كامل الكيلاني ‏ رائد أدب الأطفال

خلف أحمد محمود أبوزيد

كاتب مصري

 

 

تَدينُ حركة التأليف في مجال ثقافة الطفل العربي، في أهم أسسها ومقوّماتها، للأديب كامل الكيلاني، ‏الذي ألقى بذرة أدب الطفل العربي، وأخذ من التراث العربي والإنساني والدراما العالميّة وبسّطها ‏مقدّمًا إيّاها للقارئ الصغير، فهو صاحب ما يقرب من ألف قصة كتبها للأطفال، طبع منها في حياته ‏مئات القصص التي تنوَّعت في موضوعاتها بين الشعبيّة والأسطوريّة والعلميّة والاختيارات من ‏القصص العالميّة. ‏

كتب كامل الكيلاني لكل المراحل العمريّة للطفل الصغير والصبي واليافع والشاب، من منظور روحي ‏علمي يعلي من شأن القيم الدينية والوطنية والاجتماعية والعلمية والخلقية والخيالية، كما يعدُّ أوّل مَن ‏خاطب الأطفال عبر الإذاعة وأول مؤسّس لمكتبة الأطفال في عالمنا العربي، وثمّة جانب أخر في ‏كتابات كامل الكيلاني للأطفال وهو أشعار الطفولة، حيث توجَّه بما كتَبَه من مقطوعات شعريّة كان ‏يختم بها قصصه وحكاياته للأطفال، بهدف إقامة علاقة حب وإعزاز بين الطفل ولغته العربيّة، عن ‏طريق ما كان يسوقه في أشعاره من تصوير يتلاءم مع عقل الطفل وجوّ القصة التي يقدمها له. ‏

وُلد كامل الكيلاني في 20 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1897م، بحيّ القلعة بالقاهرة في منزل يطلّ ‏على جبل المقطم، من أم تقول الزَّجل، وأب مهندس يهوى القراءة ولديه مكتبة مزدحمة بكتب الأدب ‏والتاريخ. حفظ القرآن الكريم وهو طفل صغير، ثم التحق بمدرسة أم عباس عام 1907م حيث عكف ‏على حفظ عيون الشعر العربي، ثم انتقل إلى مدرسة القاهرة الثانوية، وكانت هوايته دراسة الأدب ‏الإنجليزي، كما تعلَّم اللغة الفرنسية، وانتسب إلى الجامعة المصرية عام 1917م، وفي عام 1920م ‏حضر دورسًا في الأزهر الشريف حيث أجاد النَّحو والصَّرف والمنطق.‏

عمل الكيلاني في بداية حياته بالصحافة، فكان رئيسًا لتحرير صحيفة "الرجاء" عام 1922م، وشغل ‏منصب رئيس نادي التمثيل الحديث، وسكرتيرًا لرابطة الأدب العربي بين عامي 1929م و1932م. ‏كانت له ندوة أدبية عُرفت باسم "ندوة الكيلاني"، كان يحضرها أمير الشعراء أحمد شوقي، وخليل ‏مطران، ودواد بركات، وأحمد زكي أبوشادي، الخطاط سيد إبراهيم، وبعض علماء الأزهر. ‏

له العديد من المؤلفات للكبار نذكر منها "نظرات في تاريخ الأندلس"، "صور جديدة في الأدب ‏العربي"، "موازين النقد الأدبي"، وكتاب في أدب الرحلات بعنوان "ذكريات الأقطار الشيقة". كما قام ‏بتحقيق عدد من كتب التراث منها ديوان ابن زيدون، وديوان ابن الرومي، بالإضافة إلى المكتبة ‏العلائية وتتضمّن "رسالة الغفران"، "على هامش الغفران"، و"رسالة الهناء"، و"حديقة أبي العلاء". ‏وتجدر بنا الإشارة هنا إلى أنَّ كامل الكيلاني قام بهذه الأعمال الضخمة وكرَّس لها وقته وجهده وهو ‏يعمل بوزارة الأوقاف المصرية زميلًا للأديب الكبير نجيب محفوظ الشاب وقتئذ، إلى أنْ أحيلَ على ‏التقاعد عام 1954م. ‏

كان كامل الكيلاني شغوفًا بالقراءة إلى أبعد الحدود، فقد قرأ كتب الأدب والتراث العربي إلى جانب ‏الأساطير الإغريقية والقصص الشعبية، فتفاعلت هذه المكوّنات معًا وأعدَّته ليقوم بدوره في النهضة ‏الثقافية العربية الحديثة في مجال ثقافة الطفل من خلال قصصه وحكاياته التي اكتمل فيها الشكل ‏الجمالي الخالص بعناصر الخيال والإثارة والتشويق والمعالجة الفنية المحبَّبة لقلوب الأطفال. ‏

وهو أوَّل من كتب نثرًا قصصيًّا للأطفال على نطاق واسع في أدبنا العربي الحديث، والتفت إلى ‏الأطفال من مرحلة تعليمهم الابتدائي إلى مرحلة الدراسة الجامعية؛ وذلك في حلقات متوالية تتناسب ‏مع طبيعة كل مرحلة، مؤسِّسًا منهجًا فريدًا في مجال الكتابة للطفل قام على أسس ثلاثة؛ تشويق ‏الطفل وتحبيبه في الكتابة، ثم تجنبيه الخطأين اللفظي والمعنوي، ثم التدرُّج من مستوى إلى آخر. ‏

هذا الاعتناء بمستوى الكتاب المقدَّم للطفل من قبل الكيلاني، دفع المستشرق الإيطالي "كارلونلدنو" إلى ‏أن يبعث له برسالة جاء فيها "وإنّي لأحبّذ أوفى تحبيذ تلك العناية التي تبذلها في انتقاء المطبوعات ‏أولًا والأساليب ثانيًا وأحجام الحروف ثالثًا، وترتيب ذلك ترتيبًا يتمشى بنجاح تام مع الأطفال إلى ‏الشباب وفق تدرُّجهم في أعمارهم ومداركهم، كما يسرني أن أنوّه بالرشاقة والوضوح اللذين في فن ‏تلك الصور المبدعة، التي ازدانت بها هذه الكتب". ‏

كانت أوَّل قصة كتبها الكيلاني للأطفال بعنوان "الملك النجار" كتبها وهو في السنة الرابعة الابتدائية ‏ونشرها وعمره تسعة عشر عامًا في صحيفة "النسر العربي" عام 1917م، ثم نشر أولى قصائده ‏للأطفال في مجلات "الرجاء" و"العالمين" و"الحاوي"، ثم كانت الانطلاقة الكبرى في مجال الكتابة ‏للطفل عندما مرَّ الكيلاني على مكتبات الفجالة، ووجد أنَّ أصحاب المكتبات لا يعرفون شيئًا اسمه ‏قصص أطفال، وإنَّما يعرفون شيئًا اسمه كتاب مدرسي، فعرض فكرة كتابة قصص للأطفال على ‏إلياس أنطوني، الذي اقتنع بالفكرة وأخرج للكيلاني أربع قصص هي "الدجاجة الحمراء"، "أم الشعر ‏الذهبي"، "بدر البدور"، "العلبة المسحورة"، بالصور الملوَّنة وبذل فيها جهدًا خارقًا.‏

قسَّم الكيلاني قصصه المقدَّمة للأطفال إلى أربع مراحل عمريّة، هي مرحلة رياض الأطفال، الطفولة ‏المتوسطة، الطفولة المتأخرة، المرحلة الثانوية، وصنَّف بنفسه الصفحات الأخيرة من كل قصة، فقد ‏قسمها إلى سبع عشرة مجموعة قصصية، والواضح من تواريخ الطبع أنها طبعت متسلسلة وهي: ‏سلسلة رياض الأطفال، سلسلة حكايات الأطفال، سلسلة الفكاهة، سلسلة من ألف ليله وليله، سلسلة ‏قالت شهرزاد، سلسلة جحا، السلسلة الهندية، السلسلة العملية، السلسلة التمثيلية، سلسلة شكسبير، ‏السلسلة العربية، السلسلة المختارة، سلسلة أساطير العالم، سلسلة عجائب القصص، سلسلة جغرافية، ‏سلسلة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، سلسلة الجيب. ‏

وبييِّن الكيلاني هدفه التثقيفي الواضح من وراء هذه السلاسل، التي كان حريصًا خلالها أن يكسب ‏الطفل ثروة لغوية جديدة، حتى يتعرَّف على كلمات ستقع عليها عينه حتمًا عندما يقرأ فيما بعد كتب ‏التراث العربي القديم شعرًا أو نثرًا، لكي يخرج الطفل مزوَّدًا بعد ذلك بما يلزمه من عناصر الثقافة ‏الأساسية، التي تؤهله للولوج إلى عالم الثقافة من أوسع أبوابه، فهو يخاطب الطفل قارئه قائلًا: ‏

‏"لقد سايرتُك- مشيتُ معكَ على قدر خطوتك في قصص رياض الأطفال منذ أوّل عهدكَ بالكتاب، ‏وكرَّرتُ تلك العبارات لأيسِّر عليكَ القراءة وأبسِّطها لك تبسيطًا، وما زلتُ بك حتى أقرأتك أجزاءها ‏كلها في يسر وسهولة، ثم تدرَّجتُ بكَ إلى الحكايات فالقصص الفكاهيّة، فقصص ألف ليله وليله، ثم ‏ارتقيتُ بكَ إلى القصص الهنديّة وقالت شهرزاد فقصص شكسبير وجحا فقصة جلفر بأجزائها ‏الأربعة، ثم رأيتكَ تُقبل على أساطير العالم والقصة العلمية والجغرافية ومكتبة الجيب وتناقشني فيها ‏مناقشة دقيقة، دلَّت على حُسن فهمك وموفور ذكائك كما دلَّت على نجاح هذه الخطة التي انتهجتُها ‏نجاحًا تجاوز أمنية النفس". ‏

ولم يكتفِ كامل الكيلاني بهذا، بل نجده في عام 1946م يبدأ في إخراج كتب مصوَّرة بالعربية وما ‏يقابلها بكل من اللغات الإنجليزية والألمانية والإيطالية والإسبانية حتى يتسنّى للأطفال الذين يتكلمون ‏هذه اللغات أن يتعرّفوا على اللغة العربية وما يقابلها بلغتهم، وقد أشاد المستشرق عبدالكريم جرمانوس ‏بتجربة الكيلاني هذه قائلًا: "لا تقتصر هذه الكتب على الأطفال والشباب الشرقيين حسب، بل نستفيد ‏منها نحن الأجانب الذين يتعلمون العربيّة". وهكذا فتح الكيلاني بابًا جديدًا في اللغة العربية ذا هدفين؛ ‏حفظ هذه اللغة من ناحية وتثقيف أطفالنا وإمتاعهم من ناحية أخرى. ‏

تُرجمت قصص كامل الكيلاني إلى العديد من اللغات نذكر منها الإنجليزية والفرنسية والصينية ‏والروسية والإسبانية، وتقديرًا لدوره الرائد في مجال ثقافة الطفل فقد أقامت ليبيا مركزًا خصيصًا ‏لكتب وقصص كامل الكيلاني، كما منحه العراق لقب نقيب الأدباء، فكان أوَّل نقيب للأدباء تم انتخابه ‏عام 1934م، كما خصَّص المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بمصر جائزة باسمه لأدب ‏الأطفال، وقدَّمت الإذاعة المصرية مسلسلًا عنه كتبه أديب الأطفال الشهير عبدالتواب يوسف، كما ‏قرّرت بعض قصصه على طلاب المراحل التعليمية، منها قصة "شجرة الحياة"، "الأمير المسحور"، ‏‏"بساط الريح"، "مغامرات لولو"، وكان آخرها قصة "علاء الدين" التي قرِّرت من عام 1991 وحتى ‏عام 1996، وقصة "حبيب الشعب" التي تم تدريسها لمدة 12 عامًا.‏

أمضى كامل الكيلاني أربعين عامًا من عمره وهو يكتب للأطفال مؤلفًا ومترجمًا ومقتبسًا ومقومًا في ‏ريادة عالميّة النزعة إنسانيّة الروح، مُفصحًا عن موقف في ثقافته وقلمه وعبقريّته من أجل مشروع ‏تثقيفي متكامل يجعل من تثقيف الطفل عمليّة تنمويّة تُحيط بأبعاد العقيدة والسلوك والفكر واللغة، ‏وتمثِّل لديه جسرًا آمنًا ينطلق منه من واقعه إلى تراثه ومن ماضيه إلى مستقبله، فقدَّم كل ما هو جديد ‏للأطفال الذين شبّوا وكبروا وتطوّروا وكبرت معهم جهود هذا الأديب الكبير، الذي يُعدُّ الأب الروحي ‏لأدب الطفل العربي، إلى أن رحل عن عالمنا في 9 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1959م.