العنوان مدخلكَ إلى عالم النّصّ ‏ أو "سمِّه المفتاح إنْ شئت"‏

مها بدّار

كاتبة أردنية

 

ممّا لا شكّ فيه أنّ العنوان يشكّل العتبة الأولى للولوج إلى عالم النّصّ الرّوائيّ بشكل عام ‏والمجموعة القصصيّة "سمّه المفتاح إن شئت" بشكل خاصّ، فمن خلاله تمكنّت الكاتبة ‏الأردنيّة "أماني سليمان داود" من فكّ الالتباس عن كلّ مقصد أرادته في كلّ قصّة حوتها ‏مجموعتها بأسلوب غامض يأخذ بيد القارئ تارة ثمّ يتركه هائمًا على عقبيه تارة أخرى علّه ‏يجد البوّابة الّتي معه مفتاحها.‏

لتحقيق حالة المواءمة لِما ينتاب القارئ من حيرة وإدراك عمدت الكاتبة أماني سليمان داود ‏إلى اختيار واعٍ لعناوين عملها بدءًا من العنوان الرّئيس "سمّه المفتاح إن شئت"(*) وانتهاء ‏بعنوان القصّة الثّامنة والأخيرة فيه "توت- عجين- نار"، بالإضافة إلى أنّها قدّمت موجزًا قبل ‏كلّ قصّة أضاءت من خلاله على نقاط مهمّة، قد تبدو للوهلة الأولى ألغازًا غير قابلة للحلّ، ‏لكنّها وبعد قراءة القصّة تبدو مفتاحًا آخر.‏

‏"الشّغف" عنوان القصّة الأولى، وقد جاء معرّفًا بـِ"الـ"، فعلى الرّغم من تردُّد كلمة الشّغف ‏على ألسنة الكثيرين منّا إلّا أنّنا على جهل كبير به، خاصّة أنّ حالة الشّغف المُبهم الّتي تفرض ‏وصايتها على جنبات القصّة تضعنا أمام حقيقة لا يمكننا الهروب منها؛ تتلخّص بأنّنا نتوق إلى ‏الشّغف لكنّنا لا نعيشه فعلًا على الرّغم من أنّه حالة لا توقفها حدود المكان ولا تشلّها عقارب ‏ساعات الزّمان.‏

أمّا الفضاء المكانيّ الرّحب الّذي اختارته الكاتبة مسرحًا لأحداثها بين الشّام وعمّان، فقد انسجم ‏مع حالة الشّغف الإنسانيّ، وحمل في طيّاته رائحة الحريّة الفكريّة والانطلاق الشّعوريّ، ‏لتختتم القصّة بطلب الشّخصيّة الرّئيسة من أستاذها الوقوف عند الشّغف، فتقول له: "ليكن هو ‏العتبة أو سمِّه المفتاح إنْ شئت"، مُعلنة حالة من التّمرُّد والعصيان لتعيش الحياة كما ينبغي ‏‏"فإنّ ما حدث معي هو أنّني لم أمُت، بل انتبهتُ فجأة بما يشبه حال الموتى".‏

أمّا في عنوان قصّة "وجه في مرآة"، فإنّنا نلحظ غياب الاسم المعرفة، الأمر الّذي يتناسب ‏مع الحالة الشّعوريّة الّتي شُحنت بها القصّة؛ فالشّخصيّة الرّئيسة في حالة غياب خلّفته حالة ‏الفوضى الّتي يعجّ بها يومها كما تعجّ حقيبتها بالأوراق "ورق يمثّل شهورًا؛ قوائم بأسماء ‏وأعمال تمّ إنجازها وأخرى نُسيت أو أُجِّلت".‏

معترك حياتيّ تعيشه الشّخصيّة دون أن تحياه لتكتشف فجأة أنّها غيّبت ذاتها وأضاعت ‏وجودها لتعثر عليه على صورة "وجه في المرآة لامرأة قادمة من زمن غابر"، فلم تتوقَّع تلك ‏المسكينة هول المفاجأة؛ فارتطمت بالواقع لتحدث في المكان جلبة نابعة من رثاء الذّات تجلّت ‏على صورة قهقهة لفتت أنظار النّسوة فـ"انشغلن بالتّحديق في وجه امرأة تتأمّل وجهها في ‏مرآة صغيرة وتقهقه وتقهقه".‏

وعند الوقوف عند عنوان القصّة "تأويل" نتذكّر أنّ الحياة مليئة بالتّأويلات، بعضها نعيشه ‏وبعضها الآخر نراه على هيئة أحلام ننسج أحداثها باللّاشعور "لأنّ اللّاشعور الذّكيّ يشرح ‏ذاته بعيدًا عن ضلالات وتأويلات الإدراك"، وبين ردّ وقول ندرك فلسفات نسج النّصوص ‏وحياكتها.‏

فنعرف أثر اللّاوعي عند الكاتب فـ"إدراك الكاتب لا يتدخّل دائمًا ليحدّ من اللاوعي وإنّما هو ‏بذلك يزيده ذكاء على ذكاء ثلاثيّة: النّصّ/ الحلم/ التّفسير الّذاتي غير المُعلن"، فتصلنا قصّة ‏يشوبها الغموض المشوّق، فلا ندري فعلًا مَن هو الجنيّ ومن هي الدّجاجة الّتي تشبه الحمامة، ‏أهي فعلًا موجودة أم وجودها كائن لغياب الدّيك عنها؟

‏"كأنّني سهوت" عنوان يخلق حالة من التّوهان العاطفيّ في ذهن القارئ، لكنه لا يلبث أن ‏يعيده إلى جذور النّص؛ ليخلق في نفسه تساؤلًا محوريًّا عن الفلسفة الوجوديّة، فهل سهونا ‏الآن؟ أم أنّ حياتنا سهوة؟ أم أنّنا نسهو بإرادتنا فنخلق حالة الهذيان فنعيش اليقظة؟ ويا ترى ‏هل الحبّ شعور يتولّد بمحض الصّدفة أم أنّنا نخلقه مع سبق إصرار منّا وترصُّد؟ ‏

‏ لغز الموت نعجز عن فكّ شيفرته، فنمضي الحياة في حالة بحث، فنصل إلى الإجابة عندما ‏تنتهي رحلتنا، فنسلّم الرّاية لغيرنا ليكمل غيرنا طريقه في البحث عن إجابة عن تساؤلاتنا ‏حيث بدأنا، لا حيث انتهينا، تساؤلات لا تخلو من الفضول، فهي تداهم الرّأس لتضعه في ‏دوّامة الحيرة، لكنّها لا تلبث أن تخرجه إلى فلسفة فطريّة تبرّر الوجود الإنسانيّ وتنفيه على ‏حدّ سواء. ‏

لم تكن فلسفة الوجود هي الطّاغية فحسب، بل ثقافة كاتبة تجلّت في اختياراتها بدءًا من رقصة ‏زوربا التي جاءت لتخدم الموقف وتفكّ عند القارئ بعض الالتباسات، ومرورًا بفيلم (ميت جو ‏بلاك)، تلخّص لنا بساطة الحياة وتنشلنا من تعقيدات العيش، لتطالبنا بإحياء وجودنا وتؤكّد ‏تمسُّكنا بآخر أمل لنا فيها كي نحيا أحياء لا نموت ونحن على قيد الحياة. ‏

قصّة "شجرة النّبيذ" في ثناياها تتربّع دالية على العرش "دالية الصّبيّة الوارفة بهيّة العينين، ‏ترفع يديها... وتقفز..." ودالية العنب، أو شجرة النّبيذ الّتي تربطها بدالية رابطة قويّة جعلتها ‏تشبهها كثيرًا فـ"قدّ دالية أصبح أهيف كساق دالية حطّمتها رغبة المدينة بالحداثة والأرصفة... ‏وروح دالية كجذور الدّالية في الأرض".‏

قصّة تحمل في طيّاتها رسائل صحوة ترسلها لكلّ مَن يقرأها ليعيد النّظر في حالة استفحال ‏التّمدُّن وطغوته على عالم الخضرة الجميل، فهنا نحن نرى "ضابط البلديّة يرفع الفأس ‏ليضرب جذعها" متناسيًا ما تحمله هذه الدّالية من ذكريات عاشها أصحابها على مرّ السّنين، ‏فيوقظ في دواخلهم صحوة لن تؤكّد لهم أنّ كلّ "رصيفة بدعة وكلّ بدعة ضلالة".‏

‏"من الخلف تبدو الحكاية مختلفة" عنوان اختارته الكاتبة لقصّتها، وهو أمر واقع في ‏قصص حياتنا اليوميّة، فدائمًا ما يكون للحكاية وجوه كثيرة؛ فمن الخلف بالتّأكيد ستبدو ‏الحكاية مختلفة، وباختلاف مَن يقرأها ستختلف، المهمّ ألّا نطلق الأحكام المسبقة على مَن ‏حولنا فنخلق حكايات نظلم شخوصها أحيانًا أو نبرِّئهم أحيانًا أخرى.‏

يوميّات أفراد مشحونة بالأحداث المختلفة، فها هي المحاضرة تحدّث نفسها متسائلة من أين ‏تبدأ في تدريس الكاتب، و"تلك الطّالبة الأنيقة الّتي اعتادت الجلوس في الصّفّ الأوّل، تفاعلت ‏مع القصّة" وتلقّت نظرات من "زميلاتها شزرًا ظانّات أنها تتحدَّث من برج عاجيّ".‏

‏"سجّادة ضوء" مصطلح أطلقته الكاتبة على مدينة دمشق واختارته عنوانًا لقصّتها هذه ‏لتختزل من خلاله كلّ ما حملته القصّة من أفكار تزاحمت في رأس الرّاوي، وجعلته محمّلًا ‏بالهموم أحيانًا، ومفعمًا بالشّوق والأمل أحيانًا أخرى، فبين اليوم والأمس تغيّرت الأحوال ‏كثيرًا، فأصبح الغد حالة مبهمة لا يمكن التّكهن بملامحها.‏

وبقدر جماليّة الصّورة المرتسمة في الأذهان من وقع تركيب "سجّادة ضوء" بقدر حالة ‏التّساؤلات الّتي يستثيرها العقل الواعي، فكيف يمكن للسّجادة الّتي تطؤها الأقدام آلاف المرّات ‏أن تحافظ على جمالها؟ فكيف هو الحال بسجّادة من ضوء؟ ألن ينطفئ نورها أو يخبو ‏بريقها؟ أم أنّ الذّكريات قادرة على تخليد المشاهد كما رأتها أوّل مرّة دون أن يعتريها تغيُّر أو ‏بهتان؟

وفي القصّة الأخيرة "توت عجين ونار" شكّلت مفردات العنوان ثالوث العلاقة الزّوجيّة الّتي ‏يعيشها "الفرّان" مع زوجته الّتي استطاعت أن تبقى موجودة كشجرة التّوت، على الرغم من ‏قسوة الصّمت الّذي عاشته معه، فهو دائمًا ما كان مكتفيًا بأن "يسرد قصصًا من هنا وهناك ‏دون أن ينسى مسح عرقه بفوطة يرميها بتلقائيّة فوق كتفه كلّ بضع دقائق".‏

ذلك "الفرّان" الزّوج الّذي يريد أن يغدو لكلّ مَن يراه فصيح زمانه وحكواتي عصره مع أنّ ‏حالته تلك لا يعيشها إلّا حين نزوله درجات فُرنه الثّلاث لـ"يتلبّسه إيقاع خاصّ كلحن ‏الموسيقى"، فـ"يتوّزع يومه بين فرنه وحكايا النّساء وبيوت الحيّ المفتوحة عليه بتفاصيلها ‏المُعلن منها والمسكوت عنها"، ولم يعرف أحدهم أنّ الحكاية الكبيرة تعيش في بيته وفي عينيّ ‏زوجته "عيونها مكتنزة بالسّر ساهمة في البعيد، يدها -من غير صينيّة- تملأها التّجاعيد ‏الظّاهرة للعابرين"، وبهذه القصّة تسدل الكاتبة السّتار، فتنتهي الحكايا وتبقى لنا العبرة كقرّاء ‏إلى ما لا نهاية.‏

‏- - - - - - - - - - - - - - - ‏

‏(*) د. أماني سليمان داود، "سمّه المفتاح إن شئت"، منشورات ضفاف، الطّبعة الأولى: ‏‏2016.‏