مخلد بركات
روائي وقاص أردني
شكّل "الثَّوْر" حالة أسطوريّة سماويّة فريدة في الوجدان الشعبي القديم، كرمز للقوّة والطلاقة والصلابة، حتى خواره كان مقدّسًا وفيه من هزيم الرّعد، وصار أيقونة عُليا عند العديد من الحضارات والشعوب القديمة. وقد تمَّ استثمار مدلولات "الثور" الأسطوريّة في الأدب، فحفل الأدب العربي الحديث بالعديد من النماذج التي وظَّفت الأسطورة عمومًا، ومرموزات الثور وظلال حكايته بدءًا من التاريخ السحيق، ووظَّف العديد من الأدباء والشعراء الغربيين مدلولات "الثور" الأسطورية في روائع أدبيّة. وكان له تأثيرٌ على الفنون والخيال والموسيقى، ليغدو مصدر إلهام للعديد من المبدعين.
الأسطورة معين روحي لا ينضب، ونبض التاريخ العميق، وهي ذات أصل حكائي مقدّس، وتمثل مغامرة العقل الأولى في البحث الدَّؤوب عن أسرار الخلق والتكوين ومصير الإنسان، وأصل الكون ونشأته، وتفسير المعميات والغوامض ومنها الموت والقدر والعالم الآخر. وما زالت تتمظهر في الذاكرة البشريّة الجمعيّة في صور بدائية من الصراع بين مختلف القوى، مثلما يتصارع الليل والنهار، والموت والحياة، والأنوار والأسرار، والعالم العلوي والعالم السفلي. ويُسمى علم دراسة الأساطير بالمثولوجيا، وتُعرَّف بحسب خزعل الماجدي في كتابه "مثولوجيا الأردن القديم"، بأنَّها الدراسة العلميّة للأساطير وفحصها وفق القواعد العلميّة المتَّبعة. ويرى فراس السواح في كتابه "دين الإنسان" أنَّ الأسطورة واحدة من ثلاثة مكوّنات أساسيّة لأيّ دين، ومكوّنات الدين -بحسب رأيه- ثلاثة: المعتقد والطقس والأسطورة. وهناك فروقات معرفيّة وجوهريّة بين الأسطورة والخرافة والحكاية الشعبيّة والملحمة.
ولغةً، ورد ﻓﻲ ﻟﺴﺎن اﻟﻌرب ﻻﺒن ﻤﻨظور ﻓﻲ ﺒﺎب اﻟﺴﻴن ﻤﺎدة ﺴطر: اﻟﺴطر: اﻟﺼﻨف ﻤن اﻟﻛﺘﺎب والخط واﻟﺸﺠر وﻨﺤوﻫﺎ. ﻗﺎﻝ ﺠرﻴر:
من شاء بايعته مالي وخُلعَته ما يكمُلُ التّيم في ديوانهم سطَرا
وفي دراسة وتحليل المثولوجيا ثمّة مدارس عديدة، لها منظِّروها وتختلف بحسب المنطلقات والدوافع من حيث التفسير والتحليل، ولعلَّ من أبرزها المدرسة النفسيّة ومن منظّريها "سيجموند فرويد" حيث طرح أفكاره في كتابيه "تفسير الأحلام" و"الطوطم والتابو" ورأى تشابهًا بين الأسطورة والحلم في آليات التكوين والرمزيّات، وعالم النفس "إريك فروم" في كتابه "اللغة المنسيّة" حيث اعتبرها صراعًا بين نظامي الأمومة والأبوّة. ومن المدارس الأخرى التي فسّرتها نجد المدرسة الأنثربولوجيّة، والوظيفيّة، واللغويّة.
وقد شكّل "الثَّوْر" حالة أسطوريّة سماويّة فريدة في الوجدان الشعبي القديم، فهو رمز القوّة والطلاقة والصلابة، حتى خواره كان مقدّسًا وفيه من هزيم الرّعد، فكان أيقونة عُليا في الأذهان، يتمّ التقرُّب إليه بالصلوات والأدعية، وجاءت عبادته وتقديسه نوعًا من مغامرة العقل الأولى على حدّ تعبير الأنثربولوجي المفكر فراس السواح، وحينما نستعرض المحطات التاريخية لنشوء البشريّة، نجده يتقاطع بين أغلب الشعوب، ويشكّل واحدًا من أبرز الحيوانات السماوية المُبهرة، إلى جانب التنّين والحيّة والعنقاء وطائر الرّخ والتيس والحمامة.
ومن طقوس التعبُّد الشعائري، بحسب عفاف بوقادم: "أنَّ الثور ﻛﺎن ﻴؤﻛﻝ ﻋﻨد ﺒﻌض اﻟﻘﺒﺎﺌﻝ، ﻟﻛﻲ ﻴظﻔر ﺼﺎﺌدﻩ ﺒﺈﺤﻼﻝ ﻗوّة ﻤﻌﺒودﻩ وﺒﻌض ﺼﻔﺎﺘﻪ ﻓﻴﻪ. واﺘُّﺨذ اﻟﺜور ﺘﻌوﻴذة ﺴﺤرﻴّﺔ ﻓﻲ طﻘوس اﻻﺴﺘﺴﻘﺎء، وﻤن ﺠﻤﻠﺔ ﻫذﻩ اﻟطﻘوس؛ أﻨﻬم ﻛﺎﻨوا ﻴﺤﺸون ﺠﻠد "اﻟﺜور" ﺒﺎﻟﺒذور اﻟزراﻋﻴّﺔ، ﻓﻴﻤطرون..... ولا شكّ أنَّ ﺘﺴﺎﻗط اﻟﺒﻘرة ﻤن أﻋﻠﻰ اﻟﺠﺒﺎﻝ، ﻛﺎن ﻤن اﻟﺘﻌﺎوﻴذ اﻟﺴﺤرﻴّﺔ اﻟﺠﺎﻫﻠﻴّﺔ اﻟﻤﻬﻤّﺔ ﻓﻲ اﻻﺴﺘﺴﻘﺎء، ورﺒّﻤﺎ ﻛﺎن ﻴﻘوم ﺒﻬذﻩ اﻟطﻘوس، الشعراء واﻟﺴﺤرة واﻟمنبئون، إذْ ﻛﺎﻨوا إذا ﺘﺘﺎﺒﻌت ﻋﻠﻴﻬم الأزمات ورﻛد ﻋﻠﻴﻬم اﻟﺒﻼء، واﺸﺘدَّ اﻟﺠدب، واﺤﺘﺎﺠوا إﻟﻰ اﻻﺴﺘﻤطﺎر؛ ﺠﻤﻌوا ﻤﺎ قدروا عليه من البقر ﺜم ﻋﻘدوا ﻓﻲ أذﻨﺎﺒﻬﺎ وﺒﻴن ﻋراﻗﻴﺒﻬﺎ السلع والعشر، ثم صعدوا بها في جبل وعر، وأﺸﻌﻠوا ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻨﻴران، وضجّوا ﺒﺎﻟدُّﻋﺎء واﻟﺘﻀرُّع، وكان يرون ذلك من أسباب السُّقيا".
وأشار خزعل الماجدي في كتابه "مثولوجيا الأردن القديم" في فصل عبادة الجماجم إلى الثور قائلًا: " لقد تطوَّرت الثقافة النطوفية في النيوليت، وتخصّصت وكادت تنشطر إلى ألوان وثقافات فرعيّة، فبالإضافة إلى الاهتمام بالغزال والأيل الأسمر، ظهر الثور باعتباره قوّة روحيّة وجسديّة مخصبة".
كما أشار فراس السواح في كتابه "دين الإنسان" إلى الثور: "إنَّ رأس الثور هنا قد صار مركزًا لإجماع روحي واختيار أيدولوجي يتخطّى شكله الطبيعي، ليغدو رمزًا للقوّة السارية في الطبيعة، كما أنَّ هذا الاختيار الأيدولوجي لم يكن مدفوعًا بضغط من الوسط الطبيعي، قدر ما كان مدفوعًا بضغط فكري من نوع خاص".
أمّا في كتابه "مغامرة العقل الأولى" فقد أشار السواح إلى الثور بصفته قربانًا وهو من أكثر القرابين المقدَّسة تداولًا، فتشير التراتيل والمراثي إلى أنَّ (عناة) بحثت عن جثة (إيل) بعد أن قتله (موت) رمز الشر والفناء:
"فرفعته على كتفها
وصعدت به أعالي جبل صفون،
وهناك بكت عليه ودفنته
واضعة إيّاه في مقبرة إلهة الأرض،
ثم ذبحت سبعين رأسًا من الجاموس تقدمة لبعل العلي
وضحّت بسبعين رأسًا من الثيران تقدمة لبعل العلي".
وفي مكان آخر يشير إلى الإله الكنعاني "بعل" إله الخصوبة والمطر، حينما يهبط العالم السفلي عالم الموتى والفناء، ويتزاوج هناك مع عجلة، وترمز هنا إلى الإلهة "عناة"، ويتم التزاوج سبعًا وسبعين مرة متوالية، فتحمل منه هذه العجلة، وتتمثّل هنا بوضعه بذورًا للحياة واستمرارها في رحم "عناة".
ويعود الإلهان للصراع (بعل وموت) في مشهد سوريالي وجهًا لوجه:
"تشابكا كأنّهما جاموسان
قوي موت قوي بعل
تصارعا كأنهما ثوران
قوي موت، وقوي بعل".
وفي الأساطير الإسكندنافيّة، نجد الثور من آلهة الأسر ويحمل مطرقة ليمثِّل إله للرعد والبرق والعواصف وأشجار البلوط وحماية البشرية والخصوبة. كما عُرف في الأساطير والوثنيات الجرمانيّة الأوسع بأسماء مشابهة مثل ثونر Þunor، وفي الإنجليزية القديمة وهي مشتقة عن الكلمة الجرمانية المشتركة ثونراز Þunraz وتعني "الرعد". وهو إله برز في جميع أنحاء التاريخ المسجّل للشعوب الجرمانيّة، كذلك ورد في أغلب الديانات الهندو أوروبية القديمة. ويوم الخميس في الإنجليزية Thursday يعني "يوم ثور"، فالمقطع الأوّل من المفردة "ثير" متحوّرة من "ثور".
و(الماينوتور Minotaur) من أبرز تجلّيات الإله ثور، وهو وحش دموي مخيف له رأس ثور وجسد إنسان، وكلمة "ماينوتور" مشتقة من كلمة ماينو-توروس Mino- Taurus الإغريقية، وهي مكونة من مقطين الأول ماينو Mino والتي تشير إلى الملك "ماينوس" أو الحضارة الماينويّة، والآخر توروس Taurus والتي تعني الثور، أي أنَّ معناها هو "ثور ماينوس".
أمَّا ولادة الماينوتور فهي قصة ذات تفاصيل ساحرة وغرائبيّة، فبعد اعتلاء "ماينوس" للعرش في جزيرة كريت كان يناضل مع أخوته كي يفرض سلطته في البلاد، فصلّى لـ"بوسيدون" (إله الأعماق والبحار عند الإغريق) فنذر له أضحية تتمثل بثور أبيض كبياض الثلج حالما يوافق على تحقيق رغبته. وعندما تحقق لـ"ماينوس" ما تمنّاه كان عليه أن يضحي بالثور الأبيض على شرف "بوسيدون"، لكنه قرَّر الاحتفاظ به إذْ راقه جماله.
وهنا أوقعت "أفروديت" إلهةُ الحُبّ "باسيفاني" زوجةَ "ماينوس" في حبِّ ثور من البحر، وهو الثور الكريتي الأنيق، وبسبب هذا العشق الجنوني طلبت "باسيفاني" من مهندسها البارع "ديدالوس" أنْ يصنعَ لها نموذجًا لبقرة من الخشب مجوّفة من الداخل، ومثقوبة من الخلف عند مكان الرّغبة، فدخلت عارية إلى البقرة الخشبيّة المجوّفة، واستطاع الثور الأبيض أن يتزاوج معها، كما لو أنه يتزاوج مع بقرة حقيقيّة، وكانت الثَّمرة هي الطفل الوحش الأسطوري الـ"ماينوتور" الذي عاش مع أمه ردحًا من الزمن، ثم حكم عليه "ماينوس" أنْ يدخلَ المتاهة، وهناك يفترس البشر ويأكل لحومهم في عقاب أبديّ. وتعني labyrinth المتاهة أو التيه في اللغة الإغريقية، وهي ممرّات ومنحنيات متشابكة وشعاب معقدة للغاية.
ومن تجلّيات الإله "ثور" في السماء وجود برج الثور، أوَّل البروج التي عرفها الإنسان، وأشهرها، ويوجد فيه السديم السرطاني، ويبعد عنّا 68 سنة ضوئيّة. والدبران والثريا نجمان هائلان يقعان قريبًا من دائرة البرج، وفي مكان رقبة الثور، حيث توجد مجموعة نجوم القلائص والثريا، مجموعة عنقودية من النجوم، متجاورتان وتسافران معًا في الفضاء.
وبحسب التقويمات القديمة في وادي النيل وبلاد الرافدين فإنَّ الشمس في الاعتدال الربيعي تدخل في برج الثور.
وكان الفراعنة منذ الأسرة الأولى، يجسِّدون إله الخصوبة والفحولة والتكاثر "منفيس" في صورة إنسان برأس ثور. كما نجد عجل "أبيس" الذي كان يُعبد في مصر، وهو عجل له علامات معيّنة، ويتواجد دومًا في المعبد، وذلك لأنَّ روح الإله "أوزوريس" المصري تحلُّ في هذا العجل، ويقدَّم العجل كقربان مقدَّس بداية الربيع؛ عيد الربيع الذي يُسمّى الآن في مصر "شمّ النَّسيم".
أمّا "زيوس" كبير آلهة اليونان، فقد وقع في غرام "أوروبا" الفينيقيّة الجميلة، ابنة ملك تيري (Tyre)، ومن أجل إيقاعها في الحب تخفّى "زيوس" في هيئة ثور أبيض اللون جميل الشكل وبقرون ذهبيّة؛ وطفقت "أوروبا" تطعمه الأزهار البريّة، وتركبه ويهرب بها فوق البحر، وتنمو قصة حب خالدة بينهما تنتهي بالزَّواج.
ويرمز الثور إلى الخصوبة والتكاثر والحياة في الحضارات السامية القديمة؛ فعند الكنعانيين الفينيقيين يُسمّى "بعل" أي الإله الثور، وعند الأنباط ورد باسم "ود" أو "شهرن"، وهو إله القمر، وعند المعينيين إله البخور. وتشير المصادر إلى أنَّ الساميين الفينيقيين أخذوا بصفة خاصة عبادة الإله الثور من حضارة وادي النيل تحديدًا.
وفي أغلب الكتب السماويّة وردت إشارات إلى هذا المعتقد؛ الثور المقدَّس، والبقرة المقدَّسة، كما نلحظ في قصة البقرة المقدَّسة لدى اليهود التي أُمر النبي موسى بذبحها كي تدلّ على القاتل، وهي ذات مواصفات غريبة، كما نجد عجل السامري المقدَّس البرونزي الذي كان يصدر خوارًا خافتًا، حينما أوقعهم السامري في عبادته بينما كان موسى يتلقى الألواح السماويّة عند جبل الطور في سيناء.
وفي التوراة- سفر العدد، أُمر بنو إسرائيل بإيجاد عجل أحمر يُقدَّم إلى الكهنة كذبيحة، ومن سماته أن يكون بلا بقع، سالمًا لا عيب فيه ولم ينزل عليه نير، كي يُحرق بعد ذبحه خارج المعسكر، باستخدام خشب الأرز والزوفا والصوف، أو الغزل القرمزي المصبوغ، ويوضع الرَّماد المتبقّي في إناء يحتوي على ماء نقي، ويُستخدم رماده في طقوس تنقية (توم هاميت (نجاسة الميت.
وظهرت البقرة الحمراء في العديد من الأساطير، بما في ذلك المتعلقة بحكاية القيثارة، التي صنعها "هيرميس" للإله "أبولو" كي يرضى عنه بعدما سرق عجوله الحمراء، وأخفاها.
كما نجد الثور المقدَّس لدى البابليين والسومريين، فقد ورد في ملحمة جلجامش، وفي الألواح الطينية، وفي المسلّات على هيئة ثور مجنَّح يطير في السماء، بوجه بشري وجسد ثور وأجنحة طائر، ويشير إلى الجنّي (لاماسو)، وقد وُجد على مدخل قصر سرجون الأشوري في خرساباد، كما وُجد له تمثال آخر في منطقة لجش من فترة حكم كوديا بوجه بشري ذي لحية وجسد عجل، ولعلّه هنا -كما أشار الماجدي- يمثل رموزًا لكائنات مسخيّة هجينة من قوى الظلام والخراب والاستبداد.
كما وُجد هذا الحيوان الإله في الحضارة الهندية القديمة وفي المعتقدات الصينية، وما تزال عبادة البقر في الهند إلى الآن. ولا نستغرب هنا وجود تمثال ثور برونزي في شارع "وول ستريت" في نيويورك/ أميركا، كما يُلاحظ أنَّ لفظة "السينوتر" الأميركية تتكون من مقطعين "سين" بمعنى إله القمر و"تور"، أي (الثور القمر). وإلى الآن تُقام مباراة صراع الثيران في الألعاب الأولمبية كرمز للصراع بين القوى الغيبيّة.
ولقد تمَّ استثمار لغز الثور ومدلولاته الأسطوريّة في الأدب العربي، في مختلف تحوُّلاته التاريخيّة، وهنا تشير عفاف بوقادم إلى التوظيف الأسطوري بشكل عام: "وﻋﻠﻴﻪ ﻓﻘد ﺒدت ﺴﻤﺎء اﻷدب ﻤﻛﺘظﺔ ﺒﺎﻟﻀﺒﺎﺒﻴﺔ واﻟﻌﺘﻤﺔ واﻹدﻫﺎش، ﻓﺎﻷﺴطورة طﺎﻓﺤﺔ ﺒطﺎﻗﺎت اﻟﺤدس، ﻤﻠﻴﺌﺔ ﺒﺎﻟﻐﻤوض ﺤﺘﻰ إﻨَّﻬﺎ ﺘﻛﺎد ﺘﺴﺘر ﻤواطن اﻟرﻫﺎﻓﺔ واﻟﺠﻤﺎﻝ ﺒﻬﺎ، وﻟﻌﻝ دروﺒﻬﺎ اﻟﻤﻠﺘوﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ وارﺘﻬﺎ ﻋن اﻷﻨظﺎر، ﺨﺎﺼﺔ ﺤﻴﻨﻤﺎ ﻨﺤﺎوﻝ اﻟﻛﺘﺎﺒﺔ ﻋن ﻤﺎﻫﻴﺔ اﻷﺴطورة وﺘﻌرﻴﻔﻬﺎ ﺒوﺠﻪ ﻋﺎم".
وأضافت: "ﻓﻛﺎن ﻫذا التراث اﻷﺴطوري ﻴﻤﺠِّد ﻋظﻤﺔ اﻹﻨﺴﺎن اﻟﻌرﺒﻲ وﻴﺨﻠِّد ﺒطوﻻﺘﻪ وﻴﻨﺴﺞ ﻋﻨﻪ ﻋﺠﺎﺌب اﻷﺨﺒﺎر وغرائب اﻷﺤداث، ﻓﻘد ﻋﺒدوا اﻟﻛواﻛب ﻛﻤﺎ ﻋﺒدوا اﻟﺤﻴوان ﻻﻋﺘﻘﺎدﻫم أﻨﻬم ﻤن ﺴﻼﻟﺔ ذاك اﻟﺤﻴوان، ﻓﻨﺠد ﺒﻌض اﻟﻘﺒﺎﺌﻝ ﻤﺴﻤﺎة ﻋﻠﻰ اﺴم ﺘﻠك اﻟﺤﻴواﻨﺎت ﻤﺜﻝ: ﻗﺒﻴﻠﺔ ﻀب، ﻛﻠب، وأﺴد...إﻟﺦ".
ويقول هنا "دتيلف نيلسن" في كتابه "التاريخ العربي القديم": "إنَّ الکثير من شعراء الجاهليّة وصفوا الثور الوحشي وصوّروه في أشعارهم التي انعکست في قوافي الشعر الجاهلي، ومردّها التراث الديني الجاهلي الذي انطمست معالمه واندثرت طقوسه ولم يبقَ منها سوی إشارات وإيحاءات ضئيلة توحي بالمعتقدات القديمة؛ لأنَّ الثور الوحشي في المعتقدات القديمة کان يُمثل إلهًا يرمز إلی القوّة والخصب، وهو إله العواصف، عبده السومريون وسموّه "أنليل" وعبدوا البقرة إلهة معه، ومِن اتحادهما في زواج مقدَّس فاضت دجلة والفرات بالخصب علی أرض سومر. واتخذ العرب الثور رمزًا لآلهتهم القمر، فعُدَّ من الحيوانات التي ترمز إلى الآله، والغالبية العُظمی من العرب الجاهليين رَبَطَ بين صورة المطر والماء وصورة الثور، ومَثلَّوهُ رمزًا للقوة والصلابة، القادرة علی التحكم بالبرق والرعد والمطر والسحب". وقال سحيم عبد بني الحساس:
ينحی ترابًا عن مبيت ومکنس رکاسًا کبيت الصَّيدَ نائي دانيا
وقد وُظِّف الثور الوحشي في الأدب الجاهلي لدى العديد من الشعراء كرمز للقوة والصلابة، كونه يحمل ظلالًا من القدسيّة والتعبُّد، ﻓﻘد ﺸﺒّﻪ ﻟﺒﻴد ﺒن رﺒﻴﻌﺔ اﻟﺜور ﺒﻘﺎﻀﻲ ﻨذور؛ ﻴﻘوﻝ:
فبات كأنه يقضي نذورا يلوذ بغرقد خضل وضال
أمّا في ميميّة الأعشى الشهيرة، فقد لعب الثور الوحشي دور البطولة، وتسلّل إلى أغلب أبياتها، كائنًا شعريًّا محمّلًا بالرموز والدلالات، فيقول في أحد الأبيات واصفًا الثور، كحيوان مقدَّس:
وأدبر كالشعرى وضوحا ونُقبة يواعن من حرِّ الصريمة معظما
وﻴردُ الثور في القصيدة الجاهليّة ﻤﺘﻔرّدًا ﻤﺘوﺤّدًا ﻴﺤﻔر ﻛﻨﺎﺴًﺎ ﺒﻤﺜﺎﺒﺔ اﻟﺼوﻤﻌﺔ، وﻴﻐﻤرﻩ اﻟﻤطر ﻏﻤرًا وﻛﺄﻨﻪ ﻴﻐﺴﻠﻪ وﻴطﻬّرﻩ، فهو كالقديس الذي اعتزل القطيع وملذّاته وإناثه واختار التبتُّل.
ويحفل الأدب العربي الحديث بالعديد من النماذج التي وظَّفت الأسطورة عمومًا، ومرموزات الثور وظلال حكايته بدءًا من التاريخ السحيق، ولعلَّ الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي من أكثر الشعراء المحدثين الذين استخدموا الأسطورة والقناع والمونولوج، ويقول هنا د.خالد عمر: "يرى بعض ﺍﻟﻨﻘﺎﺩ ﺃﻥﱠ غنى عالم البياتي الأسطوري والمعرفي غير متناه، ويصعب أن نرى له مثيلًا، مثل المعري في عصره، فهو يضرب في جذور حضارات عريقة ومتعدّدة".
وقد أبدع البياتي في توظيف الثور ومدلولاته الأسطورية، ففي قصيدته "هبوط أورفيوس إلى العالم السفلي" التي برزت فيها أسطورة الموت والانبعاث، يقول:
"عبثًا تصرخ آه ما أوحش ليلاتي على أسوار آشور، مع الموت وأوراق الخريف، وأنا أصعد من عالمها السفلي نحو النور والفجر البعيد، ميتًا أُبعث في درع الحديد، أيها الثور الخرافي الذي فوق دخان المدن الكبرى يطير....".
ويضيف:
"المنجمون احتشدوا في مدن الطفولة، الحلاج كان بقميص الدم مصلوبًا، وكان قائد الزنج على الفرات... حيث الجوع والإنجيل المنشور، كانوا يقتلون باسم عجل الذهب الطغاة في كل العصور، حامل القربان ألقى وردة في النهر، قال: اشتعلي أيتها الأنهار في القارة باسم الفقراء...".
وفي الشعر النبطي والشعبي نقرأ للشاعر محمد القاضي:
"أو ما تسلسل عقب آدم وهابيل
إلى حين ما ينفخ إسرافيل بالفاه
أو شال قرن الثور خلق وما قيل
عقب الفرايض دايم الحمد لله".
وقد وظّف العديد من الأدباء والشعراء الغربيين الثور "الماينوتور" في روائع أدبيّة وشكّل لهم كائنًا فيه امتزاج للبهيمية والقوة والنبل، ومن هذه الأعمال الخالدة "جحيم دانتي".
وكان له تأثير على الفنون والخيال والموسيقى، ليغدو مصدر إلهام للعديد من المبدعين، وأُنتجت عدة أفلام تتحدَّث عنه، فنجد ملامح هذه الأسطورة في فيلم (Avenger Endgame) "المنتقمون: نهاية اللعبة"، وفي ثلاثية تولكين سيد الخواتم، وأصدرت "مارفل كومكس" سلسلة قصص مصوَّرة لبطل خارق يدعى "ثور".
وفي مجال الموسيقى كُتبت العديد من أغاني الـ"ميتال" التي تتحدث عن أسطورة الثور، كما في بعض أغاني فرقة "مانووار". وفي مجال الألعاب، استوحت العديد من ألعاب الفيديو عوالمها من هذه الميثولوجيا، مثل لعبة (وورلد أوف ووركرافت)، ولعبة (إله الحرب4).
• المصادر والمراجع:
- خزعل الماجدي، "مثولوجيا الأردن القديم"، وزارة الثقافة، ط2، 2020.
- فراس السواح، "دين الإنسان" بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، منشورات دار علاء الدين، ط1، دمشق، 1994.
- فراس السواح، "مغامرة العقل الأولى"، سومر للدراسات والنشر، قبرص، نيقوسيا، ط6، 1986.
- عفاف بو قادم، أسطورة الثور الوحشي، ميميّة الأعشى، دراسة فنيّة جماليّة، رسالة ماجستير، جامعة العربي بن مهيدي، الجزائر.
- جيمس فريزر، "أدونيس أو تموز: دراسة في الأساطير والأديان الشرقية القديمة"، ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1979.
- دتيلف نيلسون، فرتز هومل، التاريخ العربي القديم، مكتبة النهضة المصرية، 1958.
- د. خالد عمر يسير، الأسطورة ووظائفها في ديوان عبدالوهاب البياتي، مجلة دراسات في اللغة العربية وآدابها، العدد 16، 2014.
- محمود شكيب أنصاري، وعاطي عبيات، ملامح أسطورية في الشعر الجاهلي، مجلة آفاق الحضارة الإسلامية، العدد 25.
-Carmichael, Calum (2012). The Book of Numbers: a Critique of Genesis.