د. جمال الشلبي
أستاذ العلوم السياسية/ الجامعة الهاشمية
يتَّسم العالم المعاصر باستخدامه الشائع والمتنوّع لكلمة "الثقافة" بحيث أصبحت هذه الكلمة صفة ملازمة لمفاهيم كثيرة مثل: صراع الثقافات والهويّات أو حتى الحضارات، بل وصل الأمر إلى إرجاع سبب نجاح أو فشل مؤسسة أو شركة إلى الثقافة المعتمدة لديها. وبغضّ النَّظر عن استخدام الثقافة كمفهوم مطّاطي أو متعدِّد المعاني، إلا أنَّ استخدامها الواسع يبرز الوعي العام لما تمثِّله الكلمة من أهميّة متصاعدة في الخطابات الفكرية والسياسية والإعلامية الممتلئة بالرُّموز والدّلالات.
ولذلك، فقد أسهم ازدهار الإعلام وتطوُّره، والصناعات الثقافيّة، وثورة المعلومات والتكنولوجيا الجديدة من جهة، والأسئلة الملحّة الجديدة حول "التثاقف" الداخلي والخارجي للمجتمعات من جهة ثانية، فضلًا عن النقاشات المتعلقة بالهويات والاستثناء الثقافي أو التعددية الثقافية، في جعل الثقافة جزءًا مهمًّا من "الواقع المعرفي" الذي يشهده العالم، لا سيما في ظلِّ عصر العولمة الذي وسم العالم منذ تسعينات القرن الماضي، وما زال.
ونتيجةً لذلك، عرفت العلوم الاجتماعية منعطفًا ثقافيًّا مهمًّا تخلَّت فيه عن التفسيرات القائمة على "التحليل الطبقي" القائم على الصراع، مع تعميق فكرة "نسبيّة" وطأة السياسة والأحداث في تفسير الظواهر الاجتماعية؛ وهي "نسبيّة" متَّكئة على "نهج جديد" قائم على تحليل الخطابات ومضامينها، والصور، والعروض المسرحية كونها العناصر الأكثر قدرة على الكشف عن السلوكيات وتصنيفها للاستجابة لجزء كبير من المتطلبات الاجتماعية، أو ربما -على الأقل- التأقلم مع الجوّ العام.
وهكذا، استطاعت مناهج العلوم الاجتماعية تحقيق نجاحات متعدِّدة الأوجه في افتتاحيّات الصحف والإعلام، والمؤسسسات، والجامعات، بالتركيز على "الدراسات الثقافية والإعلامية" كما هي الحال في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، وعلى "العلوم الثقافية" في ألمانيا، وعلى "التاريخ وعلم الاجتماع الثقافي والاتصال" في فرنسا كـ"نماذج حيّة" لهذه الحركة الجديدة بأكملها.
عمليًّا، تمثِّل الثقافة الأعمال الفنيّة المُنبثقة من الروح؛ "علاقة اجتماعية" أو "جهد" أو "عمل يدوي" تشكِّل في مجموعها جهودًا مهمّة للتحوُّل الاجتماعي والسياسي الذي من خلاله يحتلّ المثقفون والمبدعون، حتى المواطنون البسطاء، مكانة لم يحلموا بها، بل ولم يمتلكوا الشجاعة للمطالبة بها، كما يقول المفكر الفرنسي "كريستين ميريل" في كتابه المهم المنشورعام 2016 "الثقافة: من أجل ماذا؟".
وهنا، يجب الحذر وعدم الانجرار نحو انتصارات وفتوحات أكاديميّة وهميّة، بالادِّعاء مثلًا بامكانية إدخال الثقافة في "بيت الطاعة" المنهجيّة، كما عبَّر عن ذلك الأكاديمي الكندي "جان جاك شاليفو"عام 1993 في مقاله المعنون "الثقافة: هل هي مفهوم جدلي؟".
الشيء المؤكَّد، أنَّ معظم مراجع تاريخ الفكر الأنثربولوجي تقترح مجموعة من النظريات الجدليّة الحديثة في تحليلها لدور الثقافة وتأثيرها، إذْ يكفي الإشارة إلى بعض منها لكي ندرك عمق الجدل القائم:
- الثقافة مجازيًّا هي "طريقة للتكيُّف مع الظروف المعيشة"، مثل نظرية التطوُّر وتفسيرات البيئة الثقافية، والمادية الثقافية، والبيولوجيا الاجتماعية.
- يُنظر للثقافة على أنها "أيديولوجية"، مثل نظرية الصراعات الماركسية، والماركسية الجديدة، والنظرية الوظيفية، والنظرية النسوية.
- الثقافة نظام قِيَم ومعايير يقوم عليها العمل الاجتماعي، مثل نظرية الفعل الاجتماعي وفقًا لـ"ماكس ويبر"، و"بارسونز" أو نظرية علم الاجتماع النقدية أو نظرية التبادل.
- الثقافة كحدث فريد وتاريخي وفقًا للخصوصية التاريخية، والتاريخ العرقي.
- الثقافة كهيكل معرفي للأنثروبولوجيا النفسية والمعرفية، والرمزية أو التفاعل الرمزي.
- الثقافة على أنها امتلاك اللاوعي كشرط مسبق لفكر البنيوية بحسب "ليفي ستراوس" أو من منظور الأنثروبولوجيا الجدلية أو المنهجية العرقية.
في ظلِّ ذلك كله، تبدو الثقافة وكأنَّها "حصن منيع" لا يُقهر ولا يستسلم، متسلحةً بشجاعة الفرسان في مواجهة خصومها التقليديين من فقهاء اللغة، وعلماء الاجتماع، وخبراء السياسة. كما أنَّها لا تسمح لنفسها، أيضًا، أن تنغلق على ذاتها في تعريف كامل شامل ومقبول من الجميع. بل العكس من ذلك، تسعى، وباستمرار، إلى إقناع مَن يدنو منها -محبًّا لها أو كارهًا، محلّلًا لها أو ناقدًا- بأنَّها قابلة للقسمة، وربّما قابلة للتفكيك إذا ما كان القصد إعادة تركيبها بشكل علمي، فضلًا عن إمكانيّة أن تكون الثقافة أداة للتوحُّد، والانقسام، والعزلة، والتحرُّر أيضًا.
باختصار، لا يُستبعد أن يأتي يوم على البشريّه يكتب فيه علماء التاريخ والاجتماع والاتصال والسياسة عن "الثقافة الرقميّة" التي نعيشها الآن كنتيجة مباشرة لـ"عصر العولمة"؛ بوصفها ثقافة منبثقة من عصر "الأخ الأصغر" لعصرَيْ النهضة في القرن الرابع عشر والتَّنوير في القرن السابع عشر اللذين شهد فيهما العالم تحوُّلات فكريّة وسياسيّة ساهمت بولادة "ثقافات جديدة" من ناحية، وبشَّرت بأفق جديد ومنهج مختلف لتغيُّر قادم الأيام من ناحية أخرى؛ وكأنَّنا أمام "دوائر هيغليّة" ديناميكيّة عبر "الثقافة الإنسانيّة" المتجدِّدة بالحدث، والأمل لصالح الإنسان ومستقبله: ألم يقل أفلاطون بلسان بروتاجوراس في القرن الخامس ق.م إنَّ "الإنسان مقياس كل شيء"؟!