د. فيصل أبو الطُّفَيْل
أستاذ البلاغة والنقد الأدبي- جامعة السلطان مولاي سليمان- المغرب
احتفى العالم مؤخَّرًا بالذكرى السنويّة المائة والخمسين لوفاة "ألكسندر دوما" (1802-1870) بوصفه واحدًا من أشهر كُتّاب القرن التاسع عشر الذين تمتعوا آنذاك بشعبية كبيرة. فهو كاتب ذو طبيعة خاصة: طَموح إلى ما لا نهاية، مبذِّر حدّ الإسراف، شغوف حدّ الهَوَس، ومدمن على العمل.
ما تزال كتابات "ألكسندر دوما" تستهوي شرائح عريضة من القراء منذ ما يقرب من قرنين من الزمان. وقد ساهم أبطاله الشجعان، وقصصه المحبوكة بإتقان، وخلفيّاتها التاريخية والثقافية في بناء أسطورته. ومن هذه الزاوية يمكن تفسير السرّ الكامن وراء تلك المكانة البارزة التي يحظى بها أدب "دوما" في التاريخ الأدبي العالمي، إلى الحد الذي يجعل منه كاتبًا مؤسِّسًا ومشاركًا في ظهور الثقافة في شكلها الحالي.
إنَّ الاحتفاء بهذا الكاتب الغزير الإنتاج من شأنه أن يوقظ فينا وهج السؤال الآتي: كيف نحتفي بوفاة مؤلِّف لم يرحل عنّا أبدًا؟ فلا شكَّ أنَّ "ألكسندر دوما" ما يزال مقيمًا بيننا عبر نصوصه الأدبية التي كُتب لها الخلود. فهو الأب الروحي لاثنين من أعظم الأساطير الأدبية الفرنسية: "الكونت دي مونت كريستو" و"دارتانيان". وقد ترك "دوما" أعمالًا أدبية عظيمة ما تزال تكشف عن نصوص مكتنزة لم تستنفد بعد مكنوناتها. وبهذه المناسبة أصدرت دار النشر "ليرن" مؤخرًا كتابًا جديدًا يجمع بين دفَّتيه عددًا من الدراسات والمراسلات والحوارات... والتي تعيد إلى الواجهة رسم صورة متكاملة لمبدع مغامرات "الفرسان الثلاثة" إحدى أجمل روايات الأدب العالمي.
• جهد جبّار وعمل ضخم
نشر "ألكسندر دوما" خلال حياته المهنية التي لم تتجاوز الخمسين عامًا، 600 كتاب، أي ما يعادل تقريبًا كتابًا واحدًا في الشهر، بما في ذلك قصص الرحلات ومسرحيّاته وقصصه القصيرة ومقالاته التاريخية وسيره الذاتية وأوبراته وقاموسه الذي يحمل عنوان: "قاموس المطبخ الكبير" بالإضافة إلى مذكراته.
وفي سبيل مواصلة الكتابة ومواكبة إيقاعاتها وغزارة إنتاجها، كان "دوما" يستعين بعدد كبير من المساعدين يأتي في مقدّمتهم الكاتب الفرنسي "أوغست ماكيه"، وغالبًا ما كان "ألكسندر دوما" هو الذي يبدع الأفكار ويتولى وضع اللمسات الأخيرة على النسخ التي تُقَدّمُ له. وهذه في الحقيقة طريقة فريدة في الكتابة، بعيدة كل البعد عن الصورة الحرفية للكاتب المنعزل الحزين، الذي يجهد ذهنه لتسويد صفحة بيضاء. ولكنها في الوقت نفسه قريبة جدًا من الفن المعاصر، حيث لا يكون المكلف بالتصميم هو مَن يقوم بالضرورة بالتنفيذ.
• البداية مع المسرح
قبل أن يصبح "دوما" روائيًّا، اشتهر لأوّل مرّة بكونه كاتب مسرحيّات تاريخية، حيث ترك وراءه أضمومة من النصوص المسرحية التي تولّى كتابتها بشغف كبير. نشأ "دوما" بين الكتب، وعاش "حياة من أجل المسرح". فعلى سبيل المثال حققت مسرحيته "هنري الثالث وبلاطه" شهرة واسعة في الكوميديا الفرنسية في عام 1829. حتى إنه جاهد في وقت لاحق لإنجاح مشروعه، فاستطاع أن يؤسس مسرحه الخاص في عام 1846، لكن سرعان ما سيفلس هذا المسرح بعد أربع سنوات من افتتاحه.
• أسلوب سهل ممتنع
ومع ذلك، فإنَّ المزاوجة بين السهل والممتنع هي ما يسم أسلوب الكتابة الروائية عند "دوما". فالحوارات القوية، والأذواق المتنوعة للشخصيات المتقلبة الطبائع والأمزجة والمواقف، تجعل من كل صفحة مشهدًا قائمًا بذاته. "فهناك دائمًا صوت للركض في رواياته"، وفق ما يذهب إليه الكاتب الأكاديمي "دومينيك فرنانديز". وهذا الأسلوب المتسارع والمحموم هو ما أهّل كتابات "دوما" لتكون -في كثير من الأحيان- أكثر النصوص الأدبيّة قابليّة لأن تُحوَّل إلى أفلام ومسلسلات على الشاشة... كما استفاد "دوما" أيضًا من تجربته ككاتب أعمدة بالمجلات التي كان ينشر فيها معظم قصصه.
وبوصفه قصّاصًا وروائيًّا وكاتب أعمدة فرض "دوما" نفسه على الساحة الثقافية في عصره من خلال طريقته الخاصة في الكتابة التي تقوم على تزويد الصحف والمجلات بمحتوى فريد من نوعه. وفي هذا الصَّدد يؤكد "ماتيو ليتورني"، أحد الأكاديميين المتخصصين في ثقافة المسلسلات أنَّ "ألكسندر دوما قد تنبّه بفضل ذكائه إلى أنَّ الجانب الجمالي للمسلسلات كان ذا صلة عميقة بالجانب الاقتصادي في الصحف والمجلات".
• الرواية - المسلسل
تحكي رواية "الكونت مونت كريستو" (1845) قصة البطل "إدموند دانتي"، الذي قطع عهدًا على نفسه بالانتقام من أصدقائه الثلاثة الذين خانوه وسرقوا جزءًا من حياته. الرواية، التي تحتوي على أكثر من 800 صفحة، تنقلنا من مرسيليا إلى جزيرة مونت كريستو، ومن روما إلى باريس في ثلاثينات القرن التاسع عشر. وهي منسوجة من استطرادات متعددة تتعلق بالأحداث السياسية، والبستنة، وبطولات اللصوص من قطاع الطرق، والاكتشافات العلميّة...إلخ. إنها ملحمة كبيرة تستوعب مساحات شاسعة من التلاعب، والرومانسية، ومصارع العشاق، والتشويق والتقلبات... فلا غرابة في أن يعتبرها "أمبرتو إيكو" واحدة من أكثر الروايات إثارة على الإطلاق.
وقد تم تحويل الرواية لتُعرض على الشاشة في غير ما مرَّة. لكن "جيرار ديبارديو" كان هو الممثل الوحيد الذي جسّد في آن شخصيَّتي كل من "الكونت مونت كريستو" و"ألكنسدر دوما".
• راهنيّة "ألكسندر دوما"
على الرّغم من أنَّ "دوما" قد عاش في القرن التاسع عشر، إلّا أنَّ إحساسه بإيقاع الكتابة وقدرته على السير في منعطفاتها يتواءم تمامًا مع أدب القرن الحادي والعشرين، ويثبت راهنيّة نصوصه الأثيرة. وكأنَّه يكتب في أريحيّة تامّة على منصّة تبثّ محتوى مباشرًا وبإيقاع مجنون. ففي عام 1844، كتب رواية "الفرسان الثلاثة" لـصحيفة "القرن" في شكل فصول متتالية، ونشر رواية "الكونت دي مونت كريستو" للصحيفة اليومية Journal des Débats و"الملكة مارغو" لصحيفة "لا بريس"!
وفي عام 1853، انتهى به الأمر ليصبح هو نفسه رئيس تحرير صحيفة أطلق عليها اسم "الفارس". وقد شكّلت هذه الصحيفة المنبر الخاص للكاتب فأتيحتْ له الفرصة لنشر خياله وأبطاله. بيد أنَّ هذه الكتابة تحت الطلب ظلَّت عند الكثيرين مصدرًا لسوء الفهم. فعلى الرّغم من أنَّ "إميل زولا" أقرّ بأنَّ "ألكسندر دوما" قد تميّز بقدرته على كتابة مسرحيات "محكمة الصنع"، فإنه وجّه سهام نقده إليه في ما يتعلق بالطابع الوعظي لكتابات "دوما".
ومهما كانت طبيعة الانتقادات التي وُجّهتْ إلى "ألكسندر دوما" يظل هذا المؤلِّف مع ذلك من أعظم كُتّاب فرنسا المحبوبين الذين وضعوا نصب أعينهم إيصال رسالتهم إلى مختلف طبقات القرّاء، وخاصة الطبقة الشعبية. فقد اشتُهر أنه كان متعاطفا مع المهمشين والمستبعدين من جميع الألوان والطبقات والأديان.
ومن جانب آخر، فإنَّ رواياته الثريّة جديرة بإعادة قراءتها بوصفها أدبًا كُتب في الماضي ليُقرأ في الحاضر بعيون معاصرة تأخذ في الاعتبار كل التحوُّلات الرّاهنة، وتُلقي التحية على هذا الكاتب وتعترف له بقدرته على الحضور، وقوة أدبه على اختراق الأزمنة والأمكنة مرّات ومرّات.