د. عصام الموسى
قاص وروائي وباحث أردني- بروفيسور في الإعلام والاتصال الجماهيري
صدرت صحيفة "الشرق العربي" بين عامي 1923 و1926 بإشراف محمد الشريقي، قبل أن يغلقها المعتمد البريطاني بعد أن تيقّن من خطورة الفكر الذي كانت تسعى إلى نشره بين أوساط الأردنيين المثقفين خاصة، والعرب عامة، فكانت تدعو للوحدة العربية، واستنهاض همّة الأمة العربية، وبناء اقتصاد قويّ، ورفع لواء الحريّة والمدنيّة. وتوفِّر لنا هذه الصحيفة فرصة نادرة للاطِّلاع على فكر الآباء الأوائل، ورؤيتهم للأسس التي يجب أن تقوم عليها النَّهضة العربيّة الحديثة.
• تمهيد
"الشرق العربي" هي أولى الصحف المطبوعة التي ظهرت في شرق الأردن، وصدر عددها الأول في 28 أيار 1923م، أي بعد ثلاثة أيام من إعلان استقلال الإمارة في ظلّ الانتداب البريطاني.
كانت صحيفة شبه رسميّة، صدرت أسبوعيّة وأحيانًا نصف شهريّة، ولم تقتصر على نشر الأنباء والبلاغات والقوانين الرسميّة، بل نشرت أيضًا المقالات السياسية والأدبية والعلمية والقصائد في السنوات الثلاث الأولى من عمرها. وقد أشرف على تحريرها الأديب الشاعر محمد الشريقي بصفته مديرًا للمطبوعات. والشريقي أحد رجالات سوريا الذين انضمّوا إلى الحركة العربية، وقدموا إلى الأردن بعد سقوط حكومة فيصل في دمشق(1).
في الخامس والعشرين من أيار عام 1923م، أعلنت بريطانيا رسميًّا استقلال الإمارة الأردنية، وحفلَ عدد "الشرق العربي" الأوَّل، الذي صدر بعد ثلاثة أيام، بوصف مسهب للاحتفال بذلك الحدث التاريخي.
• فكرالآباء الأوائل
تحفل "الشرق العربي" بكتابات الشريقي خلال الأعوام الثلاثة من مسيرة الصحيفة، وفيها يتجلّى نَفَسُه القومي العروبي، وتطلُّعاته الطَّموحة للارتقاء بأمَّته، وتحقيق أمانيها في الوحدة والنهوض والحرية والاستقلال، كما تظهر من خلالها ثقافته الواسعة في المجالات المختلفة.
كان الشريقي في افتتاحيّاته يتناول موضوعًا محدَّدًا يسعى من خلاله إلى نشر الفكر القومي، وتثقيف القرّاء بالمفاهيم المعاصرة. وتقدِّم مقالاته صورة حيّة لأحداث الإمارة الناشئة، كما تقدِّم صورًا مليئة بالتفاؤل والأمل، فتراه يستثير الثراث، حين يتحدَّث في العدد الأوَّل في (شاردة) عن بريطانيا العظمى التي لا تغرب الشمس عن أملاكها، ويستذكر عظمة العرب إبان عهد هارون الرشيد، حين كان يقول للسحابة: "اذهبي حيث شئتِ فسيجيء إليّ خراجك"، ويعقِّب الشريقي على ذلك متسائلًا: "أترى الماضي يعود؟".
• روح قوميّة
حفلت افتتاحياته بروح قومية صافية تدعو لاستنهاض همّة الأمة العربية التي "تحتاج اليوم إلى تجديد أوضاعها القومية وإصلاح شؤونها الاجتماعية وتكوين روح قومي عام تتطلع إليه كمطمح سام في أمآلها وأعمالها"، ذلك أنَّ الواقع الحالي "لا نجد فيه إلا مثالًا مشوّهًا أخرجته المحن والكوارث التي توالت على العالم العربي الإسلامي". ويستنهض الهمم قائلًا: "ولنصلح هذه الحياة العربية، ولنجدِّد أوضاع سلفنا الصالح باتّباع روح العصر مطرحين رداء الجمود مستغنين عن القشور باللّباب متمسكين بتقاليدنا القومية النافعة" (2).
• اقتصاد قويّ
كان من رأي الشريقي أنَّ النهضة العربية الحديثة لا يمكن أن تتحقق دون بناء اقتصاد قويّ، فكتب في العدد الرابع (18/6/1923م) رؤياه النظريّة للمشروع العربي القومي: "ها نحن أولاء نشعر الآن بحاجتنا القصوى إلى بناء أخلاقي علمي اقتصادي يجب أن يكون متجانسًا متفقًا مع روح العصر ملائمًا لحاجتنا القوميّة. وأمّا أسمى مزايا النهوض الاقتصادي التي يجدر بنا اتّباع دعوتها فهي وضع أساس متين للاستقلال الاقتصادي المالي" لأنه "ركن الاستقلال السياسي المبتغى". وضمن هذه الرُّؤية يؤكد على وحدة البلاد العربية "فهي بلاد واحدة تجمعها الصلات القومية والتاريخية والروابط الجغرافية والاقتصادية والمصالح المشتركة، وليس بحلم أن تقوم دولة عربية شرقيّة في هذه الأقاليم الطيبة على طريقة الولايات المتحدة الأميركية أو حكومات الاتحاد الألماني".
ويرسم امتداد الوطن وحدوده لهذه "الأمة العربية الشرقية المتعطشة إلى الحرية ورفع لواء السلام والمدنيّة، المنتشرة من شواطئ البحر الأبيض حتى خليج العجم ومن جبال طوروس وبلاد الكرد حتى البحر الأحمر والمحيط الهندي وبحر العرب"(3). كان الوطن العربي عنده هو الجزء الآسيوي فقط، وكان ذلك بمقتضى رؤية الرَّعيل الأوَّل من قادة العرب الذين أفصحوا عن مخططهم هذا في مراسلات الحسين إلى "مكماهون" لإنشاء وطن واحد في هذه الديار فقط، ذلك أنَّ أفريقيا العربيّة كانت خارج حساباتهم.
• الالتفاف وراء القيادة التاريخيّة
ويحثُّ الشريقي العرب على الالتفاف وراء قيادتهم التاريخية: "فلننهض إذن معشر العرب بزعامة أبناء محمد صلى الله عليه وسلم رؤساء نهضتنا الجديدة، ولنصلح هذه الحياة العربية ولنجدِّد أوضاع سلفنا الصالح باتباع روح العصر مطرحين رداء الجمود، مستغنين عن القشور باللّباب متمسكين بتقاليدها القومية النافعة سواء في البيت أم المعبد أم المدرسة أم المجتمع، ذلك لأنَّ الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم"(4).
• عناوين فلسفة النهضة الحديثة
وفي مقالاته، التي زاد بعضها على صفحتين، كتب عن كل ما له صلة بإصلاح الحال والمناحي الحديثة، ساعيًا لتثقيف القرّاء في فلسفة النهضة العربية الحديثة كما رآها، وتنصبّ في المناحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية. وتُبرز عناوين مقالاته هذه الجوانب التي تناول فيها: حياتنا الاقتصادية، صلاح القلوب، البيت الهاشمي، الوطن العربي، التربية العربية، الموازنة السياسية، التعاون الاجتماعي، التقدم المادي، الوطنية الراسخة، الجندي المجهول، الغرف التجارية، النهضة العربية، الدعوة القومية، مقدّسات شرق الأردن، إلخ.
• تنظيم النَّسل
كما تناول قضايا معاصرة ظلَّ الصحفيون حتى وقت قريب يغفلون عنها، مثل مسألة تنظيم النسل، إذ ترجم مقتطفات من كتاب للفيلسوف التركي رضا توفيق نشرها مسلسلة في صحيفته، تحدَّث فيها عن الانفجار السكاني، ومخاطر التكاثر "الكمّي"، هذا التكاثر الذي "لا يكفل الأسباب التي تمكّن في البقاء أو يُقتدر بها على الاستقلال ورسوخ الأوضاع المدنيّة"(5). وهنا يظهر نمط التفكير المستقبلي والرؤية البعيدة المدى، التي كان الشريقي يتحلى بها.
• كُتّاب "الشرق العربي"
وكان من كُتّاب "الشرق العربي" البارزين الدكتور حنا قسوس والدكتور سمعان سليم الخوري وشكري شعشاعة وناجي أديب ومحمود الكرمي (الذي أصدر "الشريعة" بعد ذلك ببضع سنوات). وهؤلاء يمكن دراسة فكرهم والتعرُّف اليه كطليعة الأباء الأوائل لفكر النهضة الأردنية العربية.
ولم تخلُ الصحيفة من الجانب الأدبي، فنشرت اعتبارًا من العدد التاسع والخمسين قصة مسلسلة بعنوان (أسلوب الرجل الأبيض) "من تأليف جاك لندن بقلم الشاعر السيد علي منصور"(6).
وكصحيفة شبه رسميّة، عملت "الشرق العربي" على الرد على الافتراءات والهجمات الدعائية التي تعرّض لها الأردن في تلك الفترة المبكرة. فنشرت الصحيفة ردّ رئيس الديوان الأميري، الذي دحض فيه ما نشرته صحيفتا "ألف باء" و"صوت الشعب" السوريتان، حول إرسال أهالي عجلون برقيّة للأمير يقولون فيها إنَّ "الحالة قد ساءت في هذه المنطقة ماليًا وإداريًا واقتصاديًا"، نافيًا أن تكون تلك البرقية قد وصلت للأمير. كما تصدّت "الشرق العربي" لحملتين إعلاميتين شنتهما الصحف المصرية، الأولى حول تمرُّد عشائر العدوان، والثانية حول المحمل المصري(7).
• القلم الحُرّ
واعتبارًا من 1/7/1925م أخذت الصحيفة تصدر في 16 صفحة بعد أن كانت تصدر في أربع صفحات (إلا في المناسبات). وكان هذا التاريخ إيذانًا بدخول الصحيفة عامها الثالث. فكتب الشريقي افتتاحية بعنوان (سنتنا الثالثة) أوجز فيها رؤيته للعمل الصحفي: "وبعد، فإنَّ الصحف لا تكون منارًا لأمة فتيّة ولا لسانًا لحكومة شرعيّة إلا إذا قادها القلم الحُرّ فجاءت مضامينها دليلًا على المصالح الشعبيّة وعظم المسؤوليّة وتكامل الراعي والرعيّة"(8).
وكان آخر مقال كتبه الشريقي قد نشر في العدد 123 بتاريخ 15/2/1926م بعنوان (معرفة الأمة نفسها)، ذلك أنَّ الصحيفة أخذت اعتبارًا من العدد (125) تقتصر على نشر البيانات الرسمية وبدأت تنشر فهرسًا في أوّلها.
• مضامين الصحيفة
ولا بدّ من الاعتراف بأنَّ هذه الصحيفة تمثل امتدادًا للصحافة العربية المسؤولة ذات الرسالة القومية والثقافية. وقد اشتملت مضامينها على المجالات التالية(9):
الأخبار: وشغلت نصف مساحة الصحيفة (50.6%)، بينما شغلت الفئات التالية النصف الآخر، وهي: التحليلات (18.1%)، والأدب (14.5%)، والإعلان (13.2%)، والخدمات (3.6%)، وهذا يكشف عن توازن معقول لصحيفة شبه رسميّة.
• موقف المعتمد البريطاني
ويبدو أنَّ المعتمد البريطاني "هنري كوكس" لم يرُق له الخط القومي الذي سلكته هذه الصحيفة بإدارة الشريقي، فرغب إلى الحكومة أن تقتصر الجريدة على نشر القوانين والبلاغات الرسمية(10)، اعتبارًا من العدد رقم (124) تاريخ 1/3/1926م، والتوقف عن نشر المقالات الوطنية والقومية. وفي تشرين الأول عام 1926م صدر قانون الجريدة الرسمية لعام 1926م، ونصت المادة الثانية منه على تأسيس "جريدة رسمية في منطقة شرق الأردن باسم جريدة الشرق العربي تنشر فيها جميع القوانين والأنظمة التي يأمر رئيس النظار بنشرها"(11). وباعت الحكومة المطبعة التي كانت تطبع عليها "الشرق العربي" بعد ذلك بعام، وأصدر رئيس الوزراء في 15/6/1928م أمرًا بحذف اسم الشرق العربي من عنوان الجريدة، فصارت تُعرف باسم "الجريدة الرسمية لحكومة شرق الأردن"، ثم تغيَّر العنوان عند الاستقلال التام عام 1946م إلى "الجريدة الرسمية للمملكة الأردنية الهاشمية"، وهي ما تزال تصدر عن وزارة المالية حتى الآن، وتنشر القوانين والبلاغات الرسمية.
• تأثير الصحيفة
وممّا لا شك فيه أنَّ تأثير هذه الصحيفة الأولى كان قويًّا في نفوس قرّائها، فالمقالات التي سطّرها الشريقي ببراعة لا تزال تحفِّز نفس مَن يطالعها، رغم مرور مئة عام على كتابتها. فلا عجب إذن أن يعمد المعتمد البريطاني إلى كتم أنفاسها، لأنه كان قد عقد العزم -وحكومته من ورائه- على الحد من استقلال الأردن. لقد استطاع "هنري كوكس" تحويل سلطة الانتداب البريطاني "إلى دكتاتورية مطلقة ضجّ منها الأمير والوطنيون والمسؤولون في الحكومة، ولم تستطع البلاد أن تتخلص من قبضتها القاسية إلا بعد عشرين عامًا أو تزيد"(12).
• فكر الأمير عبدالله
ويلاحظ معن أبو نوّار أنَّ مَن يقرأ مذكرات الملك عبدالله الأوَّل ابن الحسين وخطبه العديدة "يجد فكره وروحه وأسلوبه الأدبي العربي في كل مقال من تلك المقالات التي عبّرت تعبيرًا صادقًا عن فكره القومي الأصيل النابع من عقيدته الإسلامية، إلا أنها نُشرت باسم الشريقي"(13). من هنا، يمكن القول إنَّ "الشرق العربي" كانت صحيفة تحمل رسالة قوميّة ثقافيّة رفيعة، استطاع الشريقي أن يعكس على صفحاتها فكر قادة الثورة العربية، ويترجمه ترجمة أمينة مخلصة.
• خاتمة
في السنوات التي أعقبت توقُّف "الشرق العربي"، وتحوُّلها إلى "جريدة رسمية"، نلاحظ أنَّ الشريقي توقف عن ممارسة العمل الصحافي، وأخذ يتبوّأ مناصب رفيعة في الإدارة المدنيّة.
غير أنَّ البذرة التي زرعتها "الشرق العربي"، والخط الذي سلكته، قد أينعا أُكلًا ناضجًا بعد ذلك بأشهر قليلة، إذْ توالى إصدار الصُّحف اعتبارًا من منتصف عام 1927م في عمّان على يد القطاع الخاص. وكان ذلك إيذانًا بظهور الصحافة الأهليّة.
• الهوامش:
(1) سليمان الموسى، وجوه وملامح، ج1، 1980م، ص69.
(2) الشرق العربي، 4/6/1923م.
(3) الشرق العربي ، 28/5/1923م.
(4) الشرق العربي، 4/6/1923م.
(5) الشرق العربي، 4/6/1923م.
(6) الشرق العربي،12 /1/1925م.
(7) الشرق العربي، 4/6/1923م.
(8) الشرق العربي، 23/7/1923. انظر العدد 9.
(9) الشرق العربي، 1/7/1925م.
(10) مارينا الربضي، دراسة تحليلية غير منشورة للشرق العربي، (4/6/1923م- 25/8/1924م).
(11) الماضي وموسى، 1959م: 266.
(12) الماضي وموسى، 1959م: 267
(13) أبو نوار، معن، الرأي، 30/10/1985م.