د. ضياء خضير
قاص وناقد عراقي مقيم في كندا
ربّما كان الفنان علاء بشير من الفنانين العرب والعالميين القلائل الذين تناولوا في أعمالهم التشكيليّة مفاهيم فكريّة وفلسفيّة مجرَّدة من الصعب تجسيدها في أعمال فنيّة، وحاولوا أن يلمسوا بشيء من العمق علاقتنا المؤقتة مع هذا العالم، وما يتصل بها من أسئلة وجوديّة صعبة، عبر صناعة اللوحة المرسومة لتكون معبّأة وملغومة بمثل هذه المعاني والرموز من خلال اللّون والخطّ والحركة والشَّكل وأسلوب التَّصوير. والمتأمِّل في لوحات علاء بشير في معرضه المُقام في لندن خلال أيلول 2021، يجد أنّه لا يستهدف خلق المعنى فقط، بل يحاول الدُّخول إلى (معنى المعنى) الذي يعني على صعيد الأدب دراسة أثر اللّغة في الفكر، ويمكن أن يعني هنا دراسة الأثر الرمزي المشفَّر للموت في الجسم البشريّ.
في معرض الدكتور علاء بشير الأخير (الذاكرة المشفَّرة) المقام في جاليري Different في العاصمة البريطانية لندن بتاريخ 17 أيلول 2021، هناك شيء مختلف يتطلب الانتباه والمراقبة والقراءة التأويلية المغايرة.
يقول الفنان في تعريفه بالمعرض ومفهومه الشخصي للذاكرة (المشفَّرة) التي انطوت عليها لوحات هذا المعرض إنَّ هذه الذاكرة، مثل وجودنا المادي، تتحطّم كالضوء في الفراغ، وإنَّ الموت هو ذاكرة الوجود المجرّدة في مقابل الوجود الحيّ الملموس لهذه الذاكرة، من دون وجود مفتاح مناسب لفكّ هذه الذاكرة المشفّرة في جانبيها المادي والمجرّد.
وكل هذه، كما نرى، مفاهيم فكرية وفلسفية مجرَّدة، من الصعب تجسيدها في أعمال فنية تحيل اللوحة المرسومة بالزيت على القماش إلى عمل فنيّ ينطوي على هذه الأفكار والمفاهيم، خصوصًا فيما يتعلق بالموت الذي لم يعُد أحدٌ منه ليخبرنا عنه، كما يقول الشاعر سركون بولص في إحدى قصائده. غير أنَّ علاء بشير الذي يصرُّ على أن تحمل لوحاته الخمس عشرة في هذا المعرض مثل هذه الرسالة الفكرية والرمزية المكرَّسة للذاكرة المشفَّرة، يقول لنا إنَّ فنّه ليس للتسلية، وإنَّ على اللوحة أن تستثير ذهن المتلقي، وتحرِّك فكره وتجعله قادرًا على طرح السؤال عن معنى وجودنا البشري في صميم إقامتنا المؤقتة على هذه الأرض.
والفنان الذي يحاول الإجابة عن مثل هذه الأسئلة الصعبة عبر فنّه التشكيلي المؤلَّف من خطوط وألوان وكتل يعرف أنَّ الناس في عالمنا العربي خصوصًا مشغولون بهموم وأسئلة أخرى كان المرحوم محمود درويش قد قال عنها في إحدى قصائده التي يتحدَّث فيها عن الموت إنهم:
"لم يسألوا: ماذا وراء الموت؟ كانوا يَحفظُون خريطةَ الفردوس أكثرَ من كتاب الأرض، يُشْغِلُهُمْ سؤال آخر: ماذا سنفعل قبل هذا الموت؟ قرب حياتنا نحيا، ولا نحيا. كأنَّ حياتنا حِصَصٌ من الصحراء مُخْتَلفٌ عليها".
ولدينا في التراث الفكري والفلسفي المتصل بمثل هذه الأسئلة ذات العلاقة بالموت كثير من ذلك، منذ اللحظة التي قدَّم فيها أبيقور اليوناني عرضًا ساخرًا عن موته الخاص في صيغة جدلية تبادلية، قائلًا:
(إنَّ الموت لا يعنيني البتة، فهو إن وُجد، لن أكون موجودًا، وإن وُجدتُ أنا لن يكون هو موجودًا)، حتى لحظة هيدغر الألماني الذي حاول زحزحة الغطاء الميتافيزيقي عن فكرة الموت، وكان الموت بالنسبة إليه "هو الإمكانية الوحيدة التي تهدّدني كإنسان في كل لحظة من حياتي، وتجعلني مهمومًا على الدوام. الموت يصنع لي القلق الدائم الذي يحيطني أنا الإنسان المقذوف بي هناك لأكون الآنية أو الدازاين، والقلق هذا ينشأ من انغماسي في علاقة زمانية أعلم أنها مؤقتة في هذا العالم".
وربَّما كان الفنان علاء بشير من الفنانين العرب والعالميين القلائل الذين حاولوا أن يلمسوا بشيء من العمق هذه العلاقة المؤقتة مع هذا العالم، وما يتصل بها من أسئلة وجودية صعبة عبر صناعة اللوحة المرسومة لتكون معبّأة وملغومة بمثل هذه المعاني والرموز من خلال اللون والخط والحركة والشكل وأسلوب التصوير، وليس من خلال التعبير الأدبي أو الفكري والفلسفي المجرَّد.
والأمر يتطلّب تغيير طبيعة العقد القائم بين المُتلقّي وما اعتاد أن يراه من لوحات جدارية، إذ لم تعُد وظيفة هذه اللوحات هنا جمالية مجرَّدة، تعكس منظرًا طبيعيًا، حصانًا راكضًا، وصورًا فلكلورية بسيطة أو مركّبة يطغى الطابع التجاري على بعضها، وبورتريهات يمكن أن تعبِّر عن الحالة النفسية والفكرية للفنان نفسه، أو الأشخاص الذين يرسمهم.
وبعض لوحات الفنانين الكبار في عصر النهضة والعصور الحديثة قد اكتسبت مع مرور الزمن، كما نعرف، أهميّة عظيمة لما تحمله من معانٍ ورموز دالة مثل لوحة (الموناليزا) الشهيرة بابتسامتها الغامضة المحيّرة، ونظرتها المباشرة إلى المشاهد بعينيها الضيقتين ولباسها الخفيف وشعرها المجعّد المنسدل على كتفيها، وكذلك لوحة الرسام "ليوناردو دافنشي" مع "أندريا دل فروكيو" المسماة (البشارة)، وهي عبارة عن ملاك يحمل زنبق مادونا الذي يمثل رمزًا لعذرية مريم، ومثل لوحة (الصرخة) للفنان النرويجي "أدفارت مونك" ذات الطبيعة التعبيرية التي تمثل تجسيدًا حديثًا لقلق الإنسان المعاصر، وغير ذلك ممّا يمكن أن نراه من رموز وعلامات في الفن المصري والرافديني الأقدم زمنًا..
غير أنَّ ما نريد أنْ نتحدَّث عنه هنا يختلف عن هذه النمط من اللوحات القديمة والكلاسيكية التي تحمل معانيَ ورموزًا، ويختلف، كذلك، عن اللوحات التعبيرية التي حاولت أن تستخدم الخطوط والألوان والظلال من أجل خلق مضامين جمالية تعبيرية حسيّة مختلفة في أسلوبها عن الرسم الكلاسيكي؛ وهو يختلف، كذلك، عن الرسم التكعيبي الذي يتعدَّد فيه المنظور وتستخدم فيه الأبعاد والمساحات والأشكال الهندسية التي تعتمد المكعّب أساسًا لخلق قيم جمالية تقوم على فكرة النظر إلى الأشياء من أبعاد متعددة، ووجوه مغايرة، بعد تحطيم أشكالها ذات السطوح الخارجية المألوفة. ولا نتحدَّث هنا أيضًا عن الفن التجريدي الذي يبدو بلا موضوع ولا شأن له بالمرئيات الشاخصة في صورتها الطبيعية أوالواقعية. وعلاء بشير ينفي خلال حديثي معه وجود أية قيمة يمكن نسبتها إلى هذا الفن، ويقول إنه حتى الأحلام والكوابيس الليليّة لا تمثل غير انعكاسات مرئيّة لعالم النهار وتجاربنا الحسيّة العمليّة فيه.
وهو يقوم في معرضه هذا بعمل مُغاير، كما قلنا، لا يستهدف خلق المعنى فقط، بل يحاول الدخول إلى (معنى المعنى) الذي يعني على صعيد الأدب دراسة أثر اللغة في الفكر، ويمكن أن يعني هنا دراسة الأثر الرمزي المشفَّر للموت في الجسم البشري. وهو يعتقد أننا كبشر (موجودات مشفَّرة) لا نختلف عن الروبوت، وأنَّ الجينات المتوارثة التي تمارِس عملها بطريقة سريّة في مكان ما من أجسامنا هي التي تتحكم بنا على نحو لا يختلف كثيرًا عن الطريقة التي يتحكّم فيها البشر بالروبوتات التي يصنعونها، وأنَّ الله سبحانه هو وحده الذي يقوم بتحريك روبوتاتنا البشرية وتصميمها بتلك الطريقة العجيبة.
إنَّ لوحات الفنان علاء بشير المرسومة بأبعاد هندسيّة وتشريحيّة للجسد الإنساني تبدو مثل قصائد كلاسيكيّة تلتزم الوزن والإيقاع الخارجي للّغة، ولكنها تملؤها بمضامين وأبعاد تشريحيّة مغايرة. فهي تفتح نوافذ وكوى في الجسد الإنساني المرسوم بدقة وضبط أكاديمي أحيانًا، نطلُّ من خلالها، في كل مرة، على جانب من تلك الشفرات المضمرة في هذا الجسد، لرؤية ما يمكن أن يحصل له في الموت وما بعده. فهي لوحات مشغولة بالإجابة عن أسئلة فكرية وفلسفية غامضة ينطوي عليها وجودنا البشري في هيئته المادية المؤلفة من اللحم والعظم، وما ينطوي عليه ويتداخل معه من أبعاد فكرية وروحية مجرَّدة تشبه عملية الاقتراب منها وملامستها والحوار معها اقترابَ الفراشة من النار، لأنها مناطق محرّمة يُحظر الدخول اليها والتعرُّف على ما يحدث فيها. وهي مثل (الروح) التي هي من (أمر ربي) يُمنع السؤال عنها والحوار حولها، لأنَّ ما أوتينا من العلم بشأنها يبقى قليلًا نزرًا، لا يكفي لفكّ رموزها المشفّرة هذه والإجابة عن أسئلتها المحيّرة. واللوحة التي تقوم بمحاولة عرض ما يحصل لهذا الجسد في صراعه المرير مع المعاني والرموز الأخيرة المشفّرة الكامنة من خلال الصورة، تكتفي بإثارة الأسئلة المؤرِّقة، ورسم المخاوف الداخليّة غير المعبر عنها، وغير القابلة لفكّ طلاسمها.
وعلاء بشير الطبيب الجرّاح الذي نشر قبل افتتاح معرضه هذا صورة لمهندس هنغاري يحيّي الدكتور علاء، ويتمنى له نجاح معرضه هذا، ويرفع بيده التي كانت قد قُطعت بحادث عمل في بغداد، وقام الدكتور علاء بإرجاعها إلى مكانها قبل 38 عامًا، أقول إنَّ هذا الطبيب الجرّاح الذي كان يعمل على ترميم الأجساد البشريّة وإعادة الحياة إلى أجساد المئات من الجنود والضباط الذين شوَّهت الحرب أجسادهم في العراق، يقوم هنا بعمل مُغاير لذلك، لا تبدو فيه الأجساد المعروضة في لوحاته هذه مكتملة سليمة، بل مشوّهة، مفكّكة، أصاب العطب بعضَ أجزائها، ودخلت التجربة السريّة التي لا سبيل إلى معرفتها من غير أصحابها أنفسهم، وظهر النمل والحشرات والأفاعي في فتحات بعض رؤوسها أو صدورها، وأخذ الغراب موقعه التقليدي المتداخل مع بعض أجسادها وحركاتها.
هذا الغراب الذي اعتاد الفنان علاء بشير على استخدامه في كثير من لوحاته كلازمة وثيمة معرفيّة تشبه القرار في السمفونية، ورمز لا حدّ للمعاني والدلالات التي يشير إليها، يعاود ظهوره الغريب هنا في بعض هذه اللوحات ليطرح الأسئلة الغامضة عن الخطيئة الأصليّة، ويثير الدهشة من المآلات والمصائر التي تنتهي إليها الأجساد البشرية بعد موتها في الماضي البعيد والحاضر القريب، وهل ثمة جدوى من محاولة فكّ رموزها المشفّرة التي تظلّ نهبًا للبلى وللنمل الذي يستولي على ما تبقى من هذا الإرث البشريّ البائد.
وعلاء بشير الذي يقول إنه كان، كطبيب، محاصرًا بالموت والأجساد البشرية المعطوبة طوال عمله خلال الحرب العراقية الإيرانية في إحدى مستشفيات بغداد، قد ألِفَ تشريح الجسد الإنساني، ونقل بعض تجربته الجراحيّة الضخمة إلى تجربته الفنيّة التي لا تقلّ عنها غنى وثراءً.
ولكي نكون كمشاهدين ومتلقين للأثر الفني والفكري ذي الطبيعة الرمزيّة في هذا المعرض، لا بدّ من القول إنه لا يمكن القيام بقراءات تأويليّة محدَّدة للوحات هذا المعرض مفردةً أومجتمعة، بما تنطوي عليه من قيم جماليّة وتشكيليّة وفكريّة فريدة. وكل ما يستطيع المرء أن يفعله وهو يقف مندهشًا أمام ما يحصل للبشر من أمثاله فيها، هو أن يتحسَّس رأسه، ويتلمَّس أقطار نفسه، ويعيد طرح السؤال المنسيّ والمؤجَّل عن المعنى الأنطولوجي لوجوده على هذه الأرض، وعمّا إذا كانت هذه الذاكرة المشفّرة للحياة والموت قابلة بالفعل للحوار معها والدخول إلى دهاليزها الداخليّة السريّة عبر هذه اللوحات.