اقصص: إنتصار عباس
كاتبة أردنية
(1)
الطرقات ثكلى دوننا، تُراه وقع خطونا يرسم ظلاله لتورق من جديد، أم أنَّ كثرة الغياب ستجلونا؟! أسئلة كثيرة معلّقة تجتاحني: من أين جاءت "كورونا"؟، وكيف جاءت ولماذا؟!
لننام بأعين مفتوحة لقلبِ موازين العالم. صار العطاس شُبهة، وقد تزامن موسم حساسيَّتي مع ظهور "كورونا"، فما إن عطستُ حتى جفل الجميع وابتعدوا·· كم نحن هشّون، لا نتقن سوى التذمُّر والثرثرة، نضبط الساعة ولا نقدر على ضبط أنفسنا، ها هي ثرثرة النساء خلف السياج والنوافذ قد بدأت، صوت الجارات يشقُّ غبار الحظْر كعادة كل يوم، أيقظتني أصواتهنّ وهنّ يتحدّثن عن "معكرونة" كما تسمّيها "أم إسماعيل" ويتضاحكن: "(كورونا) يا أم إسماعيل (كورونا)"، ثم تشتبك الأصوات مع بعضها، الكلّ يتحدث في آن واحد، وما من واحدة تصغي للأخرى.. وفي زحمة هذا الضجيج يأتيني صوته: "لم أعتد على هذا الغياب، يومان ولم تقطف عيناي لوزكِ وكأنه العمر بأكمله.. تعالي نزرع الطرقات بساتين عشق نمطرها حبًّا ونقهر (كورونا)··". قلتُ بفرح: "إني قادمة.. أجيئك نعطِّر الدّروب وبالحب نقهر (كورونا)..". تتشابك أيدينا في الهواء ونضحك.. نضحك..
"أم إسماعيل" تنادي. أغلقتُ خطَّ الهاتف، وهرعتُ إليها. ها هي تقف خلف سياج الحديقة تتضاحك قائلة: "ضحكاتك تقول تعالي يا أم إسماعيل لأزفَّ لكِ البشرى..". احتججتُ في سِرّي: "ما الذي أتى بكِ أيتها العفريتة الثرثارة لتسرقي فرحي؟".
أم إسماعيل: "هل قبضوا على معكرونة؟!".
أجبتُها بغيظ واستغراب: "ومن تكون معكرونة هذه..؟!".
اقتربَتْ وذاك العطر الرَّخيص يفوح منها يكتم أنفاسي: "معكرونة جاسوسة جاءت تنفث السم وتقتلنا"، ثم خفضَتْ من وتيرة صوتها، ومع شعوري بالاختناق صرتُ أفهم الكلام من حركة شفتيها: "يقولون إنها جنيّة تظهر بالشكل الذي تريد..".
قلتُ بصوت مخنوق لاهث: "كورونا يا خالة وباء قاتل..".
قطبت حاجبيها: "وباء قاتل؟!".
زاد شعوري بالاختناق وهي تزادد قربًا منّي ورائحة ذاك العطر الذي يفوح منها تقتلني، أخذتُ أسعل وأسعل، ثم عطستُ، وهنا صاح "أبو إسماعيل" بعصبيّة من خلف النافذة: "انطلقي يا أم إسماعيل وبأقصى سرعة، فجارتك مسَّتها معكرونة". "أم إسماعيل" تعدو مثل غزالة بنت عشرين، وبلمح البصر تختفي. أسمعُ دبيب خطوها وهي تدخل المنزل، وصوت "أبو إسماعيل" مقهقهًا: "كبرتِ يا أم إسماعيل·· والأحرى بي أن أتزوّج شابة رشيقة..".
تجيبه: "ليتك تفعلها!".
لم ينتهِ الأمر، فها هو الصوت يصلُ مسامعي.. ربّما بسبب تلك الكُوّة!
تابع "أبو إسماعيل" وكأنه لم يسمع شيئًا: "عليكِ بحظر نفسك في الغرفة الأخرى ريثما نتأكد من سلامتك!
قالت بسخرية: "وكيف ستتأكد أيها الطبيب؟".
- نراقب حرارتك..
أجابته بمكر واضح: "لا عليكَ سأعزل نفسي في الغرفة الأخرى".
- اخفضي صوتك لئلا يسمعكِ الجيران··
- على ذكر الجيران، جارتنا الرَّشيقة تسأل متى ستغلق تلك الكُوّة، فزعيقكَ وأنتَ تسأل عن تلك الطاسة التي تضع فيها أسنانكَ يزعجها··
قال "أبو إسماعيل" يحدِّث نفسه: "كيف عرفَتْ بالكوّة وهي بالكاد ثقب توارى خلف شجرة الليمون؟"، ثم تابع وقد تصنَّع الغضب: "ونحن أيضًا نسمعها وهي تضرب المواعيد"، وتابع بنبرة منخفضة: "ولربّما كانت تسمع أشياء أخرى"، ثم ارتفعت نبرة صوته وقال بتصميم مَن انجلت أمامه الحقيقة: "ومِن المؤكَّد أنَّها تسترق السَّمع الآن". تغيَّرت نبرة صوته: "ثم إنَّ المنزل قديم، مرَّ زمن طويل ولم نرمِّمه"، وتنهَّد: "ياه.. كم أنتِ ثرثارة وكم أنا مُتعَب"·
***
انبطح "أبو إسماعيل" على الأرض متظاهرًا بأنه سينام، انتفضَتْ "أم إسماعيل" وخرجَتْ غاضبة. أخذ "أبو إسماعيل" يرمي بأذنيه حيث الجدار، يُصغي بلهفة، ثم نهض وأزاح المرآة عن الحائط، وراح ينتظر "أم إسماعيل" لتنام·· وتلك الكُوَّة التي لا تنام..!
(2)
خاف العالم من (كورونا)، أُغلقت المطارات والطُّرق وكل مناحي الحياة، وبقيت الشوارع وحيدة تستجدي الظِّلال لتعود، إلّا أنَّ شبح (كورونا) كان يُرهب الجميع، وبدأت هجرة العودة إلى الأوطان، حتى طلبة الجامعات عادوا بعد أن تمَّ استحداث طرق جديدة للدراسة "الدراسة عن بُعد". وفي الحَجْر التقى الأصدقاء، "عدي"، "أحمد"، "محمد"، و"خالد"، كان لقاءً مثمرًا، وبحسب قولهم: هذه حسنة (كورونا)، فبالرغم من كل مساوئها المرعبة إلا أنها أعادت روح الإنسانيّة، والحسّ الإنساني والحميميّة الصادقة... وكما يقولون: (كورونا) أعادتنا إلينا..
وفي سهرة حمراء شاشت بهم الذكريات للأعراس والأهل والموسيقى، طوَّقتهم الحماسة على حين فجأة ورمهتم حيث المحظور، لم تستثنِ منهم أحدًا، بل زادتهم عزمًا وحيويّة، فهبّوا يشبكون الأيادي و(تلولحي يا دالية)... تمَّ تقديمهم للمحاكمة بتهمة الاستهتار بالقوانين، ومخالفة قانون الحظْر. احتار القضاة في نوع العقوبة التي ستنزل بهم، وكان القرار في أن يختاروا واحدة من اثنتين: إمّا حلق الرأس أو السجن!
اختار الجميع السجن على اعتبار أنَّ حلق الشعر امتهان للحرية الشخصية والكرامة··
إلّا أنَّ "خالد" اختار حلق الرأس، الأمر الذي استفزَّ القاضي وطلب إحضار "خالد" لسؤاله عن سبب هذا الاختيار!
صمت "خالد" بعض الوقت قبل أن يجيب، ثم قال بكل شجاعة وجرأة: "أطاح الكيماوي بشعري وقد داهمني السرطان على حين غرّة، (ونزع شعره المستعار) ولا يعرف أهلي بحقيقة مرضي.. أحتاج أن أرى حقول الفرح في عيني أمي وهي تراني، وأنا ألثم تلك السنابل وهي تتناثر على خدِّها.."، وأشاح بنظره بعيدًا·· "تمطر تلك السنابل لهفة وانتظارًا".
هزّ القاضي رأسه قائلًا وقد سرق الحزن صوته دون أن يدري: "وأنا أيضًا أفقدني الكيماوي شعري، لكنه لم يعُد يُقلقني، فالرَّشحُ غدا أكثر صعوبة"، ثم ابتسم مداعبًا: "ولتعلم أنكَ دونه تغدو أكثر وسامة، ضعه على رأسك الآن، فالجوّ بارد"، ثم نادى على الشرطي قائلًا: "عليكم بحلق رؤوسهم جميعًا، باستثناء هذا الشاب، دعوه ليتدبَّر أمره في غرفته، فلديه ثعلبة، وأخشى أن يتسبَّب لكم بالعدوى.."، ثم رمقه بنظرة وادعة أخفى خلفها قلبًا مطعّمًا بالحزن والأمل...
(3)
عطسَ التلفاز. ركض المذيع، وفلَّت جموع الحاضرين..
قهقهت (كورونا): انتظروني في النَّشرة القادمة...