د. مالك المكانين
أكاديمي وباحث أردني
كانت معضلة الشر هي الأكثر إحراجًا للتصورات الدينية كافة، فلماذا ثمَّة شر في عالم معلول لعلّة خيِّرة وتامة؟ بهذا السؤال يمكن أن أبدأ مقالي عن قراءة الدكتور الراحل سحبان خليفات لموقف المعريّ من مشكل الشر الخلقي وعلاقتها بمفهوم الألوهيّة.
ينزع المعري للاعتقاد بأنَّ الله علّة خيّرة وتامة، وبأنَّ الإنسان كائن حر، ما يعني نفي صفة الجبرية عن الفعل الإنساني، وطالما ذلك كذلك، لا يمكن أن يكون الشر الصادر عن الإنسان بموجب خلل في طبيعته؛ لأنَّ الله علة تامة، أو بموجب قسر ينفي القول بحرية الإرادة.
وهنا يرى خليفات "تعارضًا خفيًّا" لدى المعري بين قوله بأنَّ الله علة فاعلة في العالم بواسطة العلل، ما يعني أنَّه فاعل للشر، وبين القول بخيرية الله بوصفة علة خيّرة وتامة.
بدايةً يرى المعريّ أنَّ الخير هو المقصد النهائي لله، وهذا يعني إمَّا أنَّ الله يعلم بالشر، أو لا يعلم. فإذا كان عالمًا فنحن أمام أمرين: فإمَّا أن يكون مريدًا له أو لا، وإن كان مريدًا فهو بمثابة الفاعل. وإن كان غير مريد، فهذا يعني أنَّ ثمّة في العالم ما لا يريده الله، أو لا يعلمه، أو يعلمه ولا يستطيع منعه.
لكن المعري يعتقد بأنَّ الله علة تامة العلم والقدرة، أي أنّ كلَّ الخيارات السابقة خاطئة، لذلك يرى خليفات أنَّ المعري يميل إلى القول بأنَّ الله مريدٌ (بمعنى ما) لوجود الشر رغم كرهه له. ولكن كيف؟
لقد منح الله الإنسان حرية الإرادة كيما يكون مسؤولًا أخلاقيًّا عن أفعاله الصادرة عنه، وبالتالي الله لا يتدخل في الفعل الإنسانيّ الاختياريّ بموجب من العدالة الإلهيَّة، وللحفاظ على المشروعيّة الأخلاقية لمسؤوليَّة الفرد عن أفعاله، وهكذا يرى المعري أنَّ الله خير لا يريد الشر مع قدرته على منعه، وهذه القدرة لا تتدخل بموجب من العدالة الإلهيَّة، والمسؤوليَّة الإنسانيَّة الأخلاقيَّة.
وهنا يتساءل خليفات: هل استطاع المعري حلّ مشكل الشر؟ ويجيب أنَّ الحلَّ النهائي لم يتم بعد. فالله هو "المصمّم" لهذا الكون بكلِّ حركاته طبقًا لمبدأ السببيّة. فالقول بأنَّ الله لا يريد الشر مع علمه به واستطاعته على منعه، يفضي بنا إلى القول بأن ثمَّة أفعالٌ غير محدَّدة سببيًّا من قبل الله، أو العكس بأنَّ كلَّ الأفعال محدّدة طبقًا لمبدأ السببيَّة الذي هو من صنع الله، أي أنّ الله هو الفاعل للشر بشكلٍ غير مباشر (بمعنى ما) وبالتالي مريد له. إذن كيف يُفهم هذا الأمر مع قول المعري بأنَّ الله علة خيّرة وتامة، ما يعني امتناع أن يكون الله مريدًا للشر؟ هنا يعتقد خليفات أنَّ فهم موقف المعري يتوقف على إمكانية وجود اتساق بين حرية الإرادة، وبين ميكانيكية الكون الإلهي.
إنَّ تحليل المعري لمفهوم الشر الخلقي يجعله يعتقد بعلاقة بين الشر، وبين مفهوم البنية أو التركيب الذي وجد عليه الإنسان من قبل الله، فالله أراد هذه البنية للإنسان، وعلى هذا التركيب تحديدًا، وبالتالي هو يريد هذه البنية للإنسان، ويعلم ما سيصدر عنها من شر، ولذلك هو مريد (بمعنى ما) للشر، وآية ذلك قول المعري في اللزوميات: (لو حاطنا الله لم نحفل بمرزية، وكيف يخشى رزايا الدهر من حاطا).
إذن مفهوم البنية أو التركيب، هو الطبع أو الميل الذي يتمتع به الإنسان ويمارسه، فوجودُ الشر مرتبطٌ بطبيعة الجسد؛ أي الميل العضوي أو الغريزي، وليس بطبيعة العقل أو النفس، وهذا الميل للشر، ليس عن قصور أو خطأ إلهي، وإنَّما عن قصد (بعلم إلهي كلنا دنس). فالله صنع الإنسان على هذه البنية، وبيَّن له ما يجب أن يفعله، وما يجب أن يتجنبه، فالشر هو اختيار الإنسان للميل نحو تركيبته الجسدية، فالشر لا يصدر حتميًّا عن بنية الإنسان، وإنَّما عن استجابة حرَّة لهذه البنية. وهذا لا يحدث إلا في غياب أو ضعف العقل أو النفس في التحكم بميول البنية الإنسانية.
إنَّ تعريف الشر لدى المعري هو استجابة الإنسان لميول الجسد، وكيلا يعتقد البعض أنَّ الحديث هنا عن مبدأ الجبر – الحتميَّة بسبب علاقة الشر بالبنية (ما فسدت أخلاقنا باختيارنا ولكن بأمر سببته المقادر)، و(في الأصل غش والفروع توابع)، وبأنّ الإنسان (جبلة بالفساد واشجة، إن لامها المرء لام جابلها)، يوضح خليفات رفض المعري لهذا المبدأ لأمرين: أولًا: القول بالجبر هو طعن في قضية يقرُّ بها المعري وهي خيرية الله المطلقة. ثانيًا: صدور الشر عن الإنسان ليس جبرًا وإنَّما هو إمكانية واختيار، فالشر فعل مُرجَّح ومُحتمل، والإنسان هو من يميل لبنيته باختياره، وذلك ليُجنِّب المعري صفة الشر عن صانع هذه البنية (كذب امرؤ نسب القبيح إلى الذي خلق الأنام).
ويوضح خليفات رأي المعري أكثر بقوله: فأن تكون لنا بنية ذات إمكانيات ما شيء، وأن تصدر الأفعال ذاتيًّا عن هذه البنية بلا إرادة منَّا أو قدرة على الامتناع هو شيء آخر. وبالتالي ثمَّة إمكانيات في البنية الإنسانية لا تظهر في الفعل الخلقي إلا باختيار الإنسان لها، ولذلك كان فاعلًا أخلاقيًّا، ومسؤولًا عن النتائج المترتبة على أفعاله.
إنَّ للإنسان طبيعة ثنائية، فهو بنية أو جسد ينزع نحو الشر، وعقل أو نفس تنزع نحو الخير، تقودهما إرادة حرّة أو قدرة على الفعل، والإنسان باختياره إمَّا يرجح نزوع الجسد، أو نزوع النفس. فهو ليس شرَّا بالمطلق، ولا خيّر بالمطلق، وإنَّما هو "مزيج" بين الخير والشر (والنفع مذ كان، ممزوج به الضرر) و(تناقض في بني الدنيا كدهرهم)، لذلك ليس من الحق أن نتصوّر إنسانًا بخيرية مطلقة وفقًا لهذه الثنائية، فلو كانت جميع ميول الإنسان خيّرة لأصبح مَلكًا، يفعل الخير اضطرارًا، (لو شاء ربي لصاغني ملكًا)، ولكن الميل للشر أمر ضروري لدى المعري لتحقيق الفعل الحر، فهذه الثنائية من الخير والشر لحكمة (حكم جرى للمليك فينا)، فالتأرجح بين الخير والشر هو ديدن الإنسان، وبالتالي هذه الطبيعة الثنائية هي دليل خير وشر، وحتمية وحرية. والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن: كيف نفهم المذهب القائل بكل هذه الأضداد؟
يجيب خليفات أنَّ قول المعري بالشر التابع لبنية – جسد الإنسان هو دليلٌ لإيجاد الخير، وهذا الأمر دليل على حرية الإرادة، في ترجيح كفة الخير على الشر في هذه الثنائية. ففي معالجة المعري لمفهوم الألوهية وعلاقتها بمشكل الشر، يعتقد بأنَّ الله خلق لكلِّ حالة إنسانيّة قوانينها الذاتية، وهنا مبدأ الحتمية، وفي المقابل لكلّ إنسان حرية اختيار الحالة التي يريدها من بين قوانين البنية أو قوانين النفس وهنا تظهر الحرية. ولذلك يصف المعري فلسفته بأنَّها بعيدة عن مذهب الحرية المطلقة، كبعدها عن مذهب الحتمية أو الجبرية.
يرى خليفات أنَّ المعري إلى هذا الحد استطاع معالجة مشكل الشر الخلقي دون أن يمسّ مبدأي خيرية الله المطلقة وقدرته التامة. كما بيَّن إمكانية الترقي الخلقي بالإشارة إلى عواملٍ مسببة لحالة الانحطاط الخلقي. فالعقل والإرادة هما أساسا الفلسفة الخلقية عند المعري، فالعقل هو المصدر والمعيار للقيمة الخلقية، كما أنَّ الإرادة هي لاحقة أو استجابة لهذا العقل، ولكن هذان الأساسان ليسا سيِّدين للفعل دائمًا، فالعقل قد يضعف أو يفسد، والإرادة قد تعجز وتتكاسل، وهنا مدخل الشر المرتبط بتجلي البنية أو الغريزة في الفعل، نتيجة لحالة مرضية قد تعتري العقل، وهذه الحالة مردّها: 1- التقليد 2- الحرية غير المقيَّدة بالمعرفة 3- الخضوع المطلق للحاجة 4- سيطرة مبدأ اللذة والمنفعة على السلوك. والقاسم المشترك بين هذه العوامل هو غياب العقل، ما يعني سيادة متطلبات البنية على السلوك.
إنَّ الألوهيَّة عند المعري، فيما يرى خليفات، هي أساس التخلُّق، فهذه الألوهيّة تمنح الإنسان كفاعل خلقي القدرة على تحديد واختيار سلوكه، كما تمنحه من خلال فكرة الحساب الآخروي دافعًا يجعله يختار طريق الخير الصاعد، بالإضافة إلى أنّ الألوهيّة تقدم للإنسان المثال الخلقي الذي يمكن من خلال محاكاته أن يحقّق علوه الخاص.
خلاصة القول: الإنسان هو مسرحٌ لصراع الأضداد [الخير والشر] بين العقل أو النفس من جهة، وبين البنية الجسدية أو الطبع الغريزي من جهة أخرى، وفي لزومياته يقول المعري: (فالعقل والطبع حتى الموت، خصمان)، وبالتالي طريق الأخلاق شاق وعسير في هذا الصراع الثنائي. فالبنية أو الغريزة هي التحلّل من قواعد العقل، فإذا كانت البنية أو الغريزة تروم ما هو كائن جسديًّا، فالعقل ينزع نحو ما ينبغي أن يكون، بما في ذلك نشاطات الغريزة الإنسانيّة؛ لذلك ربط المعري مفهوم الشر باللاعقلانية أو غياب العقل.
على هذا النحو، يرى سحبان خليفات، أنَّ المعري يقرّر في كتابه (سقط الزند)، أنَّ الوجود الحقيقي للإنسان، هو الوجود العقلي وليس الوجود الغريزي؛ لأنَّ هذا الأخير يأخذ بالإنسان إلى مستوى الحياة البهيمية، والإنسان هو حيوان لا يرتقي لمرتبة الإنسانية إلا بالعقل الذي يفرض قيمًا أخلاقية على الغريزة، بينما القدرة على الترقي الخلقي هي آية وجود الإرادة الحرة القادرة على هذا الترقي. وبالتالي يصبح الإنسان إنسانًا حين يتسامى على وجوده الغريزيّ بفضل استقامته الأخلاقية، فالوجودُ الإنساني هو وجودٌ خلقيّ بالدرجة الأولى.