الخروج إلى نهار النص قراءة في مجموعة "الصُّعود في النَّهار" للكاتب شطبي يوسف

سفيان صلاح هلال

كاتب مصري

 

 

في المجموعة القصصيّة "الصُّعود في النَّهار" يختلط الواقعي بالأسطوري، والشعري بالنثري، ‏والفكري بالوجداني، وهموم الحياة بالمخاوف من الموت. ومن جانب آخر، فقد تجاوزت أكثر نصوص ‏هذه المجموعة القصصيّة التَّعريف الجامد والقالب المحفوظ لشكل القصة القصيرة والتي ترتبط بصيد ‏اللَّحظة، فقد تعدَّى بعضها التعبير عن اللحظة، ووصلت للتعبير عن حقبة في عدد قليل من الصفحات. ‏وفي محاولة من كاتب هذا المقال للبرهنة على أنَّ هذه المجموعة عملت على خلخلة الإبداع لمفهومَي ‏الشَّكل والتَّعريف؛ يجد أنَّ نصوصها لم تتعدَّ القولبة في الشكل والتعريف فحسب، لكنها تعدَّت القالب ‏في مضمون اللغة، وهو يرى أنَّ الإبداع أصيل التجربة لا تحدّه القوالب، ونقبلُه ونحتفي به أيضًا. ‏

 

منذ أن كتب أرسطو كتابه "فن الشعر" قبل الميلاد بحوالي أربعة قرون، والمفهوم عن الأجناس الأدبية ‏ظلَّ مستقرًا. وحين نتعرَّض للجنس الأدبي عند العرب ربّما نجد الجرجاني أشدّ دقة، حيث يعطي النوع ‏أهميّة في نظريّته النقدية، والنوع عنده أخص من الجنس. وظلَّ كلٌّ من المبدع والمتلقي رهن هذه ‏النظرة المستقرّة حتى ظهور الرومانسية كحركة محطِّمة للقيود الكلاسيكية؛ وهنا دوت صرخة ‏‏"سبيستيان": "تساقطي أيتها الجدران الوهميّة بين الأجناس...". والحق أنَّ نظريات الأجناس، أو ‏نظريات تحطيمها لاقت من النقد ومن مبررات الوجود ما لا يحصى من الدراسات، وأسباب الرفض ‏والقبول. ولو وضع المبدع في رأسه غير مقولة "رولان بارت" (بمجرَّد أن نخوض في الكتابة فإنَّنا ‏سرعان ما نكون خارج الأدب بالمعنى البرجوازي للكلمة، هذا ما أدعوه نصًّا، وأعنيه ممارسة تهدف ‏إلى خلخلة الأجناس الأدبية... لأنَّ الكتابة خلخلة والخلخلة لا تتعدّى ذاتها)، ربّما لولا أصالة هذه المقولة ‏المؤصّلة للإبداع النابع من ذاته لضرورته، لانتهى الإبداع نفسه وكفر الناس بفعل الكتابة...‏

كل ما تقدَّم لا بد من ذكره قبل الدخول في الكلام عن نصوص الكاتب الأستاذ "شطبي يوسف" في ‏مجموعته القصصية "الصعود في النّهار" الصادرة عن هيئة قصور الثقافة 2017/ النشر الإقليمي ‏المنيا. يمتلك الكاتب مساحة واسعة من التجربة الإنسانية، وطاقة خيال تجعله ينتقل بين العوالم بيسر ‏منطلقًا خلف فكرته، يصوِّرها في العالم الواقعي بلغة واقعية، وفي العالم الأسطوري بلغة أسطورية، ‏وحين يدخل فضاءات الروح تحيط جمله اللغة الروحية، وفي كل الأحوال هو صاحب تجربة كونية ‏يرصدها سردًا دون تعالٍ عن لغة السرد على الرغم من الشاعرية العظيمة التي تتغلعل في ثنايا ‏تجربته، وكأنه في الوقت الذي تمَّ تفريغ الشعر من أكثر طبائعه بواسطة بعض الذين يدّعون أنهم ‏يكتبون شعرًا، ظلّ بعض الساردين يحتفظون للشعر بمكانته في الحالات القصصية التي يرصدونها. ‏ولنتوقف قليلًا لنثبت هذه الادعاءات في مجموعة "شطبي يوسف".‏

أكثر نصوص المجموعة تعدَّت التعريف الجامد والقالب المحفوظ لشكل القصة القصيرة والتي ترتبط ‏بصيد اللحظة. وربما أشد الأمثلة تجليًا هي قصة "المأزق"، والتي قسمها الكاتب إلى خمسة أجزاء، كل ‏جزء باسم أحد أبطالها: بسيوني الأمين، حنفي، عُلا، الأستاذة، الأم. فضلًا عن وجود شخصيات ‏فرعية لكنها ليست ثانوية داخل القصة، وهذا كله تحت عنوان واحد/ "المأزق". إنَّ محصلة هذا العمل ‏رواية مكثفة لأسرتين؛ واحدة مالَ عليها الزمن بسبب انهزاميّة رجل، وتحاول الصُّمود بفكر تحفُّظي ‏لزوجته، وأخرى تقودها امرأة مستغِلّة تستغلّ الأسرة الأولى، ولا يمكن أن يكون هذا العمل قصة ‏قصيرة بالمفهوم المؤصل للقصة على الرغم من كثافة لغتها، فقد تعدَّت التعبير عن اللحظة ووصلت ‏للتعبير عن حقبة في عدد قليل من الصفحات. بالطبع ليس هذا هو العمل الوحيد الذي يمكن أن نبرهن ‏به على خلخلة الإبداع لمفهوم الشكل والتعريف في المجموعة، لكنه الأكثر تعبيرًا، وتوجد أعمال أخرى ‏مثل "تجليات جثة" مثلًا وغيرها...‏

والسؤال الذي يفرض نفسه.. هل انتهى عصر الجنس الأدبي النقي؟ أو: هل نحن في زمن النص..؟ ‏بالطبع لم ينتهِ؛ فما زلنا نقرأ شعرًا عموديًّا، وقصة اللحظة، ولكن يمكن أن نقول: إنَّ الإبداع أصيل ‏التجربة لا تحدّه القوالب، ونقبله ونحتفي به أيضًا. فهذه المجموعة -مثلًا- لم تتعدَّ القولبة في الشكل ‏والتعريف فقط، بل تعدَّت القالب في مضمون اللغة، فهذه افتتاحيّة قصة "تجليات جثة": ‏

‏(رجلان، أحدهما حيّ، والآخر ميت.‏

ليل ونهر..‏

أقبلا معًا، الليل والرجل الحيّ.‏

وكان النهر يحتضن الرجل الميت). ‏

فهذه لغة شعرية خالصة، وإن كان الكاتب في باقي النص قد استثمر روحها، لكنه لم يستمرّ على ‏منوالها لأنَّ الكاتب غايته التوظيف لخدمة بناء النص وليس غايته إثبات القدرة على ممارسة فن بعينه، ‏وقد شاعت مثل هذه اللغة بشكلها ومضمونها أو بروحها في فقرات كثيرة، مثل قوله في قصة "بيت ‏النار": (خبأتني بين غواليها فدارت رأسي بين قبتين من وهم واشتهاء، وعتبات مقدّسة موصدة على ‏أسرارها وجنّاتها، تتلظى وراءها نار آكلة، قالت: لا عليك إلا أن تصبّ الماء فوق جسدي، أتوضّأ من ‏فيض يديك. أنت ولدي وحبيبي واسم الغالي عليك، ها هي جنّاتي لا يأخذ من ثمري غير العارف وإلا ‏هلك.‏

رأيتها تخرج في نومي عارية، تصعد فوق السطح وتصهل كالفرسة البرية، ورأيتها تهدل فوق رأسي ‏كيمامة، نقرت وجهي ونقرت أحشائي وراحت تلتهمني، فلمّا صحوت أخذتني من يدي وقبّلتني بين ‏عينيَّ، فرأيت بين عينيها المكحولتين أسراري عارية). إنها اللغة الصوفية الشاعرية الساعية للكشف. ‏أمّا قصة "بيان موت مغدور"، والتي قدَّمها الكاتب كقصة، فمن الغريب أنها موزونة على تفعيلة ‏‏(فعلن) كلها تقريبًا، حتى إنَّ الكاتب الذي لم يخطئ في اللغة خطأ جسيمًا مقصودًا في كل نصوص ‏المجموعة، فإنه في هذا النص، ونظرًا لسيطرة الإيقاع، همز ألف الوصل في فعل الأمر "اكتب" فكتبها ‏‏(..أكتب كلمة "يعرف".. أكتب كلمة "حرية") وتكرَّر هذا في جمل "عائلة تحترف الموت".. (انظر، لا ‏تشمخ حتى لا يقتلك الحاكم، لا تختال فتغتال، ولا تغفو كالجد الثالث فتضيع..)، فقد ثبت حرف العلة ‏الذي يجزم الفعل بحذفه، ولا أظنّ هذا إلا من سطوة الإيقاع على تجربة الكاتب، والذي كان حريصا ‏على وضع الـ(،) بين الجمل القصيرة حتى لا يختلّ الإيقاع. لا أستطيع أن أجزم إن كان هذا مقصودًا ‏من الكاتب أم جاء فطريًّا ملازمًا للتجربة، لكن هذا لا يمكن إغفاله في تجربة كاتب يهتم بالنص ‏وأصالة التجربة عن القالب. ‏

والسؤال: هل هذا من صالح العملية الإبداعية والمبدع؟ ولا أقصد أن أسأل عن الإخلال باللغة، لكن ‏أقصد: هل تداخُل الأجناس من صالح العملية الإبداعية والمبدع؟ بالطبع لو كانت العملية إبداعية ‏وتصدُر عن مبدع فالكتابة كانت سابقة للنقد الذي وضعها في قوالب منذ القدم، فالشعر وُجد ثم وُجدت ‏البحور، والسرد وُجد ثم وُجدت الأنواع... وفي حالة مثل حالة مجموعة "الصعود في النهار"، أعتقد ‏أنَّ الصُّعود بالحالة للنص لا للقالب كان ناجحًا ومفيدًا بنسبة عالية، وقد صنع هذا تضافرًا بين البنية ‏واللغة جعلا النص مُعَبِّرًا عن التجربة الإنسانية للكاتب في كثير من النصوص.‏

ما يعنيني الآن محاولة البحث عن الدوافع الإبداعية لدى الكاتب ومدى استفادتها من تحرُّره الشكلي.. ‏وهذا يعود بنا إلى نقطة ثانية.. وهي ارتباط الإبداع بالواقع والأنا.. تقول سعاد جبر في "الحوار ‏المتمدن" عدد 1736:‏

‏"عرَّف "وَلْك" الإبداع بأنه "التميز في العمل والإنجاز بصورة تشكل إضافة إلى الحدود المعروفة في ‏ميدان معيّن"(‏Wallac1985‎‏)، ويعرِّفه "جيلفورد" بأنه سمات استعدادية تضم الطلاقة في التفكير ‏والمرونة والأصالة والحساسية للمشكلات وإعادة تعريف المشكلة وإيضاحها بالتفصيلات والإسهاب ‏‏(‏Guilford,1986‎‏)، ويعرِّفه "ويرتيمر" بأنه إعادة دمج أو ترجمة المعارف والأفكار بشكل جديد".‏

ولو قرأنا معًا من المجموعة قصصًا مثل: تمزيق الكفن، الأصدقاء، تجليات جثة، سنجد فيها تلك ‏اللمحات التي أشار إليها "ولك" أو "جيلفورد"؛ ففي قصة "تمزيق الكفن" يتوحد الكاتب مع شخصيات ‏وأشياء عدة أبرزها البشريّ "زعبورة" وهو شخصية تراجيدية مختلة عقلًا وبدنًا "على حافة الترعة، ‏وجدته معلقًا بحبل من قدميه في أحد الفروع، بين الماء والسماء، ثلة من الشياطين الصغار تحته ‏يزأرون بضحك وحشي، وجدوه نائمًا في ظل الشجرة، فذهب أحدهم وعاد بحبل من القرية، تسلق ‏الشجرة وعقده في أحد أفرعها وألقى بطرفه إلى أسفل، هكذا وجد زعبورة نفسه (مصلوبًا) منكسًا في ‏الفضاء، الحبل ملفوف على قدميه بشكل أنشوطة، وهو ينثني وينفرد وينكمش على نفسه، يقذف بطوله ‏في كل اتجاه. عاصفة من الضحك والصراخ والعواء، كان يزداد تخبطًا، أيّ حركة غادرة كفيلة أن ‏تسقطه على أحجار الشط فتمزق جسده، أو تقذف به في دوامة المياه الموّارة العتيّة أسفل الكوبري"، ‏هذه الفقرة تصف حجم الآلام التي تلحق بـ"زعبورة" نتيحة التحرش به، غير أن كلمة مصلوبًا والتي ‏وصف بها الكاتب حال "زعبورة" المُنتَهك تُوُحّدُه مع المسيح المصلوب وآلامه بفعل سفاهة البشر ‏أيضًا، وفي هذا توسيع لدائرة المقدّسات في الحياة الإنسانية، ففي هذه القصة وقصص أخرى يخلع ‏الكاتب القداسة على أشياء كثيرة لا يراها الناس مقدّسة، بل أحيانًا يعتبرونها مدنّسة مثل الغريزة مثلًا، ‏فالجرس الذي "يوقظ القرى من غفوات لياليها المستبدة، يشعل في أفراحها أحلام الأبد،، مقدّس ‏و(مصلوبًا) على فضاء القرية للقيام بدوره، والخادم الذي يقرعة "تعلّم كيف يربط قدميه في سلالم ‏البرج بينما يقرعه حتى لا يقذف به في الفضاء، أحيانًا كنت أصعد في أعقابه فأراه (مصلوبًا) هناك ‏بين ذراعي الجرس، يداه قابضتان على الحبل المدلّى، مربوط القدمين، يسحّ جبينه عرقًا ومنخاراه ‏مفتوحان على سعتهما، فيما بعد تعلم كيف يسوسه ويتوازن مع جذباته الضارية دونما حاجة لربط ‏قدميه". فتكرار كلمة (مصلوبًا) -والتي تعمدتُ أن أضعها بين قوسين- في فقرات النص هي إيحاء منه ‏بتقديس أناس وأشياء وأفعال كثيرة لها من القداسة ما ليسوع، وقد توحدت كلها معه في الصلب على ‏صلبان أقدارها، بل إنَّ "زعبورة" يموت ويُبعث من موته ليصير مقدسًا فعلًا كما ُبعث وقام المسيح ‏فاكتسب قداسته. ‏

غير أنَّ الكاتب كما يخلع القداسة على الطقوس الروحية يخلع في جرأة نادرة القداسة على الغرائز بما ‏فيها الجنسيّة، وهذا خلاف ما يرى المجتمع المتديِّن الذي يعتبر الجنس فعلًا مدنّسًا، في قصة ‏‏"الأصدقاء" دمج الكاتب بين عالم الإنسان وعالم الحيوان ليقدِّم لنا "لؤلؤة" ذلك الحصان الذي يذوق ‏سوء العذاب من صاحبه لانطلاقه الجموح خلف "سمارة" وهي فرسة يحبّها تعمل في كاره نفسه: ‏‏"على أنَّ لؤلؤة كانت لديه خاصية مريبة، أو لنقل كانت لديه نزواته الجحشوية، ممّا جعل عوضين ‏ينعته دائمًا بأنه همجي قليل الأدب، فما إن يلمح حصانه "سمارة" وهي مهرة ذات دلال وخيلاء، تعمل ‏في نفس الكار، حتى ينطلق في أثرها دون احتشام ولا رادع، لا يبالي بلسعات السياط التى يلهبه بها ‏صاحبه، ولا صرخات الأستاذ عارف، أو أيّ زبون آخر". غير أنَّه في آخر القصة يجعل فعله ‏الممقوت من كل مَن حوله هو الذي يتسبَّب في إنقاذهم من الموت حين غلبت الحصان غريزة أخرى ‏هي غريزة التبوُّل وكانت في مكان قاتل حيث غلبته على قضبان السكة الحديد وأحد القطارات يمر، إنَّ ‏كل التوسلات والمخاوف ووسائل الإكراه على عبور المزلقان لنجاة الجميع من الموت لم تزحزح ‏الحصان عن القضبان "قفز عوضين وراح يدفع لؤلؤة وينخسه ثم يجره جرًا، لكن الحصان استحال ‏تمثالًا هو الآخر، إذ ذاك، وفيما يشبه المعجزة، في هذه اللحظة النادرة الغريبة، اللحظة التي تسبق ‏النهاية، ظهرت سمارة قادمة من الاتجاه المقابل، يجلجل جرس عربتها اللامع، مزهوة بفتوتها ورشاقة ‏قدها، وقد تربّع صاحبها فوق مقعده. في هذه اللحظة الفريدة، تحوَّل لؤلؤة إلى كائن مجنَّح، اندفع ‏صاهلًا جامحًا متجاوزًا القضبان. أفاق الأستاذ عارف من عنف الارتجاجة، ورأى كأنما في حلم، أنه ‏يطير ويقذف به بعيدًا كالغرارة، بينما صوت القطار المارق خلفه يهز الفضاء". إنَّ لغريزة الإخراج ‏قوّتها التي تمنحها قدسية أقوى من الموت، لكن غريزة الجنس التي كانت سبب إذاقته العذاب ممّن ‏يمقتونها فيه هي التي أنقذت الرَّكب من موت محقق مشهود في اللحظة الحاسمة. وهنا خلع القداسة ‏على هذه الغريزة التي كثيرًا ما ظلمها البشر على مرِّ تاريخهم الروحي والاجتماعي.‏

جاء في مقدمة "أرجون" لكتاب "جارودي" (واقعيّة بلا ضفاف) على لسان "ماتيوس": إنَّ الموقف ‏الواقعي في الحياة والفن هو مغزى حياتي.. وإنَّ الكثيرين يشاركونني هذا الموقف، غير أنَّ إساءة ‏استخدام كلمة واقعيّة ولصقها بأعمال مبتذلة ساهم إلى حد كبير في الحطّ من شأنها؟

إنَّ هذه المقولة تفسِّرها تمامًا نصوص شطبي يوسف من الناحية الإيجابية، فالقصص لا تبتعد عن ‏الواقع المعاش بحياته وموته، والذي يدور في فلكه الكاتب متأثرًا به ومؤثرًا فيه أحيانًا بالرمزية وأحيانًا ‏بالتفاعل الصريح.‏

أمّا بالنسبة للموت والذي كان حاضرًا في المجموعة منذ العنوان "الصعود في النَّهار" وهو عنوان ‏كتاب "نصوص الموتى"، فالمبدع يرى الموت ضعيفًا، وأنَّ أكثر ما يمكن أن يفعله في الإنسان هو نقله ‏من عالم الفناء للأبديّة، وقد أورد الكاتب هذا النص الشبيه بنصوص كتاب الموتى بالفعل ليدلّ على هذه ‏الفكرة في مقدمة مجموعته:‏

‏"أي أوزير العزيز

يا ذا القلب المتعب

قم واعبر بوّابات الليل

فإنَّ نواصي الجبال، اشتعلت بنور النهار

وأنتنّ أيتها الأرتاج،

ارفعن رؤوسكن

وارتفعن أيتها الأبواب الدهريّات

كي يصعد ذلك الإنسان

مخلوق النور والبهاء..". ‏

وفي مقاطع أخرى حين تساوره الشكوك وتدور في رأسه الأفكار الهدّامة للخلود بعرض مَشاهد من ‏تحلُّل الجسد، نجده يردّ متفلسفًا:‏

‏"أتمدَّد في باطن الأرض. تستحيل أصابعي جذوعًا تورق فوق الأرض.‏

أتمدَّد. أغرس جذوري وأرفع هامتي. أطلُّ على الدنيا من جديد. أطلُّ عليها بعين زهرة برية واسعة ‏الأحداق، تتفتّق من جرحي الغائر، ترقص في الريح والشمس، وتنشر أريجها في كل الأرض".‏

وفي جملة أخرى يقول: "صرتُ وليمة لدويبات الأرض النهمة.. نضج لحمي وتهيّأ للبعث في خلايا ‏جديدة"، فلا موت للإنسان لكنها دورات أخرى لحياة الجسد وانطلاق في الأبد لحياة الروح، وقد تكرَّر ‏البعث معنويًّا ورمزيًّا في كثير من نصوص المجموعة، وأكثر هذه النصوص دلالة ما أطلق عليه ‏الكاتب "قيامة زعبورة" في قصة "تمزيق الكفن".‏

أمّا اندماج الكاتب في الحياة فظاهر وجلي في كل القصص؛ فحتى النصوص التي انحرفت للواقعية ‏السحرية والتي بعثت ميتًا من موته كما بُعث المسيح، أو جعلت حصانًا يحبّ فرسة، أو أعطت للجثة ‏حق كتابة تجلياتها ومذكراتها، فهذه القصص لم تكن بعيدة عن الواقع المتفاعل معه الكاتب؛ فأجواء ‏الكنائس الحقيقية وطقوسها وتفاعلها مع مَن يتعاملون معها لم تكن بعيدة عن الرَّصد مثلًا، لكنه رصد ‏المبدع الواقع تحت تأثير تجليات الحالة الشعورية وليس تأثير الراصد الأمين أو المنحاز الخمول. وفي ‏قصة "الأصدقاء" رمزية للواقع؛ فهي تتكلم عن إداري غني ومريض وبخيل في الدور الأعلى، ‏و"عربجي" له ميول فنية في الدور الأسفل، وحصان يجر الحنطور يسكن في الحوش الخلفي لغرفة ‏العربجي، فالقصة تتكلم عن علاقات طبقية وصراعات غرائزية تجعل الجميع يتراضون على الرغم ‏من عدم رضا الجميع. فغريزة حب الحياة واستمرارها علاقة مركَّبة من الصعب الحكم على المهم ‏والأهم فيها، حتى إنَّ النجاة في آخر القصة من الموت المحقق دهسًا بالقطار، تأتي على يد الحب فقط ‏في قلب أقل الثلاثة شأنًا وهو الحصان الذي يسكن الحوش الخلفي!‏

وأمّا اختلاط الحياة والموت في نسيج واحد فيلتقيان في قصة "انتهاء اللعبة"، تلك القصة التي تبدو ‏واقعية وتبدو رمزية في وقت واحد، حيث البطل الذي رأى في قتيله منظر أخته التي ماتت بعدما أنفق ‏من أجلها كل ما يملك حتى التضحية بحبه وحبيبته، ولم يجد ما ينفق؛ فخرج مهاجرًا بحثًا عن المزيد ‏من نقود ينفقها، وفي المهجر يتهمونه بقتل فتاه تداخلت صورتها مع صورة فقيدته، فحاول إنقاذها لكنه ‏اختلط الأمر على الشرطة والقضاء في بلد غريب.. وبعد محاولات إنقاذه يعفى عنه ويعود للوطن فيجد ‏لافتات تعلن عن ترشيح الرئيس لفترة عاشرة من أجل الرخاء! وفي الميدان يقابل حبيبته مع شخص ‏آخر أكثر منه حظًّا في المال، فينفلت ليقتله ظنًّا منه أنه يخلّص حبيبته! إنَّ الرَّبط بين الحبيبة التي تنقاد ‏لمَن يقهرها بعد تخلّي حبيبها العاجز عنها، وبين الوطن المقهور بالقوة والشعارات الكاذبة لا يخفى، ‏ولولا الدراما العفوية المتنامية في قصة قد تحدث وتكون لها تجلياتها الإنسانية لرصدنا قصة واقعية ‏بحتة عالية الصوت، لكن الحالة الفنية والشعورية سيطرت على العمل لتنقذه من هذه التُّهم.‏

والمجموعة بوجه عام يختلط فيها الواقعي بالأسطوري والشعري بالنثري والفكري بالوجداني وهموم ‏الحياة بالمخاوف من الموت... وهكذا حال المبدعين الكبار دائمًا، مهما حاولت رصد كل ما يدور في ‏داخلك عن إبداعاتهم؛ ستظل أشياء تحتاج لدراسات أخرى؛ فالإبداع العظيم لا تنفذ تجلّياته. ‏