دراسة في قصة "حدث غريب في وسط البلد" للقاصة إيمان مرزوق.

مُحَمّد دَلْكي
*شاعر وناقد أردني


"حدث غريب في وسط البلد" عنوان خاطفٌ مشوّق لقصة الأطفال الصادرةِ عن وزارة الثّقافة الأردنيّة ضمنَ سلسلة شغف 2022 للأديبة الأردنية: إيمان مرزوق. إذ إنَّ العنوان، الذي كتبت فيه كلمة "غريب" كتابة مائلة بلون أحمر مخالف لبقية كلماته الخضراء، والغلاف -الذي يمثّل عتبة نصية أخرى تنقل الناظر، ربما إلى مدخل "سوق الندى" أو بقالات بيع السكاكر والحلقوم ومنتجات الزمن الماضي الجميل، في وسط البلد- يتضافران كلاهما (العنوان والغلاف) لخلق تلك الغرابة في مكان يألفه كلُّ أردني، خاصةً كل عَمّاني. وهنا، تبدأ الدهشة والمفارقة والتشويق!
يزيد من ذلك التشويقِ صورةُ الطفلِ في الغلاف الداخلي للكتاب، والذي يبدو فيها وهو ينظر تجاه شيء ما باحثًا عن إجابة، وقد التصق خدّاه وكفّاه بالزجاج إمعانًا في دخوله جوَّ مشكلةٍ ما، ثم إنَّ الإهداء -الذي جاء بصيغة التنكير ليوسّع من آفاقه ودوائره فيغدو دعوةً من نوعٍ ما- قد ألمح إلى أنَّ هنالك مشكلة أو مشكلات، ولكن الأهم أنَّه قد أشار كذلك إلى أن الحل سيكون بسيطًا، فقد جاء هكذا: "إهداء إلى أولئك الذين يبادرون لحلِّ المشكلات.. ببساطة!" (مرزوق 1)، إذن، فهذا التصدير هو روح هذه القصة التي تريد أن تبسط الأمور في نظر الطفل وتبتعد به عن شراك التعقيد. وهذه العتبات أو النصوص الموازية هي ما حدّده "جـيرار جينيـت" بقوله: "محايثة أو ملازمة النص الموازي هي ذات طبيعة نصية مثل التمهيد، أو أيقونية مثل الرسوم التوضيحيّة، أو ماديّـة مثـل اختيـار نوعيـة الطباعة (أي الورق)؛ حجم الخط؛ نوعـه؛ وقـد تكـون حدثيـة (factuelle) بمعنـى أنَّ التعـرف عـلى حـدث مـا سيعدّل القراءة نفسها وداخل هذا التعرف الموسع سيصبح كل سياق نصًّا موازيًا. (مونتالبيتي، 108)
إنَّ هذا الكتاب يمثّل قصة مصوّرة للأطفال. وهو موجّه للفئة العمرية 8-12 سنة، ويقع في 42 صفحة، وهو إذ يحاول -دائمًا- أن يكون طبيعيًّا وحقيقيًّا وملامسًا لبيئة وسط البلد الأردنية؛ فإنَّ رسوماته التي نقشتها الفنانة: بيان زريقات قد جاءت على ذلك النحو -أيضًا- فهي طبيعية لا تقترب كثيرًا من الرسم الحاسوبيّ؛ الخطوط فيها أشبه برسم الرصاص الذي نحسُّ فيه روحًا لا نجدها في إفرازات العصر الرقميّ، كما أنَّه يحملنا للزمن الجميل الذي يُعدُّ "وسط البلد" جزءًا منه؛ فكلُّ أردنيّ يذهب إلى وسط البلد يشعر أنَّه قد عاد إلى الزمن الجميل. فتتعاضد الرسوم والكلمات لتشكيل صورة المكان وتعكس تجلياته، ولإظهار صورة الإنسان الأردني بتمظهراتها كافة: كطراز لبسه، وطريقة تفكيره، وكيفية تعاطيه مع المشكلات، وكيف يكون حاله وهو في أزمة وسط البلد محاولاً ألا ينفد راتبه؛ فضوله تجاه الأشياء والأحداث، وكيف أنَّه يحبُّ المساعدة دومًا، و....
إنَّ أهمَّ ما يواجه أديب الأطفال أن يتغلب على الرتابة والمباشرة، فهو -في العادة- لا بدَّ أن يُحَمّل نصَّه قيمة تربوية لقارئه الطفل، وهذه القيم التي تشكّل، بحسب "وايت"، "هدفًا أو معيار حكم يكون بالنسبة لثقافة معينة شـيئًا مرغوبـًا، أو غـير مرغوب لذاته" (كنعان 201)، لا تغنى -بالطبع- بحمولات أدبية، ولكن الكاتبة استطاعت أن توصل القيمة التربوية للطفل بقالب أدبيٍّ مشوّق معتمدة على أسلوب إضمار جزء من الحقيقة وإظهار بعضه، وهذا كله يحرك خيال الطفل خاصة في هذه المرحلة العمرية مما يشي بوعي الكاتبة بالخصائص النمائية والنفسية للطفل، فهي تخاطبه لتحرك خياله فيغدو هو كاتب القصة أو لنقلْ: سيناريوهاتها المحتملة، وبذلك يصبح منتجًا لا متلقيًّا فحسب أو قارئًا مشاركًا في الإبداع، وهذا بحد ذاته إنجاز للكاتبة. الطفل في الصفحات العشر الأُوَلِ يحاول التخمين ويشغل آفاق خياله فالكاتبة تطالعه بحدث يشغل الجميع وتجعله جزءًا منه، لكنَّها تخفي عنه حقيقة ذلك الشيء العالق في داخل الدكان المغلق، ثم تومئ إلى أنَّها قطةٌ إيماء بقولها: "كان صدى استغاثتها عميقًا، وصدى موائها يخترق جدران المحلِّ الخاوي." (مرزوق 12)، فيفطن الطفل إلى أنَّ الحبيس قطة.
عنصرٌ آخر استطاعت الكاتبة العمل عليه عملًا جيدًا يتصل بالناحية النفسية، فقد عرضت لاختلاف الناس في تعاطيهم مع المشكلة. فالسيدة ذات الثوب المطرز افترضت أنَّ صاحب المحل هو الذي قد حبس القطة (مرزوق 14)، وأمَّا الرجل المسن (مرزوق 16) فقد رمى صاحب الدكان بعدم الخوف من الله، وهما يمثلان جيلاً واحدًا، في حين أنَّ صاحب البقالة المقابلة حاول تحليل المشكلة ونفي الاتهام عن جاره، فجاره لم يأت منذ يومين والقطة لم تكن هنا (مرزوق 18)، وأمَّا الفتى وهو من جيل آخر فقد بدا محتارًا (مرزوق 20) بسبب هذه الحيرة التي اكتسبها من الكبار في تعاطيهم مع المشكلة، وبالنسبة لأبي أيمن فقد بدأ بتحليل طريقة دخولها أي القطة عبر درج الطوارئ (مرزوق 22) وانشغل بذلك. وفي الحقيقة، إنَّ كلَّ هذا الحوارات تعكس هُوية ثقافيّة لمجتمعٍ بدأ يركّز على المشاكل لا الحلول، أو لنقل إنَّ هناك ثقافة مجتمعية سائدة هي ثقافة تصعيب الأشياء مع أنَّها قد تكون بسيطة الحل، أو أنَّها ليست بالمشكلات الكبيرة.
يؤكّد ما سبق أنَّ "القهوجي" في القصة قد ردَّ على حلِّ أبي أيمن بأنَّ "المسافة بعيدة ولن تستطيع الوصول إليها" (مرزوق 24)، وحتى حل أبي أيمن فقد كان خياليًّا ويتكئ على أشياء غير متوفرة (الولع بالمفقود) أي الشال، والشال الذي سيُمدُّ للقطة غير موجود، فلا بدَّ من شرائه من "النوفوتيه" الذي أغلق وأصبح صيدلية، ثم تطوّر الأمر -وهم في مكانهم- إلى خشية على حياة القطة! في هذه الأجواء المعقدة، تأتي الكاتبة بالحل وببراعة، إذ تجعله على يد أصغر القوم: أيمن. فأيمن ابتعد عن كل التعقيدات وبدأ بحل المشكلة حلاً علميًّا يستند إلى حصر الاحتمالات التي يمكن إنقاذ القطة باستخدامها مبتدئًا من الأسهل فالأصعب، ومن المنطقيّ أن يبدأ بالباب فيختبره إن كان مقفلاً أم لا، جَرّب وأدار المقبض ووجد الباب ينفتح إذ إنَّه قد كان مغلقًا ولم يكن مقفلاً، وهنا إشارة تربوية إلى الطفل بأنَّنا نبدأ بحلِّ المشكلة من الأسهل إلى الأصعب، إضافةً إلى أنَّ المشاكل قد تبدو كبيرة لكنَّها بسيطة الحل، في الواقع. إنَّ مثل هذه الرسائل التربوية المضمنة في قالب فني أدبي جميل لتغيّر- حقًا - في ذهنيّة الطفل الذي يواجه كل هذا التعقيد في عقلية المجتمع الذي يعيش فيه؛ مجتمع يعقد المشكلات ويضخمها.
ويمكن القول، في الختام، إنَّ الكاتبة قد رسمت هذا النص بكلماتها رسمًا متقنًا، فغدا لوحةً أخاذة في عيون الطفل.. نصًّا يتسم بالتشويق، ويطوّر من حبكته شيئًا فشيئًا، يعقّد الأمور أدبيًّا ليأتي بالحل بسيطًا في مفارقة قشيبة تخلق الدهشة التي تجعل الحقيقة التربوية مستقرة في ذهن الطفل وقلبه، وهذا فعلاً ما يحتاجه أدب الطفل في هذه المرحلة؛ أعني أن يكون أدبًا بمعنى الأدب، وموجهًا وفاعلًا تربويًّا ليصير أداة من أدوات الإنتاج والتغيير لا مجرد فذلكات لغوية أو متع أدبية. إنَّ هذا الكتاب يمثّل إضافة نوعية لأدب الطفل فهو يقوم على رؤية حقيقية وواضحة، ولا يرمي معلومات تربوية في قوالب أدبية، بل يصهر الجوانب علميّها وتربويّها ونفسيّها في إطار أدبي لم يغفل السلامة اللغوية والدقة النحوية.

المراجع:
1- كنعان، أحمد. القيم التربوية السائدة في شعر الأطفال، رسالة دكتوراه دولة، جامعة دمشق، 1990.
2- مرزوق، إيمان. حدث غريب في وسط البلد، وزارة الثقافة الأردنية، 2022.
3- مونتالبيتي، كرستين. جيرار جينيت-نحو شعرية منفتحة، ترجمة غـسان الـسيد ووائـل بركـات، ط1، الجمعيـة التعاونيـة للطباعة، توزيع دار الرحاب، 2001.