د. فاطمة علي عبُّود
ناقدة وأكاديمية سورية مقيمة في تركيا
يعكس العمل الأدبيُّ العلاقة الجدليّة بين البنى الفوقيّة والتحتيّة، فتلك العلاقة تربط العمل الأدبيَّ في أقلِّ دوائره إلى أكثرها اتِّساعًا بالمجتمع من خلال عمليّة التأثُّر والتأثير المباشر على البيئة الاجتماعيّة، وعلى العلاقات بين الأفراد، فالعمل الأدبيُّ يحمل بنى دلاليّةً، ومهمّة النَّاقد كشف تلك الدِّلالات التي سعى من خلالها الفاعل الجماعيُّ لإقامة توازناتٍ بين بنى النَّص الداخليّة والخارجيّة؛ لذلك فإنَّ حَدْس الناقد يجب أن يكون حاضرًا في الكشف عن تلك الدِّلالات التي لا ترتبط بالفرد بوصفه مبدعًا فقط، بل بالمبدع بوصفه فاعلًا جماعيًّا. ويدرس النقد البنيويَّ التكوينيَّ تلك الأعمال العظيمة التي امتلكت رؤيةً للعالم بدرجةٍ كبيرةٍ من الانسجام مع بنى المجتمع الذهنيّة.
تمتلك البنيويَّة التكوينيَّة تصوُّراتها النَّقديَّة لتقارب النُّصوص الأدبيَّة برؤيةٍ شموليَّةٍ، منطلقةً في إجراءاتها من بنى النَّص الدِّلاليَّة التي تحيلنا، من خلال علاقتها الجدليَّة مع الذهنيَّة الاجتماعيَّة، إلى الرُّؤى والتَّطلعات التي تجمع هذه الفئة الاجتماعيَّة أو تلك، وتؤكِّد البنيويَّة التكوينيَّة أهمية الانطلاق من بنية النَّص الأدبيِّ في مرحلة الفهم، بوصفه نصًّا يمتلك موضوعًا يمارس عليه النقد نشاطه الفكريَّ، وتعدُّ هذه المرحلة، مرحلةً أولى وأساسية في الدِّراسة الأدبيَّة، لكنَّ البنيويَّة التكوينيَّة تجد في دراسة بنية النَّص بمستوياته الأدبيَّة مرحلةً غير كافيةٍ، لذلك رفض "غولدمان" L.Goldman -أحد أبرز أعلام البنيويَّة التكوينيَّة- سكونية البنى؛ إذ إنِّها "لا تُفهم بحدِّ ذاتها خارج حدود الزمان والمكان، وإنَّما من خلال تطوُّرها وتحرُّكها وتفاعلها وتنافرها داخل وضعٍ محددٍ زمانيًّا ومكانيًّا"(1)؛ بمعنى أنَّه أعطى تلك البنى أنساقًا خارج اللغة.
ويعكس العمل الأدبيُّ العلاقة الجدلية بين البنى الفوقية والتحتية، فتلك العلاقة الجدلية تربط العمل الأدبيَّ في أقلِّ دوائره إلى أكثرها اتساعًا بالمجتمع من خلال عملية التأثُّر والتأثير المباشر على البيئة الاجتماعية، وعلى العلاقات بين الأفراد، وذلك سينعكس بلا ريب على البنية الذهنية لدى الجماعة التي ينتمي إليها الكاتب.
ويحدِّد "غولدمان" البنيويَّة التكوينيَّة بقوله: "تنطلق البنيويَّة التكوينيَّة من الفرضية القائلة إنَّ كلَّ سلوكٍ إنسانيٍّ هو محاولة إعطاء جوابٍ دلاليٍّ على موقفٍ خاصٍّ، ينزع به إلى إيجاد توازنٍ بين فاعل الفعل والموضوع الذي يتناوله؛ أي العالم المحيط، ويحتفظ هذا النزوع نحو الموازنة على الدوام بطابعٍ متغيّرٍ ومؤقتٍ(3)، فالعمل الأدبيُّ يحمل بُعدًا دلاليًا، ولا يمكن أن يبقى منحصرًا في مستواه اللسانيِّ، وهذا البعد يُعرف من خلال ربط العمل الأدبيِّ بفكرة المادية الجدلية؛ إذ تبدو فكرة الانعكاس التي يشير إليها "غولدمان" ديناميكيةً وغير ثابتةٍ؛ لأنَّ العالم الخارجيَّ في تغيُّرٍ دائمٍ ومستمرٍ، لذلك فهو يشير إلى محاولةٍ للتوازن، هذه المحاولة هي الهمُّ الأوَّل للناقد وهو يقوم بعمليتي الفهم والتفسير؛ أي ربط البنى الدَّالة ببنى أوسع منها، وهكذا... ولا بدَّ لنا من إيضاح أبرز التَّصورات النَّقديَّة للبنيوية التكوينية، ومناقشة هذه التَّصورات من جميع جوانبها لتوضيح الخطوات التي يسير عليها المنهج في أثناء التحليل النقديِّ. ولنبدأ بـِ:
1-البنية الدلاليّة:
يحمل العمل الأدبيُّ بنى دلاليةً، ومهمة النَّاقد كشف تلك الدِّلالات التي سعى من خلالها الفاعل الجماعيُّ لإقامة توازناتٍ بين بنى النَّص الدَّاخلية والخارجيَّة؛ لذلك فإنَّ حَدْس الناقد يجب أن يكون حاضرًا في الكشف عن تلك الدِّلالات التي لا ترتبط بالفرد بوصفه مبدعًا فقط، بل بالمبدع بوصفه فاعلًا جماعيًا. إنَّ هذه البنى غير ساكنةٍ، بل هي في حالة تغيرٍ دائمٍ، كما أنَّها ليست مستقلةً ومنفصلةً؛ ومن هنا تأتي الأهمية الدِّلالية للبنى، فقد تأثر "غولدمان" بـِ"جان بياجيه" J.Piaget الذي بنى نظريّته المعرفيّة على مفهوم تكوين البنى المتطوِّرة والمتحوِّلة، فلا يمكن أن يُكتفى بتجميع البنى، بل يجب أن تكوِّن نسقًا ما؛ إذ لا يمكن أن تعطي نتائج خارج نسقها(3)، وبهذا تكتسب البنى معنى أكثر ثباتًا من الناحية المعرفيّة لدى "بياجيه"، ولكنَّها على الرَّغم من ذلك الثبات النسبيِّ ليست جامدةً على الإطلاق، وقد أُعجب "غولدمان" بفكرة البنى عند "بياجيه"، فتبنَّاها وأعطاها بُعدًا اجتماعيًا جدليًا، وربط بذلك العلوم التطبيقيَّة بالعلوم الإنسانيَّة، بشكلٍ دقيقٍ ومنهجيٍّ واضحٍ.
إذ يتمُّ النظر إلى العمل الأدبيِّ على أنَّه بنيةٌ دلاليةٌ شاملةٌ، تحتوي على بنى جزئيةٍ مشمولةٍ، وهذه البنى تحمل سلوك الجماعة الاجتماعيَّة ومشاعرها ومعتقداتها التي يعبِّر عنها الفاعل الجماعيُّ مستخدمًا أسلوبه وخياله، لذلك يهاجم "غولدمان" دراسة البنى الدِّلالية في إطارها الضيِّق من دون أن ندمجها في أُطرٍ تسمح لهذه البنى بالتَّعبير عن دلالاتٍ أوسع وأشمل، ليتمَّ فهمها من خلال جدلية العلاقة بين الأجزاء والكلِّ التي تتَّسق ضمنه، فلا يمكن فهم بنية النَّص من خلال دراسته البنيويَّة الشكليَّة، ولا من خلال دراسة التأثير المباشر لما هو خارج النَّص على النَّص الداخليِّ.
2- الفهم والتفسير:
إنَّ أولى الخطوات الإجرائيَّة في النقد البنيويِّ التكوينيِّ هي مرحلة الفهم التي تتناول بنية النَّص الأدبيِّ، للكشف عن البنى الدَّالة، وإعطاء هذه البنى اللغويَّة والأسلوبيَّة معنى أعمق وأكثر شموليةً من خلال ربطه ببنى أكثر اتساعًا كلَّما تقدَّم سير البحث، هذا الرَّبط من شأنه تغيير دلالة البنى؛ لأنَّ "الفهم مسألةٌ تتعلَّق بالتماسك الباطنيِّ للنَّص، وهو يفترض أن نتناول النصَّ حرفيًا، كلَّ النصِّ ولا شيء سوى النصِّ، وأن نبحث داخله عن بنيةٍ شاملةٍ ذات دلالةٍ"(4)، وهنا يقوم الناقد بعملية تجزيءٍ للعمل الأدبيِّ الذي يقوم بدراسته، هذا التجزيء سرعان ما يتمُّ ربطه مجدّدًا ببنى أوسع بعد أن تتمَّ دراسته وفق مستوياتٍ معينةٍ يحدِّدها الناقد؛ فالناقد حين يجزِّئ العمل الأدبيَّ يعطي كلَّ بنيةٍ دلالةً خاصةً، لكنَّ هذه المدلولات تتغيَّر عندما تتحوَّل في مرحلةٍ تاليةٍ إلى بنياتٍ أكثر شموليةً وتماسكًا.
أمَّا "التفسير فليس سوى إدراج هذه البنية، من حيث هي عنصرٌ مكوِّنٌ وظيفيٌ، في بنيةٍ شاملةٍ مباشرة، لا يسبرها الباحث مع ذلك بطريقةٍ مفصَّلةٍ، وإنَّما فقط بالقدر الضروريِّ لجعل تكوين العمل الذي يدرسه مفهومًا، ويكفي هنا أن نأخذ البنية الشاملة موضوعًا للدرس حتى يصبح فهمًا ما كان مجرَّد تفسيرٍ، وحتى يجد البحث التفسيريُّ نفسه مرغمًا على الاستناد إلى بنيةٍ جديدةٍ أكثر اتساعًا"(5)، فما كان تفسيرًا سيكون فهمًا في مرحلةٍ تاليةٍ، وذلك حين سيُدرج في بنياتٍ لاحقةٍ تزيد من توضيح علاقته ببنى المجتمع للوصول إلى رؤية العالم المنشودة.
3- الوعي القائم والوعي الممكن:
يقسِّم "غولدمان" الوعي إلى مستويين؛ وعيٍ قائمٍ فعليٍّ ووعيٍ ممكنٍ؛ إذ يرتبط الوعي القائم زمنيًا بالماضي؛ لأنَّه يشكِّل خبراتٍ ماضيةً تراكميةً، تكوَّنت عند الأفراد الذين يفيدون منها في تعاملهم مع الواقع، حتَّى اللحظة الراهنة التي يعيشونها، وهو وعيٌ يرتبط بالجماعة الاجتماعية كافَّة، "فالوعي الفعليُّ هو الوعي الناجم عن الماضي ومختَلَف حيثيّاته وظروفه وأحداثه، فكلُّ مجموعةٍ اجتماعيةٍ تسعى إلى فهم الواقع انطلاقًا من ظروفها المعاشيَّة والاقتصاديَّة والفكريَّة والدينيَّة والتربويَّة"(6)، وبذلك فإنَّ الوعي القائم هو وعي المجموعة، بما فيها الفاعل الجماعي أيضًا.
أمَّا الوعي الممكن فهو "أقصى درجةٍ من التَّماثل مع الواقع يمكن أن يبلغه الوعي الجماعيُّ دون أن تضطر الجماعة إلى التخلِّي عن بنيتها"(7)، فالجماعة التي غالبًا ما تشكِّل طبقةً واحدةً تسعى إلى تحقيق التماثل بين الواقع وبين الممكن، لتحقيق الانسجام بين واقع الجماعة وطموحها، وذلك كلُّه شريطة ألَّا يخرج الأفراد عن الطبقة التي تضمُّهم، ويتعرَّضون فيها للمشاكل ذاتها، فالوعي الممكن يستوعب الواقع الفعليَّ ويتجاوزه، لتحقيق الأحلام التي تصبو إليها الجماعة، عن طريق فهم حقيقة المشكلات التي تعيق وصولها إلى الأهداف المنشودة، ولذلك فإنَّ الفاعل الجماعيَّ هو القادر على امتلاك الوعي الممكن، أمَّا الكاتب العاديُّ فيبقى في حدود الوعي الفعليِّ، ويكون عمله انعكاسًا للواقع، وتصويرًا لحيثياته، وهذا ما يميِّز الأعمال الخالدة التي ارتفعت بالوعي الفعليِّ إلى الوعي الممكن من الأعمال التي اندثرت عبر التاريخ الإنسانيِّ.
إنَّ الوعي الممكن ليس وعيًا طوباويًا، فهو لم يأت من تلقاء ذاته، بل هو محاولةٌ لإيجاد توازنٍ بين الواقع والممكن؛ لأنَّ ما كان طوباويًا لا ينطلق من أرضيةٍ واقعيةٍ، بخلاف الوعي الممكن الذي ينطلق من وعيٍ فعليٍّ أساسه العلاقات الاجتماعية المتشابكة، ضمن الإطار الثقافيِّ والسياسيِّ والاجتماعيِّ، فالعمل الأدبيُّ بتجاوزه للوعي الفعليِّ يكون خلَّاقًا وحقيقيًا؛ لأنَّه يعبِّر عن تطلعات أفراد المجتمع، فحين يحصر الكاتب عمله في حيِّز الواقع، فإنَّه لا يقدِّم سوى انعكاساتٍ مرآتيّةٍ، ويخفق في الوصول لرؤية العالم، وحينها سيقدِّم وعيًا طوباويًا لا يخضع للشرط التاريخيِّ.
4- الفاعل الجماعيّ:
إنَّ الفاعل الجماعيَّ هو الفرد الاستثنائيُّ الذي تملَّك عبقرية التعبير، وتملَّك أيضًا دوافع التصعيد للتعبير عن تلك العبقرية؛ إذ يؤكِّد "لوكاتش" أنَّ الفاعل الجماعيَّ "جزءٌ من حياة زمنه، سواء كان واعيًا بهذا أم لا، وسواء أقرَّه أم لم يقرُّه، فهو جزءٌ من كلٍّ اجتماعيٍّ وتاريخيٍّ أكبر، ولهذا فإنَّ حياته ذاتها ليست ثابتةً أو جامدةً على الدوام، فهي عمليةٌ مستمرةٌ، معركةٌ دائمةٌ بين الماضي والحاضر والمستقبل"(8)، فالتأكيد على انتماء المبدع للجماعة أكَّده اصطلاح الفاعل الجماعيِّ على مبدع النَّص الأدبيِّ الذي يحمل داخله وعي الجماعة الاجتماعيَّة، بوعيٍ أو بغير وعيٍ منه.
إنَّ الكلية التي يتمسَّك بها "غولدمان" بوصف الفاعل الجماعيِّ يمثِّل الكلَّ لا تعود إلى أصولٍ ماركسيةٍ في فكر "لوكاتش" فقط، بل تعود إلى فكرة "هيغل" في أنَّ الحقيقة تكمن في الكلِّ. فالذي يبدع النصَّ الأدبيَّ هم الجماعات الاجتماعيَّة، وليسوا الأفراد المنعزلين، "إذ نادرًا ما يبلغ بعض الأفراد الاستثنائيين الانسجام الكامل، أو يقتربون منه على الأقل، فإذا ما تمكَّنوا من التعبير عنه، على المستوى الإدراكيِّ أو التخييليِّ، فهم: فلاسفةٌ وكتَّابٌ، وأعمالهم تزداد أهميةً كلَّما اقتربوا من التجانس البيانيِّ لرؤية العالم؛ أي تجانس أعلى قدرٍ من الوعي الممكن لدى المجموعة التي يعبِّرون عنها"(9)، لذلك فإنَّ النقد البنيويَّ التكوينيَّ يدرس تلك الأعمال العظيمة التي امتلكت رؤيةً للعالم بدرجةٍ كبيرةٍ من الانسجام مع بنى المجتمع الذهنيّة.
فالفاعل الجماعيُّ يحمل على عاتقه مهمَّتين، الأولى هي تملُّك البنى الذهنيَّة للجماعة الاجتماعيَّة، ووعيها وعيًا تامًّا، والثانية المقدرة على نقل هذه البنى وتحويلها إلى رؤيةٍ للعالم من خلال إبداعه الأدبيِّ والفلسفيِّ، وبذلك، يحقِّق الفاعل الجماعيُّ الانسجام بينه وبين الجماعة بوصفه فردًا، ويحقِّق الانسجام بين البنية الذهنية ورؤية العالم التي تنشدها الجماعة الاجتماعيَّة.
5- البنى الذهنيّة:
أشار "لوكاتش" إلى مصطلح (القيم الأصيلة) وهي القيم "التي تنظم بصورةٍ ضمنيةٍ مجموع عالم الرواية دون أن يكون حضورها فيه واضحًا"(10) بحسب تعبير "لوكاتش" نفسه، وهو ما سمَّاه "غولدمان" فيما بعد "البنى الذهنيَّة"، التي يكون حضورها أيضًا غير صريحٍ في العمل الأدبيِّ، فهي تشكِّل المحتوى الذي يعمل الفاعل الجماعيُّ على صياغة شكله من خلال اللغة والخيال، معبِّرًا عن التماسك بين تلك البنى من خلال المستويات الشعريَّة التي تخلق النَّص الأدبيَّ، وتبثُّ هذه البنى في لاوعيها، فالفاعل الجماعيُّ الذي يرتبط بالواقع الاجتماعيِّ ويعبِّر عنه، لا يكون تعبيره مباشرًا عن هذا الواقع، بل عبر البنى الذهنيَّة التي لا يمكن أن تكون فرديةً لسببين؛ أوَّلهما لأنَّ التجربة الفرديَّة لا تعبِّر عن التنوُّع الفكريِّ والثقافيِّ والاجتماعيِّ للمجتمع بأكمله، ولأنَّ البنى الذهنيَّة ثانيًا تحتاج إلى فترةٍ زمنيةٍ ممتدةٍ ليتمَّ بلورتها بشكلٍ واضحٍ؛ لأنَّ الواقع الاجتماعيَّ يتَّسم بالديناميكية المستمرة، إذًا "ليست هذه البنيات الذهنيَّة ظواهر فردية، بل ظواهر اجتماعيَّة"(11)؛ بمعنى أنَّها لا تتعلَّق بما هو فردانيٌّ محضٌ على الإطلاق، لكنَّها تتعلَّق بالجماعيِّ المتمثِّل ببنى المجتمع الذهنيَّة التي يمكن وصفها بأنَّها خارجةٌ عن الذات، ومتغلغلةٌ فيها معًا.
ويمكن لنا هنا أن نتساءل: هل يغيب الفرديُّ عن الجماعيِّ في لحظة الإبداع؟ بالتأكيد لا يمكن أن ينسلخ الفرديُّ عن الجماعيِّ؛ لأنَّ "بنيات عالم العمل الأدبيِّ مماثلةٌ للبنيات العقلية لبعض المجموعات الاجتماعيَّة، أو أنَّها في علاقةٍ عقليةٍ معها، في حين أنَّها على صعيد المحتوى؛ أي صعيد إبداع العوالم الخياليَّة المحكومة بهذه البنيات، حريةٌ كاملةٌ للكاتب"(12)، فهذه البنى لا تفرض نفسها بشكلٍ كاملٍ ومعيقٍ على الفاعل الجماعيِّ، بل تترك للمبدع حرية التعبير من خلال لغته ومشاعره وانفعالاته، ولكن تبقى البنى الذهنية حاضرةً في عمليةٍ جدليةٍ، وبذلك يبقى النَّص الأدبيُّ محتفظًا بجماليّته، ورؤيته للعالم الاجتماعيِّ معًا.
6- رؤية العالم:
لا يمكن تقديم رؤيةٍ للعالم في فترةٍ تاريخيةٍ محايثةٍ؛ لأنَّ البنى الذهنية ما تزال في حالة تشكُّلٍ على المستوى الجماعيِّ، لذلك فإنَّنا نبحث عن هذه الرؤية في الأعمال الأدبيَّة والفنيَّة التي استقرَّت زمنيًّا في مرحلةٍ تاريخيةٍ؛ "إذ ليس ثمَّة في المجال الإنسانيِّ واقعٌ ثابتٌ ومعطى، مرَّة وإلى الأبد... إنَّ جوهر الواقع الإنسانيِّ هو نفسه جوهرٌ حركيٌ، ومتغيِّرٌ عبر التاريخ، وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ هذا التغيُّر هو بدرجاتٍ متفاوتةٍ بالطبع عمل جميع الناس"(13)، فكلُّ ما يتعلَّق بالإنسان وعلومه يتَّصف بالتغيُّر والصيرورة؛ لأنَّ خط الزمن ممتدٌ، ولا يمكن إيقافه، فعندما نقوم بدراسة الأعمال الأدبية في فترةٍ زمنيةٍ مستقرةٍ يمكننا رصد هذه التغيرات التي أخذت شكلها النهائيَّ، فالفرد نفسه يبقى في حالةٍ من التقلبات على الأصعدة النفسيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة، ممَّا يؤثِّر في البنى الذهنيَّة للمجتمع، فوعي الفرد يشكِّل جزءًا من الوعي الجماعيِّ، إضافةً إلى أنَّه كلَّما اتسعت الدائرة من الفرديِّ إلى الجماعيِّ أخذ التغيُّر طابع البطء، باستثناء بعض المنعطفات التاريخيَّة التي لا يمكننا إلَّا أن نقف عندها مليًّا، لأنَّها ما كانت إلا نتيجة التغيرات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة الحادَّة، ممَّا ينعكس على رؤية العالم في الأعمال الأدبيَّة للفاعل الجماعيِّ صاحب الإبداع.
فرؤية العالم "بالتَّحديد هذا المجموع من التطلُّعات والأحاسيس والأفكار التي توحِّد أعضاء مجموعةٍ معيّنةٍ، وفي الأغلب طبقة اجتماعية، وتجعلهم في تعارضٍ مع المجموعات الأخرى"(14)، وبذلك نصل إلى نتيجةٍ منهجيةٍ تتحكَّم بالعمل الأدبيِّ، تتمثَّل برؤية العالم المنسجمة، التي تحمل صفة الشمولية، فهذه التطلعات والأحاسيس والأفكار التي أشار إليها "غولدمان" مهما كانت ذاتيةً، إلَّا أنَّ لها بعدها الاجتماعي؛ لأنَّها تجمع الأفراد الذين يعانون مشاكل وظروفًا واحدةً، وهذا ما يجعلهم في الغالب فئةً واحدةً، هذه الفئة في حالة صراعٍ وجوديٍّ اجتماعيٍّ دائمٍ مع الفئات الأخرى التي تمتلك هي الأخرى رؤيةً للعالم مختزنةً في بناها الذهنيَّة، تترقب فاعلًا جماعيًّا موهوبًا، يرفعها إلى مستوى الرؤية التي تعبِّر عن طموح أفراد المجتمع جميعًا.
* الهوامش:
(1) جمال شحيد، في البنيوية التركيبية، دراسة في منهج لوسيان غولدمان، دار ابن رشد للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1982م، ص76.
(2) لوسيان غولدمان، مقدمات في سوسيولوجيا الرواية، تر: بدرالدين عرودكي، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا- اللاذقية، ط1، 1993م، ص229.
(3) جان بياجيه، الأبستمولوجيا التكوينية، تر: السيد نفادي، دار التكوين، دمشق، 2004م، ص25.
(4) لوسيان غولدمان، المنهجية في علم الاجتماع الأدبي، تر: مصطفى المسناوي، دار الحداثة، بيروت- لبنان، ط1، 1981م، ص14.
(5) المرجع السابق، ص17.
(6) جمال شحيد، في البنيوية التركيبية، ص40.
(7) المرجع السابق، ص22.
(8) جورج لوكاتش، معنى الواقعية المعاصرة، تر: أمين العيوطي، دار المعارف، مصر، 1971م، ص68.
(9) لوسيان غولدمان، الإله الخفي، تر: زبيدة القاضي، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2010م، ص41.
(10) لوسيان غولدمان، مقدمات في سوسيولوجيا الرواية، ص14.
(11) لوسيان غولدمان وآخرون، البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، راجع الترجمة: محمد سبيلا، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت-لبنان، ط1، 1984م، ص45.
(12) لوسيان غولدمان، الإله الخفي، ص12.
(13) لوسيان غولدمان، مقدمات في سوسيولوجيا الرواية، ص197.
(14) لوسيان غولدمان، العلوم الإنسانية والفلسفة، تر: يوسف الأنطكي، مراجعة: محمد برادة، المجلس الأعلى للثقافة، 1996م، ص17.