اللغة

قصة: أماياك تير-أبرامانتس

ترجمها عن الروسية: محمود إبراهيم الحسن‏

كاتب ومترجم سوري مقيم في تركيا

 

 

‏"يا لسعادتي العظيمة باللغة الروسية"، صاح صديقي الكاتب "فاردافان فارجابيتيان".‏

‏"فاردفان" مثلي، ينتمي لثقافتين، أبوه أرمني، وأمه روسية. أمّا أنا فأبي أرمني، وأمي ‏أوكرانية.‏

عائلتانا تتكلمان اللغة الروسية، لقد وُلدنا خارج أرمينيا، لذلك لا نعرف اللغة الأرمينية ‏للأسف.‏

أنا لا أعتبر أننا "هجينان"، ونعاني من ضياع الهويّة الأساسية؛ بل أعتبر أننا جُسور ‏بين عرقين مختلفين؛ بصفتنا أصحاب اللغة والثقافة والأدب الروسي، لكنّنا لا ننسى ‏موطن أجدادنا الأصلي: أرمينيا.‏

كتب "فاردافان" قصة رائعة عن الشاعر الأرمني "غريغوري ناريكاتسي" حين ذهب ‏إلى أرمينيا كمتطوع بعد زلزال "لينين كانسكي"، ورفَعَ الأنقاض، أمّا أنا كطبيب فكنتُ ‏أشرف في مشفى "بوتكين" على الجرحى الذين أصيبوا بجروح خطيرة، وتمّ إسعافهم ‏من أرمينيا. أنا مولع بتاريخ أرمينيا، لكن بالعودة إلى اللغة الروسية، والتي أشعر أنها ‏قريبة جدًا مني: فأنا وُلدت في أستونيا، وأحبُّها، وأحترم الأستونيين على عملهم ‏وجهدهم، وأخلاقهم البروتستانتية. غادرت عائلتنا ذلك البلد عندما كان عمري ثمانية ‏أعوام. ومنذ ذلك الوقت بالكاد أزور أستونيا مرة كل عامين أو ثلاثة لإنعاش روحي ‏بزيارتها.‏

مع استقلال أستونيا، وبدء العمل بنظام التأشيرات أصبح الذهاب إلى مدينة تالين أكثر ‏صعوبة، وساءت العلاقة بين روسيا وأستونيا، لا أريد هنا أن أحكم مَن كان مخطئًا ‏أكثر، ولا أريد الخوض في الخلافات السياسية، لكن الحقيقة واضحة؛ وهي أنَّ أستونيا ‏تبتعد تدريجيًّا عن روسيا، وتبني سياجًا بينها وبين روسيا معتبرة أنها مصدر خطر ‏لها.‏

تضاءل عدد القطارات بين تالين وموسكو من قطارين إلى قطار وحيد، تضاءلت ‏عرباته هو الآخر إلى ما يقارب النصف.‏

وبكلِّ الأحوال اعتبرتُ أنَّ من واجبي أنْ أعرِّفَ ابني على أستونيا، واصطحبتُه في ‏زيارة لها عندما أصبح عمره عشرة أعوام.‏

لمعرفتي السابقة بالمواقف السلبيّة لبعض الأستونيين تجاه كل ما هو روسي "منذ العهد ‏السوفييتي" لذلك اتفقتُ مع ولدي أن نتكلَّم في القطار فقط باللغة الإنجليزية. كان جارنا ‏في الحجرة المجاورة شاب في الثلاثينيات، أشقر وبدين، تحدَّث مع المرافقة التي ‏جاءت لفحص التذاكر باللغة الأستونية، أمّا أنا وابني فتبادلنا التعليقات فقط باللغة ‏الإنجليزية، لكن في لحظة شردتُ وقلتُ بالروسية: "يا للعجب"، وكانت هذه الكلمة ‏كافية لكي يفكّ جارنا شيفرتنا، ويتحدَّث معنا باللغة الروسية.‏

اسمه "أيفار"، ولأوّل مرّة يسلك هذه الطريق عبر القطار، كان دائمًا يسافر بالطائرة. ‏تجاوز القطار حدود موسكو، أمّا "أيفار" فذهب إلى عربة الطعام، وكم كانت دهشتنا ‏عظيمة عندما عاد "أيفار" محضرًا معه رقائق الجبنة الساخنة، كان سلوكًا جميلًا من ‏شعب يوصف ببرودة الدم.‏

تحدَّثنا طوال الليل أنا و"أيفار" عن السياسة، والاقتصاد، والغرب، وفي الصباح؛ ‏افترقنا ونحن أصدقاء.‏

في تالين ولتجنُّب لفت الانتباه إلينا؛ تحدَّثنا أنا وابني باللغة الإنجليزية مع موظفي ‏الاستقبال في الفندق، وفي المتاجر والمتاحف، ومطاعم البيتزا والأكل السريع، لكن ما ‏يثير الدهشة أنَّ كثيرين لم يفهموا كلامنا، خصوصًا الكبار في السن الذين لا يعرفون ‏الإنجليزية، ولم يتعلموها، أمّا الروسية فإمّا أنهم لا يعرفونها، أو أنهم رفضوا التحدُّث ‏بها من حيث المبدأ.‏

أتقنّا بسرعة العديد من الكلمات بالأستونية، لحسن الحظ كلمة بيتزا هي نفسها في كل ‏اللغات، وأمّا الشوربة "سووب بالروسية" فكانت تلفظ تقريبًا نفسها بالأستونية "سوو ‏وب"، أمّا القهوة فهي نفسها "كوفي" في كلتا اللغتين.‏

الحساب ولكوننا اثنين، فكان يكفينا أن نعرف رقمين فقط؛ "يوكس": واحد، و"كاكس": ‏اثنان، وعندما نطلب الطعام نقول: "كاكس بيتزا"، "يوكس كوكا كولا"، "يوكس بيرة"، ‏أمّا البيتزا فعندما نطلبها كنّا نقول: "سو ار" وتعني كبيرة، أو "اي سو ار" أي ليست ‏كبيرة.‏‎.‎

حدث معي في تالين القديمة موقف غير لطيف يتعلق باللغة الروسية عندما كنّا نتجوَّل ‏في المدينة، ونتشبَّع من روح أوروبا والقوطية، ثم أسقطت السماء وابلًا من الأمطار ‏القوية التي عادة ما تهطل هنا في الصيف قويّة، ومتكررة، لكنها لفترات قصيرة، ‏واختبأنا عند أحد المداخل القديمة التي تعود للقرون الوسطى، لكن فجأة رأيتُ كلمة ‏روسية بذيئة من ثلاثة أحرف محفورة على الجدار بأحرف كبيرة. حاولتُ أن أخفيها ‏عن ابني، ليس لأنَّ ابني عفيف ومهذب، بكل الأحوال هو يعرف معناها، وقد سمعها ‏ألف مرّة في بلدتنا بادولسك كل صباح عندما كان العمّال يمرّون بجانب بيتنا، وهم ‏يسعلون، وكانت هذه الكلمة السيِّئة مرافقة لأيّ كلمة أخرى يقولونها، وفي الشارع ‏غالبًا ما تُستخدم هذه الكلمة على امتداد النهار، ونحن بشكل افتراضي لا نلقي لها بالًا، ‏وكأنَّنا لم نسمعها.‏

ابني؛ ومنذ أن كان في الروضة لم يسأل عن معنى أي كلمة سيئة، نحن وضَّحنا له كل ‏شيء منذ تلك المرحلة، لكن هنا في تالين بدت هذه الكلمة وكأنها تخرق المظهر ‏الرومنسي لهذه المدينة الرائعة، ولا أريد أن أفسد انطباع ابني الجميل عنها.‏

فيما بعد مرَّت إقامتنا في تالين بسلاسة، مع وجود توتُّر داخلي طفيف أحيانًا، امتلأت ‏الشوارع والساحات باللغة الأستونية الرخيمة، واختفت الروسية تمامًا، وكان يمكن ‏توقُّع سماع اللغة اليابانية أكثر منها.‏

جاء يوم مغادرتنا، جلسنا في ساحة راتوشين، أنا احتسيتُ البيرة، وابني كان يشرب ‏الكوكا كولا، كُنّا متعجبين من السُّحب العملاقة التي تُنذر بهطولات صيفية متقطعة، ‏والتي ظهرت تحتها ساحة المدينة وكأنها لعبة.‏

أخيرًا دخلنا إلى العربة، وجلسنا في مقاعدنا.‏

عندما اقتربنا من تالين كان الصمت الحذر يخيِّم على العربة تخلّلته بعض الكلمات ‏باللغة الأستونية مع المضيفة، وحاول الركاب أن لا ينظروا إلى بعضهم بعضًا، كان ‏هناك شعور بالارتباك، أمّا اليوم؛ وفي رحلة العودة، فالنشاط هو السمة السائدة بين ‏ركاب العربة؛ يضحكون، ويتبادلون الأحاديث، وسُمعَت اللغة الروسية من كل ‏الاتجاهات بلا تردُّد، أو قيود، كان شعورنا أشبه بمن هرب إلى البحر المُنعش في يوم ‏صيفي حار.‏

انطلق القطار، وبدأت رحلة العودة، ومع أنَّ برج تالين كان مرئيًّا من النافذة، وخلفه ‏العلم الأستوني بألوانه الأبيض والأزرق والأسود، لكن نحن شعرنا وكأنَّنا في روسيا.‏

‏- - - - - - - - - - - ‏

عنوان القصة باللغة الروسية: ‏Язык

عن المؤلف: أماياك تير- أبرامانتس: كاتب وطبيب وُلد في تالين عاصمة أستونيا عام ‏‏1952. كتب العديد من المجموعات القصصية، والكتب النثرية، وحاصل على عدة ‏جوائز أدبية. يعيش حاليًا في موسكو.‏

رابط القصة في موقع صحيفة كلاوزرا الروسية:‏

https://klauzura.ru/2020/10/amayak-ter-abramyants-yazyk-‎rasskaz