والكثير ممّن جاؤوا بعدهم(3).
ولعلَّ قصيدة التفعيلة لم تشهد الصراع والخلاف حولها كما حدث في قصيدة النثر، أو أنها شهدت شيئًا من الخلاف والصراع والمقاومة أول ظهورها، لكنها استُقبلت فيما بعد، واستقرَّت، وحظيت بإرساء قواعد لكتابتها، وشروطها المختلفة، وأما قصيدة النثر فظلَّ التخبط فيها قائمًا إلى اليوم، وجعل الكثير من النقاد يقول بخصوصية قصيدة النثر عند كل شاعر، واختلافه عمّن سواه، لكن يظل السؤال قائمًا عن ضرورة وجود ماهية لقصيدة النثر، وشروط عريضة يتفق عليها في كتابة هذا الشعر، ووضع الحدود بينه وبين الأجناس المحاذية والموازية. وهذا ما عبَّر عنه أمجد ناصر في مقالاته وحواراته، يقول: "المشكلة أنَّ الساحة الشعرية العربية اعتبرت أنَّ قصيدة النثر هي كل شكل شعري متحرر من الوزن والقافية بصرف النظر عن تقطيعه أو شكله على الصفحة، أو قربه أو بعده عن النثر نفسه"(4)، وهو يرى أنَّ أدونيس وأنسي الحاج قد عرفا قصيدة النثر من خلال الاطلاع على المصادر الغربية، ولكنهما لم يضعا نظرية بما فعلا، وتركا المجال لشعراء مثل الماغوط وتوفيق الصايغ يكتبون شكلًا يسمونه قصيدة النثر وهو ليس كذلك، وهناك خالدة سعيد التي قدمت رؤيتها حول قصيدة النثر في كتابها: "يوتيوبيا المدينة المثقفة".
ويقول ناصر في موضع آخر: "هذا الشكل، أي الكتلة النثرية العريضة ليس عشوائيًّا، ولا هو مجرّد شكل فقط، إنه في الوقت نفسه مضمون، أقصد أنه نثر، هذا الشكل هو الذي يحدّد من مجرّد النظرة العابرة انتماءها إلى النثر، فهي جنس أدبي خاص، ليست قصيدة متفرعة من القصيدة الحرة. هذا هو واقعها في الشعريات التي ولدت فيها". مع أنه كما يقول في مقابلاته لم يكن مسكونًا بهاجس الشكل(5)، وأنَّ الشكل كان دائمًا ينبع من الكتابة نفسها ويتبعها، ولذلك خرج من الشعر إلى الرواية، وأدب الرحلة، والكتابة الصحفية دون قصد مسبق، وإنّما استجابة لمتطلبات الكتابة وهاجس الإبداع وقلق المبدع الذي لا يركن إلى شكل أو نموذج أو غاية.
ويرى أمجد ناصر في الحوار نفسه أنَّ ديوانه: "حياة كسرد متقطع" يقع في قلب هذا النوع الأدبي المسمى قصيدة نثر، ولا بد أنَّ هذا يدلل على أنَّ الدواوين السابقة كانت تمضي باتجاه قصيدة النثر، ولكنها لا تقع في قلبها كما يفعل في هذا الديوان وما جاء بعده من وجهة نظره. وهو يدلل كذلك على أنَّ أمجد ناصر ظلَّ يجرِّب ويحاول ويطوِّر تجربته وقصيدته، ولم يطمئن إلى شكل واحد، وهو ما تحاول هذه الدراسة تتبُّعه وتقصّيه من خلال تقسيم هذه التجربة إلى ثلاث مراحل متتالية ومترابطة، وهي في الوقت نفسه متصاعدة، وهذا التقسيم وإن كان شكليًّا فنيًّا، إلا أنه ينطوي علـى العديد من التنويعات الموضوعية والفكرية، ولكن كان لا بد من اختيار عنوان ما لكل مرحلة شهدت انعطافًا وتحوُّلًا في تجربة أمجد ناصر الشعرية، واقتراحاته الجمالية في قصيدة النثر العربية، ولعلها تقسيمات لغاية الدرس، فالمرحلة الأولى هي مرحلة البدايات، وملامحها العامة، ثم المرحلة الثانية التي ستشهد الصعود والتطور، وصولًا إلى المرحلة الثالثة التي أعدُّها ذروة التجربة التي وصل إليها أمجد ناصر في "حياة كسرد متقطع"، و"مملكة آدم"، وبينهما كتابه "فرصة ثانية"، وهذه مجمل أعماله وما أراد أن يقوله بالشعر، فالشعر آخر الأمر ليس لغة جميلة، ولكنه لغة كان لا بد أن يخلقها الشاعر ليقول ما لم يكن من الممكن أن يقوله بطريقة أخرى(6).
المرحلة الأولى: مرحلة قصيدة التفعيلة (البدايات) وآثارها اللغوية والفنية والتعبيرية. وتتمثل في ديوانيه: "مديح لمقهى آخر"، و"منذ جلعاد كان يصعد الجبل".
المرحلة الثانية: مرحلة قصيدة النثر (الصعود) بعد الخروج من بيروت، ونضج الأسئلة، وتتمثل في الدواوين التالية: "وصول الغرباء"، و"رعاة العزلة"، و"مرتقى الأنفاس"، و"سُرّ من رآك".
المرحلة الثالثة: مرحلة قصيدة النثر، (قصيدة الكتلة). وفي هذه المرحلة يصل التجريب إلى أقصاه، في كتابة نثر يتقاطع مع الشعر، وتتمثَّل في الدواوين: "حياة كسرد متقطع"، و"فرصة ثانية"، و"مملكة آدم".
وهذه المراحل تمثّل مجمل تجربة أمجد ناصر، وهي منعطفات جمالية، وليست مجرد شكلية، لأنَّ الفروقات بين أنواع كتابة الشعر هي جمالية وفنية في الأساس، ويمكن قراءة تطوُّر قصيدة ناصر من خلال الوقوف على كل مرحلة منها، وتحليل القصائد والأفكار والبنى الفنية والجمالية التي اقترحها في مشروع شعري طويل النفس، يتصاعد طوال الوقت، دون أن يلهث أو يتقهقر، وفي الوقت نفسه ظلَّ يطوِّر بصمته الأسلوبية والتعبيرية، التي يمكن تمييزها بسهولة من خلالها لغته ومعجمه اللغوي والمعرفي والفني.
ولعلَّ هذه المراحل الثلاث تجد تبريرًا لها بأصوات الشعر الثلاثة، والتي تبدو كذلك وكأنها مراحل لا بد أن تعبُرها القصيدة، ويمرُّ بها الشاعر: "أمّا الصوت الأول فصوت الشاعر يتحدث إلى نفسه- أو إلى غير أحد. وأمّا الثاني فصوت الشاعر يخاطب مستمعين، سواء أكانوا كثرة أم قلة. وأمّا الثالث فصوت الشاعر عندما يحاول أن يبتكر شخصية مسرحية تتحدث شعرًا، عندما يقول، لا ما هو خليق أن يقول بشخصه الخاص، بل ما يستطيع أن يقوله ضمن حدود الشخصية الواحدة الخيالية التي تخاطب شخصية خيالية أخرى"(7). وفي قصيدة أمجد ناصر، وعلى الرغم من حضور الغنائية على امتداد تجربته الشعرية، إلّا أنَّ هذه الغنائية تغنى وتتوسع مع تصاعد التجربة والخبرة والمعرفة، وتصل إلى مرحلة الغنائية الدارمية -كما سمّاها صبحي حديدي(8)- في أوج إشعاعها وتألقها في مجموعاته الأخيرة وخاصة في ديوانه الذهبي "حياة كسرد متقطع". من هذه المجموعة نقرأ لأمجد ناصر من قصيدة بعنوان: "البيت بعدها":
"لم يتغيّر شيءٌ يُذكر في البيت بعد وفاة أمّي
حتّى أنّنا كلّما رأينا "كوثر" كبرى أخواتي عاكفة على ضبط توازن الملح في الجرح، ظننّا أنَّ أمّي لم تبرح البيت الذي بنته لهفة لهفة بكفن أبيض وجسدٍ أكله السرطان قطعة قطعة إلى مقبرة ستضمّ أوّل ميّتٍ في العائلة.
لم يتغيّر شيءٌ في البيت بعد وفاة أمّي
النّهار بخطوط عرضه الثلاثة،
الغرف المرتّبة تنتظر أولادها الغائبين،
الماراثون الأبديّ لأبي بين إبريق الوضوء والجامع،
والحنين الذي لا يكلّ لأيام الفاقة السّعيدة.
كل شيء على حاله،
إلا تلك اليد التي يخضرّ لها التراب".
• الهوامش:
(1) شربل داغر، القصيدة بالنثر والمعيارية، مجلة الجديد، لندن، عدد ممتاز بعنوان: القصيدة والمعيار، تموز/ يوليو 2020.
(2) أمجد ناصر، محمود درويش وقصيدة النثر، مجلة الكرمل، ع90، ص114.
(3) للمزيد حول بدايات قصيدة النثر وملامحها الفنية والموضوعية انظر: عبدالقادر الغزالي، قصيدة النثر العربية: الأسس النظرية والبنيات النصية، مطبعة تريفة، ط1، المغرب، 2007، وانظر خالدة سعيد، يوتوبيا المدينة المثقفة، دار الساقي، لبنان،ط1، 2012، وانظر: شربل داغر، الشعر العربي الحديث: قصيدة النثر، منتدى المعارف، ط1، 2018، وانظر: محمد الصالحي، شيخوخة الخليل: بحثًا عن شكل لقصيدة النثر العربية، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط1، 2003 المغرب، عزالدين المناصرة، قصيدة النثر: المرجعية والشعارات: جنس كتابي خنثى، بيت الشعر الأردني، عمّان، ط1، 1998، عزالدين المناصرة، إشكاليات قصيدة النثر: نص مفتوح عابر للأنواع، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان، ط١، 2002.
(4) أمجد ناصر، كلام عن قصيدة النثر، الموجة، 15 يوليو 2019.
(5) حوار أجراه محمد جميل خضر، الكتابة والجسد في شعر أمجد ناصر، الرأي الثقافي، 30-11-2012.
(6) جون كوين، النظرية الشعرية، ترجمة وتقديم وتعليق الدكتور: أحمد درويش، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2000، ص190.
(7) ت. س. إليوت، في الشعر والشعراء، دار كنعان للدراسات والنشر، سوريا، ط1، 1991، ص114.
(8) انظر صبحي حديدي، مقدمة ديوان حياة كسرد متقطع، أمجد ناصر، وزارة الثقافة، الأردن، ط1، 2019، ص10 وما بعدها.