بقلم: ميشيل فور
ترجمة وتقديم: نبيل موميد
كاتب ومترجم- مركز أقسام تحضير شهادة التقني العالي- المغرب
"غابرييل غارسيا ماركيز"، "ماريو فارغاس يوسا"، "إيزابيل الليندي"، بابلو نيرودا"، "خورخي لويس بورخيس" وغيرهم كثير من كُتَّاب أميركا اللاتينيّة الذين طبقت شهرتهم الآفاق، من خلال أعمال تحتفي باليومي والمحلّي، وترقى به نحو آفاق العالميّة الرّحبة. أعمال عبَّرت، ولا تزال تعبِّر، عن التنوُّع الثقافي الكبير لهذه المنطقة، وعن تاريخها المثقل بخيبات الأمل، وعن السَّعي الحثيث نحو تحويلها إلى أمل في قادمٍ مُشرق.
تُمثِّل أميركا اللاتينيّة بالنسبة إلى المكسيكي "أوكتافيو باز" Octavio Paz "ضاحية من ضواحي التاريخ"، ويعتبر سكانها "دخلاء وفدوا على المشهد الحداثي في نفس لحظة إسدال الستارة" (متاهة الوحدة - Le labyrinthe de la solitude، 1950).
لا يشكِّل أدب أميركا اللاتينيّة كُلًّا متجانسًا، على الرّغم من أنه يُعبِّر على الدوام عن خيبة الأمل التي أفرزها واقع العيش على هامش العالم؛ فهو يكشف التنوُّعات الثقافية واللغوية التي تميِّز هذه القارة الضخمة. وعلى سبيل التمثيل، لا يمكن أن نجد عنصر ائتلاف واحد بين المكسيكي "هكتور أغيلار كامان" Hector Aguilar Camin، مؤلف الرواية البوليسية ("الموت في فيراكروز– La Mort à Veracruz") التي تسرد قصة مافيا نقابية في بلد بترولي، وبين الأرجنتيني "خورخي لويس بورخيس" Jorge Luis Borges، الذي يُشيِّد، في (قصص/ Fictions)، عبر 18 حكاية عوالمَ يسودها الخيال، والأناقة، والألعاب الذهنيّة، والإيحاء بالإيهام في أبهى تجلياته.
وعلى الرّغم من الانتشار الواسع للُّغة الإسبانية داخل أميركا اللاتينيّة [باعتبارها لغة رسمية]، إلا أنها لم تنجح في ردم هوّة الاختلافات بين آداب دول هذه المنطقة؛ ذلك أنَّ هذه اللغة عرفت مسارات تطوُّر متمايزة تاريخيًّا من دولة إلى أخرى، فنتج عن هذا طرائق نطق متباينة، واختلافات معجميّة صارخة؛ فكان أن استقلَّ كل بلد من بلدان المنطقة بأدبه الخاص المتفرِّد. وبالإضافة إلى اللغة الإسبانية، تنفرد البرازيل باعتماد اللغة البرتغالية، لتضيف إلى المشهد الأدبي الأميركو- لاتيني غنى وثراءً جديدين.
وعلى العموم، مرَّ أدب أميركا اللاتينيّة بمراحل عديدة، بداية من "مرحلة البوم/ Epoque du BOOM"، ومرورًا بفترة "ما بعد البوم/ Post BOOM"، ووصولًا إلى عصر "الواقعيّة السحريّة/ Réalisme Magique". ولم تخلُ حقبةٌ من التأثر بالسريالية، والتعدُّد الصوتي، والتجديد المعجمي والتركيبي، دون أن نغفل الاحتفاء بثنائيّة معالجة الواقع بطريقة غير واقعية، أو عكس القطبين بمعالجة ما هو غير واقعي بشكل يجعله واقعيًّا تمامًا.
في هذا السياق، تعتبر مجموعة (مذنب لأني رقصتُ التشاتشاتشا- Coupable d’avoir dansé le cha-cha-cha) للكاتب الكوبي "غيليرمو كابْريرا أنفونتي" Guillermo Cabrera Infante نموذجًا من الأهمية بمكان؛ ذلك أنَّها تسرد بشكل مكرور ثلاث قصص حُبّ، غير أنه تكرار تقابلي، نعم، تكرار لأنَّ القصص الثلاث تشترك في أنها تُفتتح بيوم مطير ذات ظهيرة؛ حيث ينخرط رجل وامرأة في تناول الغذاء في مطعم من مطاعم وسط المدينة، ويكون الموضوع دائمًا هو الحُبّ. وتقابلي لأنَّ كل قصة تحكي قصة حُبّ مغايرة للأخرى تكون فرصة للسفر عبر الزمن، مجازًا لا واقعًا بطبيعة الحال، في بحث محموم عن مختلف أوجه كوبا السياسية والثقافية والتاريخية.
بيْد أنَّ ثلاثيّة الكاتب الكوبي "بيدرو خوان غيتيريز" Pedro Juan Guttiérrez الموسومة بـِ(ثلاثية هافانا القذرة - Trilogie sale de la Havane) تفوق سابقتها من حيث انشغالها بأسئلة ملتهبة كالجمر؛ أسئلة ترتبط بما عرفته حقبة الستينات في كوبا من قتامة، وتخريب، وفساد، ومثالية مفرَّغة من معانيها.
ولا مِراء في أنَّ أدب دول أميركا اللاتينيّة يعرف بعض أوجه الاتِّفاق، وعلى رأسها التعبير عن المهانة التي أحسَّت بها شعوب هذه المنطقة بسبب الاستعمار الإسباني- البرتغالي، وويلات الحُكّام الطُّغاة. بالإضافة إلى الحكي عن القلق واليومي، وعن الحياة والموت، وعن العنف والفانتازيا... حتى إننا نجد عددًا من روائيي هذه المنطقة يخصصون روايات يحكون فيها مُدُنَهُم، كلٌّ بطريقته الخاصة؛ فهذا "خوان كارلوس أونيتي" Juan Carlos Onetti يسافر بنا عبر رواياته إلى أجواء الأوروغواي، وهذه "إيزابيل الليندي" Isabel Allende تضعنا وسط الشيلي في مذكراتها/ روايتها (بلدي المخترَع/ Mon Pays Réinventé)، أمّا "ماريو فارغاس يوسا" Mario Vargas Liosa فينقلنا إلى عمق العاصمة البيروفية ليما في روايته (المدينة والكلاب/ La Ville et les Chiens). وهكذا يغدو الأدب دليلًا لروح الأمم والشعوب.
وحده "بابلو نيرودا" Pablo Neruda مَن حاول من خلال نشيده الشامل (Chant Général)، وعبْر أكثر من 250 قصيدة شعرية، أن يصوغ تأريخًا جمع فيه، بلغة غنائية باذخة، كل ما تفرق بين دول المنطقة.
وباستقراء مجمل النِّتاج الأدبي لأميركا اللاتينيّة، نلاحظ الاهتمام بأربعة أنواع من الأنماط البشرية: الدكتاتور، والخلاسي، والبغي، والمنفي. أمّا الأول فتمثل في صورة المُسنّ القاسي الخبيث؛ وذلك مثلًا في رواية (السيد الرئيس/ Monsieur le Président) (1946) للغواتيمالي "ميغيل أنخيل أستورياس" Miguel Angel Asturias، وفي رواية (بيدرو بارامو/ Pedro Páramo) (1959) للمكسيكي "خوان رولفو" Juan Rulfo، والتي –ربما- كانت من بين الأعمال التي ألهمت "غابرييل غارسيا ماركيز" Gabriel Garcia Marquez في رائعته "مائة عام من العزلة". رواية مدهشة أدارت رؤوس الأجيال، ومحت الحدود، إلى غير رجعة، بين الواقعي واللاواقعي؛ وذلك في قرية "نموت فيها عندما نرغب في ذلك" على حدّ تعبير الرِّوائي. سيكتب "غارسيا" كذلك رواية (خريف البطريرك/ L’Automne du Patriarche) (1975)، التي حكى فيها عن ديكتاتور طاعن في السن، يعاني من جنون الارتياب. أما الشِّيلي "لويس سيبولفيدا" Luis Sépulveda الذي عانى من ويلات التعذيب تحت حكم نظام "بينوشيه" Pinochet، فقد كانت لديه، لا شك في هذا، أسبابه الخاصة حتى لا يضيف ديكتاتوره هو الآخر إلى اللائحة أعلاه. بيد أنه خصَّص كتابين للحديث عن الموضوع: الأول مجموعة مقالات تحت عنوان (حُمق بينوشيه/ La Folie de Pinochet) (2002)، والثاني رواية بوليسية وسمها بـِ(نهاية التاريخ/ La Fin de L’Histoire) (2017). والحقّ أنَّ من بين أهم الروايات التي تناولت هذا الموضوع رواية (حفلة التيس/ La Fête au Bouc) لـِ"ماريو فارغاس يوسا"، التي تستعيد بحس واقعي خارق للعادة حدث اغتيال الديكتاتور "رافاييل ليونيداس تروخيو" Rafael Leonidas Trujillo؛ طاغية سان دومينغو [عاصمة الدومينيكان].
وأمّا الثاني، أقصد الخلاسي، فقد وضع "كارلوس فوينتيس" Carlos Fuentes أصبعه على الجرح عندما أشار إلى أنَّ هذا الخلاسي التعس يعيش بين نارين: البؤس، والشقاء، والفساد، والفوضى... في بلده، والتقدُّم، والفعاليّة، والنزاهة والنظام... لدى البلد الجار [الولايات المتحدة الأميركية]. ويغدو الخلاسي عنصرًا أساسًا من عناصر المجتمع البرازيلي؛ ذلك أنه على مرّ القرون حدث تزاوج بين السكان الأصليين، والبرتغاليين [المحتل]، وكذا الأفارقة [العبيد]. وقد أشار "سيرجيو بويارك دوهولاندا"Sérgio Buarque de Holanda بألمعيّة في كتابه (جذور البرازيل/ Racines du Brésil) إلى انتفاء أيّ داعٍ أو مبرِّرٍ يجعل أحدهم في البرازيل يفخر أو يفاخر بأصوله؛ فالكل سواءٌ أمام هذه الحقيقة التاريخية. وتعتبر روايتا (يحيا الشعب البرازيلي/ Vive le Peuple brésilien) لـِ"جواو أوبالدو ريبيرو" Joao Ubaldo Ribeiro، و(مدينة الله/ La Cité de Dieu) لـِ"باولو لينس" Paulo Lins، أحسن تعبير عن هذه الفكرة.
وأمّا النمط الثالث، أعني البَغِي، فتحافظ في أدب أميركا اللاتينيّة على نفس وظائفها المتمثلة في مواساة الرجال والعطاء بغير حدود. وفي السياق نفسه، لم يستطع الأرجنتيني "بيدرو ميرال" Pedro Mairal في روايته (ليلة مع صابرينا لوف/ Une nuit avec Sabrina Love)، أن ينسى كرم "صابرينا" وبؤسها في الآن عينه. في حين، تطرَّق "غابرييل غارسيا ماركيز" إلى رغبات رجل تِسْعِيني وهَوَسه بفتاة عذراء، في إشارة من الرِّوائي إلى ما يعانيه العجائز، لاسيّما مع ذكرياتهم عندما كانوا في عنفوان الصبا وفورة الشباب.
يُشكِّل المنفى، أخيرًا، غمًّا وابتلاءً مشتركًا بين عدد من كتاب أميركا اللاتينيّة، ومنهم على سبيل التمثيل: "خوليو كورتازار" Julio Cortazar، أكثر الأرجنتينيّين باريسيّة، و"أليخو كاربونتيي" Alejo Carpentier الذي ظلَّت جزيرته الكوبيّة تنساب مكان الدم في عروقه إبان منفاه في باريس، و"لويس سيبولفيدا" الذي عاشت الشيلي في قلبه أثناء تيهه الإجباري بين القارات والدول فرارًا من جحيم "بينوشيه".
- - - - - - - - - - - - - - - -
• مصدر النص المترجم:
Michel Faure, «Amérique Latine L’archipel des littératures», in CONFLITS, n° 28, Juillet/ Aout, 2020, pp: 47-48.