شعر: نور سليمان
شاعر مصري
(1)
ألقَتْ قابلتي للنهر ثلاثة أشياء...
الحبل السرّي..
وملابس أمي...
والجزء المتبقي من ثوب الليل.
وأبي ما بين دخان لفافته وجدار المنزل..
يرسم وجهي
يكتب في ذاكرة الشارع
تاريخ الرحلة
ما بين تآويل الميلاد وعمر النَّهر..
مسافة حلم
مثل الرحلة ما بين استيقاظ مدينتنا والفجر
شريان يمتدُّ من النَّهر إلى شرفتنا
أمي تغزله بعض حكايا..
تحكيها في ليل شتاء قارص.
كانت تجلس بالآنية الفخاريّة..
عند الموردة المتعرِّجة الملساء
تنسدل ضفائرها الحنّاء
تغطي وجهًا يتلألأ بالضوء
وهناك يقابلها...
شاهدها هذا النَّهر مساء
عاتبها.
وهي البنت الخجلى.
ذابت عشقًا في موّال أبي
وأبي يعلق بضفائرها.
ذات شقاء..
كان أبي بالقرية..
يتلو آيات القرآن على قبر صديق
مرَّت طيفًا
أو جاءت قصدًا..
كي تسكب ماء الرَّحمة فوق المقبرة
المتهدِّمة النّائمة قرونًا
أو تغرس ريحانًا فوق القبر.
شاف أبي بعض بداوتها
ظنَّ الناس بأنَّ هناك مواعدة أخرى
فاقترب قليلًا
اقتربت أكثر
كي تغرس ريحانًا في كفّيه.
في اليوم التالي
واعَدَها عند النَّهر
النسوة حين رأين فتنتها
قطعن أيديهنّ
أضحت أمي... أمي
والنَّهر تدفَّق حتى ملأ البيت شموسًا
وصبايا يعشقن الماء.
(2)
وكان أبي
مثل كل الذين أتوا من هناك
له وجه يوسف..
إصرار نوح
له صبر أيوب
وأجنحة كالملاك..
تطير تطير إلى أوَّل الحلم
وبعض الأهازيج
والأغنيات
وفيض غريب من الانتشاء الجميل.
كل هذي القراءات
كل الأناشيد
قنّينة المسك
بعض السواك
يعلِّمني كيف أصطاد نهرًا
وأغرس حبّات لؤلؤ..
في غيمة في السماء.
يعلِّمني كيف تلد الأمّهات المدائن
كيف ترفع أمي غطاء المساء..
إذا جاء صيف شديد التصحُّر.
كان أبي يكره الدائنين
ويكره أن تستحمَّ البنات عرايا.
أبي كان لا يعرف السِّحر
لا يرتضيه
ولكنه كان يملك بعض وريقات
(شمس المعارف)
تعلّمتُ -حين أكون بجانبه-
أن أراجع كلّ الحروف
وكلّ مخارجها
حين أفتى أبي (أنَّ عشق المحبّين جرم كبير)
فما العشق إلّا له... وله وحده.
تمرَّدَتْ البنت التي كنتُ أعشقها
وقالت: أباك الذي في المدينة يقصد مَن؟؟
أترى يصطفيني فقط؟؟
ليتَ أمي هنا
ليتها تدرك الآن أنَّ الذي كان زوجًا لها
ملك من ملوك التصوُّف
مدد من مدد
في الصباح يراه المريدون عند مصبّ المياه
وبين الحقول
وفي الليل يجلس في (حجر إسماعيل)
أو يرى سابحًا في الطّواف
وكان أبي
يملك الليل...
ليل طويل
وسجّادة من حصير
ومسبحة من حقول البنفسج
وحين يسبِّح
تخرج من بين أنامله جنّة ونهر
وسرب من الطير
مسك... وبعض الكواكب.
وفي ذات عطر
لمستُ يديه أقبِّلهما
فطوّقني بجناحيه..
قبَّلني بين عينيّ
أخرج قنينة المسك
مرَّرها فوق ظهر يدي
فشممتُ قصور الجنان
وطار بجسد نحيل إلى أوَّل العشق
لامستُ دون مقاومة...
كلّ هذي المقامات والأضرحة
استرحنا قليلًا.
منتهى الوصل.
أمي هنا.
إنَّها منذ وقت بعيد تراقبنا
ثم تدعو لنا..
علَّها
تقرأ الفاتحة.