إبراهيم محمد أبوحمّاد
كاتب أردني
مع أنَّ الاستخدام الأوَّل لمصطلح تيّار الوعي ورَدَ عند علماء النفس، إلا أنه يُعدُّ أسلوبًا في تقديم الحالات النفسيّة للشخصيّات الرّوائية بتصوُّراتها وخيالاتها وأفكارها. فرواية تيّار الوعي تُجلي ما يتغلغل في النّفس البشريّة، حيث يكون لكل شخصيّة تفرُّدها واستقلالها ونظرتها المختلفة عن الآخر، ويتجاوز تيّار الوعي فيها مفهوم الرّاوي العالم بكل شيء.
مصطلح تيّار الوعي أو تيّار الشعور استعمله لأوّل مرة عالم النفس "وليام جيمس" (1842م- 1910م) وعرّفه بأنّه جريان الذهن الذي يُفترض فيه اللانهاية واللااستواء، فهو لا يُختزل بانقطاع الأسباب، وإنّما هو سلسلة أو قافلة أو جريان لفيضان أو نهر أو تيّار، إذ إنّه مجازٌ مصطلحيّ، واستخدمه "ماي سينكلير" و"دوروثي ريتشاردسن"؛ إذ يُعد أسلوبًا في تقديم الحالات النفسيّة للشخصيّات الرّوائية بتصوُّراتها وخيالاتها وأفكارها.
أمّا "روبرت همفري" في مؤلَّفه "تيّار الوعي في الرّواية الحديثة"، فإنَّ تيّار الوعي لديه يتميَّز بموضوعه الذي ينشغل بوعي الشّخصيّة، أي في مستوى ما قبل الكلام، وما المونولوج إلا إحدى تقنياته (ص22-24)، وبرأي الدكتور محمود غنايم فإنّ رواية تيّار الوعي تتجاوز المحدوديّة أو الاستواء والانتظام واللااستواء واللاانتظام إلى كيفيّة تقديم هذا الوعي (ص9-10) أي الأسلوب، وتُستنتج دلالة ذلك من كتابه الموسوم بـ"تيّار الوعي في الرّواية العربية الحديثة: دراسة أسلوبية"، فالعنونة تتضمَّن الأسلوبيّة، وبذلك فقد جمع في تعريفه المبدئي أو الأوَّلي بين الآراء السابقة، ممّا يمكّننا من القول إنَّ تيّار الوعي: الأسلوب السّردي الذي تقدّم به الشّخصيّة ذاتها.
ويبيِّن محمود غنايم أنَّ تيّار الوعي هو نوع أدبي، وليس تكنيك، وبذلك فإنَّ الجنس الرّوائي أصبح يطلق عليه رواية تيّار الوعي، وأكد غنايم أنَّ تيّار الوعي يختلف عن المونولوج الداخلي والمباشرة، ويعرِّف غنايم رواية التّيّار: إنها نوع أدبي يوظف تكنيكات عديدة لتصوير الحياة الداخلية، التي تحاكي الحركة الداخلية للوعي بما يكشف دراميّة النفس التي لا تتوقف، والحركة الموّارة التي تصطرع فيها، وهذه الأساليب عادة ما تتناقض مثل الحركة والثبوت والخصوصيّة والعموميّة والثنائيّة في الزمان والمكان، والفوريّة والسيولة مقابل الانتظام والاتصال؛ ولذا فتيّار الوعي لا ينحصر في المونولوج الداخليّ أو الصوت المتداخل، وإنّما يتضمّن عناصر مختلفة في الرّواية مثل الصور والاستعارات والتشبيهات والرموز التي تطرحها الرّواية، بما يدلل على أنَّ تيّار الوعي يُشكل التصوير الرّوائيّ أو الصورة الرّوائيّة في التقنيات المستخدمة فيها. وبالنتيجة هي عمل متداخل باعتبارها ناجمة عن أسلوب وعي الشّخصيّة في التصوير بالكلمات.
ويقترب مصطلح تيّار الوعي -كما أوضح غنايم- من مصطلح الأتمتة (الفن بوصفه تقنية)، الذي ابتدعه الشّكلاني "شكلوفسكي" عام (1916) وأطلق على هذه الظاهرة اسم التغريب، وذلك للثورة على المقولبات الجاهزة لكسر التوقعات، وبرمجتها في إطار المفاجأة، ويظهر ذلك بشكل واضح في مبنى الجملة، وعلاقتها بقريناتها في اللغة التصويريّة والتعامل مع الزمن بما يثير دهشة القارئ.
وقد سعى محمود غنايم إلى بيان أنّ تيّار الوعي ينشغل بالأشياء الصّغيرة، والظّواهر الهامشية التي تغوص في ذاتيّة الإنسان وأعماقه، فتيّار الوعي لا يلتفت إلى الأحداث، وإنّما إلى الأشخاص، وهو بذلك ينقض مقولة محمد برادي ويوسف الشاروني ليؤكد بأنَّ تيّار الوعي أو رواية تيّار الوعي ظهرت في أماكن متفرقة من أعمال نجيب محفوظ في الثلاثيّة والبداية والنهاية واللص والكلاب، وعليه فإنَّ تيّار الوعي يتجاوز الرّواية البانوراميّة أو رواية الأحداث الكبيرة، والأبعاد البارزة التي تشكل المجتمع من الثّورة والحرب ووصف المدن والقرى.
وبذلك فإنَّ الدكتور محمود غنايم يتوغل في مفهمة رواية تيّار الوعي باقترابها من الواقعيّة النفسيّة والأشخاص، وتنأى بنفسها عن الأحداث، وتعمل على موقعة الأحداث وتعيينها وذلك ببيان وعي الشّخصيّة في كل لحظة من لحظات الزمن والمكان، فالرّاوي لا يتخذ سلوكًا جماعيًّا للشخصيات أو وعيًا جماعيًّا لها، فذلك يُعد لاموقعة في الزمان والمكان، ويفقد الوعي خصوصيته ويصادر الواقعيّة؛ كأن يقول الرّاويّ أو الشّخصيّة: "كلهم غضبوا شهرًا"، ممّا يدلّل على أنَّ التّعريفات السابقة يعتريها النقص، إذ إنّ التعمُّق في تيّار الوعي يكشف محتجبات عناصر هذا المصطلح.
وضمن هذا السياق، فإنَّ الناقد "أريك أويرباخ" في معرض تحليله لرواية "فرجينيا وولف" الموسومة بـِ"إلى الفنار" يبيِّن أنها تعتمد على الأحداث الداخليّة لنفسيّة الشّخصيّة، أمّا الأحداث الخارجيّة فلا يكون لها تأثيرٌ كبيرٌ في الرّواية، وبذلك فإنَّ الاتجاه الفلسفي لرواية التّيّار هي "الأنا" التي تفضّلها على الأحداث الخارجيّة والشخصيّات الجانبيّة(ص22).
ويذكر الدكتور محمود غنايم أنَّ رواية تيّار الوعي لا تعتمد على الشخصيّات العصابيّة كما يذكر بعض النقاد، إذ إنّها تُجلي ما يتغلغل في النّفس البشريّة، وأنّ لكل شخصيّة تفرُّدها واستقلالها ونظرتها المختلفة عن الآخر، وأنَّ تيّار الوعي يهتم بالجنس والنّفس، وبهذا يتجاوز مفهوم الرّاوي العالم بكل شيء، وبأنَّ الشّخصيّة الرّوائيّة قادرة على عرض أحاسيسها، وبهذا تلغي دور الرّاوي وتسنده إلى إحدى الشّخصيات، إلّا أنَّ هذا الإلغاء على غير إطلاقه، إذ إنّه نسبيّ.
ويفكك محمود غنايم التّمازج بين وجهة نظر الشّخصيّة والراوي، وذلك أنَّ المدركات الذهنيّة تُمسرَح بدلًا من أنْ تقدِّم تقريرًا أو شرحًا بطريقة غير مباشرة بصوت الراوي، فمسرحة المشهد من الشخصيات أكثر تقنية واتصالًا بتيّار الوعي من تلخيصها بصوت الراوي، ويستشهد غنايم بمقوله "وولف": إنَّ المطلوب هو رسم الصور التي تسقط على الذهن في المشهد أو الحدث سواء أكان مبتذلًا أو مهمًّا، بالنظر إلى النفس لحظة كشفها عن هذه المؤثرات، وإنَّ ذلك لا يخلّ بالموضوعية التي تسعى إليها رواية التيّار في التذويت، فتطرح التنوُّع والاختلاف في الشّخصيّة.
وعليه، فإنَّ تيّار الوعي لا يهتمّ بالمجتمع، ولكن ينطلق من نظرة ليبراليّة إلى الفرد وكينونته، فهذا الفرد محور التعبير عن وجوده بعملية الاستبطان المعرفيّة الذاتيّة، والصوفيّة في البحث عن الحقيقة، وسعي هذه الشّخصيّات متفرّدة إلى الكمال والمعرفة بأساليب مغايره للطرق التقليديّة، وعليه وضَّح محمود غنايم أنّ هذا التفرُّد والتنوُّع في الشّخصيّات يستوجب بيان الشخصيّة ومكنوناتها في حالاتها العاطفيّة المختلفة من حالات الهذيان أو الانزواء والعواطف المفرطة مثل الغضب أو الحزن أو الحب، فالرّاوي لا يمكنه أنّ يغوص في أعماق هذه الشخصيّات؛ ممّا يقتضي مشاركة الشخصيّة في دفع هذه الأحداث وتقديمها للقارئ (ص34-36).
وبناءً على ما سبق، فإنَّ رواية تيّار الوعي غدت نموذجًا مختلفًا لنموذج رواية التيّار الواقعي، إلا أنّها تفاعلت مع هذه الرّواية الواقعيّة لتأخذ بعض خصائصها وتشكل نموذجها، إذْ إنَّ رواية تيّار الوعي تستقل عن الرّواية الواقعيّة باهتمامها بوعي الشّخصيّة أكثر من الحبكة، وإنَّ اهتمامها بالذات يتفوَّق على اهتمامها بالأحداث الخارجيّة، وزيادة على ذلك فإنه لا يعوزها الحبكة التقليديّة، فالوعي الشخصيّ لا يرتبط ترابطًا منطقيًّا بناء على تسبيب عقلانيّ، وهذا ما يتفق مع الرّؤية للعالم الذي أصبح يحقق كشوفات علميّة مختلفة، ومثال ذلك انتقال الفيزياء من الكلاسيكيّة إلى فيزياء ميكانيكا الكَمّ، وبالنتيجة فإنَّ رواية تيّار الوعي لا يلزمها الافتتاحيّة للتعريف على الشخصيات وموقعها الاجتماعي والنفسي، فالافتتاحية تتلازم مع أحداث الرّواية حتى نهايتها.
وإنَّ المدرسة الشّكلانية فرَّقت بين المتن الحكائي والمبنى الحكائي، فالمتن مجموع الأحداث المتصلة والتي يقع إخبارنا بها خلال العمل، أمّا المبنى الحكائي فهو الأحداث نفسها، إلّا أنه يلتزم بتقنية السرد في تقديمها إلى القارئ أو السامع، وبهذا فإنَّ رؤيتها للزمن رؤيةٌ نفسيّةٌ داخليّة غير خارجيّة، فهي ممزوجة مع الأفكار والأحاسيس التي تتضمَّنها، وتعبِّر عن الحياة، وبهذا يصبح للزمان والمكان نموذج خاص داخل السّرد، وبذلك فإنَّ رواية تيّار الوعي تلتزم ضمير الغائب لأنّها تلتزم بوعي الشّخصيّة، والتي لا يمكن التعبير عنها والسيطرة عليها من الرّاوي المنفصل عن هذه الشّخصيّة (ص37-46)، ولقد طبَّق غنايم نظريّة تيّار الوعي في مبنى الجملة واللغة التّصويرية والرّمزية على الثّلاثيّة واللص والكلاب لنجيب محفوظ، والعديد من أعمال الستينات ومنها رواية "ما تبقى لكم" لغسان كنفاني.
وعلى الرّغم من أنّ غنايم يوضِّح بأنَّ تيّار الوعي لا يقتصر على الشّخصيّة العصابيّة، إلا أنّ هيلة العساف قدَّمت دراسة بحثيّة في عام 2020 تناولت فيها شخصيّة البطلة المأزومة غير السويّة نفسيًّا وعقليًّا في رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" (ص13)، ولقد أبرزت التّقنيات السّرديّة كالآتي: التبئير الدّاخليّ، التّداعيّ الزّمكانيّ، اللغة الشعرية، التّداعي الحر، المونولوج الداخليّ، مناجاة النّفس. ويربط أحمد عوين تيّار الوعي بالفلسفة الوجوديّة وغياب اليقين إلا بوجود الفرد (ص97)، ويعرّف تيّار الوعي نقلًا عن صلاح السروي في مؤلَّفه الموسوم بـِ"رؤية الذات- رؤية العالم- دراسات في الرّؤية والرّواية" (صادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2002) أنّه: التعبير الأدبي للأحاديّة الفرديّة، وهي العقيدة الفلسفيّة التي تنفي اليقينيّة إلا عن وجود الفرد الذاتي، فتقدّم الشّخصيّة بحيواتها الداخليّة" (ص97).
أمّا لطيف الزيتوني فيختزل تيّار الوعي بالمُناجاة الداخليّة والأسلوب غير المباشر الحُرّ (ص66)، وإنَّ اعتماده على هاتين التقنيتين فقط يجعل من فهمه للمصطلح مختزلًا، ولا يشي بالحقيقة، وزيادة على ذلك فإنَّ الإحالات الداخليّة في المصطلح تحيل إلى مصطلحي "السرد، والمونولوج الداخلي" (انظر الصفحات 105، 106، 164، 194)، ممّا تنعدم وشأنه استقلاليّة المصطلح.
• المراجع:
1- غنايم، محمود، تيّار الوعي في الرّواية العربيّة: دراسة أسلوبيّة، بيروت، دار الجيل، القاهرة، دار الهدى، ط2، 1414هـ-1993م.
2- همفري، روبرت، تيّار الوعي في الرواية الحديثة، ترجمه وقدم له وعلق عليه، محمود الربيعي، القاهرة، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، 2000.
3- الخليل، سمير، دليل مصطلحات الدراسات الثقافيّة والنقد الثقافيّ: إضاءة توثيقيّة للمفاهيم الثقافيّة المتداولة، مراجعة وتعليق سمير الشيخ، بيروت، دار الكتب العالمية، د.ت.
4- الزيتوني، لطيف، معجم مصطلحات نقد الرّواية- عربيّ إنكليزيّ فرنسيّ، بيروت، مكتبة لبنان ناشرون، دار النّهار للنشر، 2002.
5- العساف، هيلة عبدالله عثمان. "تقنيات سردية في رواية تيّار الوعي: عائشة تنزل إلى العالم السفلي لبثينة العيسى نموذجًا"، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية: جامعة الكويت، مجلس النشر العلمي، الحولية 40، الرسالة 542 (2020): 9 - 126. مسترجع من http://ezproxy.yu.edu.jo:2061/Record/1085229.
6- عوين، أحمد محمد محمد، "تقنية الحلم في روايات إبراهيم عبدالمجيد: دراسة في بنية الاستلاب"، المؤتمر الدوليّ الثاني للسرديات بعنوان آفاق جديدة في السّرد الرّوائيّ، جامعة قناة السويس والجمعيّة المصريّة للدراسات السّرديّة، مج 2 (2009): 55 - 105. مسترجع من http://ezproxy.yu.edu.jo:2061/Record/430413.