بناء الشخصيّات في رواية (أعالي الخوف) ‏

للرِّوائي هزاع البراري

‎ ‎محمد رمضان الجبور

قاص وناقد أردني

 

 

تكاد تكون الشخصيّات من أهم عناصر العمل الرِّوائي، فمن خلالها يستطيع الرِّوائي سبك أحداث ‏الرِّواية وتحريكها، فالشخصيّات هي المحرِّك الرئيس لمجموع الأحداث، يساندها في ذلك ‏مجموعة العناصر الأخرى؛ الحبكة والزمان والمكان وغيرها، لكنَّها تبقى العنصر الأهم، فمن ‏خلالها يجسِّد الرِّوائي أفكاره، ويستطيع رسم المَشاهد وتصويرها، ولا نبتعد كثيرًا إذا جزمنا أنَّ ‏رواية "أعالي الخوف" للرِّوائي هزاع البراري هي بحق رواية الشخصيّات، فمن خلال القراءة ‏الأولى للرِّواية نرى أنَّ الشخصيّات هي العمود الفقري الذي بنى عليه الكاتب ما جال في نفسه ‏من أفكار، وما جاد به قلمه من عواطف وأخيلة. ‏

استطاع الرِّوائي هزاع البراري بخبرته وثقافته العميقة أنْ يجعَلَ من شخصيّات رواية "أعالي ‏الخوف"، شخصيّاتٍ أقرب للحقيقة منها إلى الخيال، وقد نوَّه البراري بعد الإهداء القصير جدًا: ‏‏"إلى خوفهم... يسكن وجداني" بأسماء هؤلاء الذين بنى عليهم أحداث روايته، وهم: إبراهيم، ‏فارس، بطرس.‏

‏"يا هذه الدنيا أما من عالم آخر أهرب إليه غيرك وغير الموت"(إبراهيم).‏

‏"كائن آيل للسقوط، مجرّد زوبعة من غبار تُعمي الأبصار ولا تجلب مطرًا"(فارس).‏

‏"عندما أموت لن أكون مريضًا، سأموت لأنه حان موعد الدّفن فقط"(بطرس)(1).‏

هكذا قدّم الرِّوائي هزاع البراري أبطال روايته وكأنه يفتح للمتلقّي بابًا للولوج إلى متن هذا العمل ‏الرِّوائي، فهو يؤكد إلى ما ذهبنا إليه من أهميّة الشخصيّات في هذا العمل، لذا افتتح روايته ‏بالإشارة إليهم، فهم الشخصيّات الرئيسة والمحوريّة، والأكثر أهميّة في العمل. ‏

وهذا لا يعني خلوّ العمل من الشخصيّات الثانوية الأخرى، فالرِّواية زاخرة بالعديد من ‏الشخصيّات الثانوية التي مَنحت الرِّواية الكثير من الحركة والتشويق لحثّ المتلقي على المتابعة، ‏وطرد الملل. ‏

الشخصيّات الرَّئيسة

يقول "أيف رويتر": "كل قصة هي قصة شخصيّات" ويعرِّف الباحث المغربي "حميد لحمداني" ‏الشخصيّة بأنَّها "الشخصيّة الفاعلة العاملة بمختلف أبعادها الاجتماعية والنفسية والثقافية، والتي ‏يمكن التعرُّف عليها من خلال ما يخبر به الرّاوي، أو ما تخبر به الشخصيّات ذاتها، أو ما ‏يستنتجه القارئ من أخبـار، عن طريق سلوك الشخصيّات"(2). وتظلُّ الشخصيّة من أهم الأدوات ‏المساعدة في تسليط الضوء، وسبر أغوار عوالم العمل الرِّوائي، وكان لا بدّ لنا من التوقُّف عند ‏الشخصيّات الرَّئيسة والمحوريّة في هذا العمل، وأكثر الشخصيّات وضوحًا وظهورًا فيه؛ ‏شخصية "فارس".‏

 

‏"فارس": ‏

الشخصيّة الأكثر حضورًا ونماءً، وهي البؤرة المركزية لمعظم أحداث الرِّواية، تتحرَّك في كل ‏الاتجاهات كونها العنصر الأهمّ في العملية السردية، ففيها تتجسَّد فكرة الرِّواية، ومن خلالها ‏تنطلق الأحداث، وقد اختار الرِّوائي لها مهنة تناسب أحداث السَّرد، فـ"فارس" أستاذ جامعي ‏يدرِّس الإعلام، ويلتقي بالكثير من النساء في مغامرات عاطفيّة، وتغصّ أجندته بأسماء الكثير من ‏النساء على الرغم من خلوّ قلبه من أيّ منهنّ "أنا لا أصلح للحب، أنا رجل لا أصلح لشيء، ‏أعرف أنني مَن دفعكِ لهذه المنطقة... وأنا من صوَّر لكِ أنَّني...، لكنّني مجرَّد وهم...، أنا أستاذ ‏جامعي في الإعلام هذا هو الزيف، لكن الحقيقة أنَّني وهم، كائن من فراغ"(3).‏

‏-‏ البُعد الفيزيولوجي (الجسمي) لشخصيّة "فارس": ‏

من خلال البُعد الفيزيولوجي للشخصيّة نستطيع التعرُّف على الملامح العامة لها، وقد استطاع ‏الرِّوائي أن يرسم ويحدِّد لنا تلك الملامح، فقد اختار اسمًا للشخصيّة يتناسب وطبيعة الدَّور الذي ‏رسمه لها، فهو فارس في تكوين العلاقات العاطفية، فارس في نظر الكثيرات من اللواتي مررن ‏في طريقه ووقعن في حباله الرثّة، ساعده في ذلك مركزه الاجتماعي وشخصيّته الجاذبة. ‏

‏"ينحدر من أساطير منسيّة، فيه روح أخيل، وفي قلبه انكسار امرئ القيس، ويسكن وجهه جمال ‏يوسف عليه السلام، وجه مدوَّر دقيق الملامح، بشرة سمراء ناعمة، وعينان تقاربان الأخضر إلّا ‏دمعة، وشارب أسود ساحر، يحظى بعناية يوميّة متأنِّية، لا يتخلّى عن أناقته الأوروبيّة..."(4).‏

كل هذه الصفات الجسميّة... الفيزيولوجية، جعلت من شخصيةِ "فارس" شخصيةً جاذبةً ومقنعة، ‏تقع النساء عليها كما يقع النَّحل على الزَّهر، فكثرت مغامراته النسائيّة، وسرَقَتْه الدُّنيا. ‏

‏-‏ البُعد النَّفسي لشخصيّة "فارس": ‏

وكما كان للبُعد الجسمي والفيزيولوجي لشخصيّة "فارس" الأثر الواضح في ثنايا النص السردي، ‏كان هناك أثرٌ للبُعد النفسيّ، فشخصيّة فارس شخصيّة قلقة يغلِّفها الخوف؛ الخوف من الماضي، ‏والحاضر، والمستقبل، فهي شخصيّة تعيش في صراع مع النَّفس، ويتَّضح ذلك من خلال أشكال ‏المونولوج المختلفة والمتعدِّدة، سواء كان المونولوج الداخلي أو المباشر ضمن حوارات متعدِّدة ‏يرسمها الرِّوائي بمهارة أقرب إلى الحقيقة:‏

‏"- كلُّنا يتلبَّسنا القلق والخوف.‏

تركتُ نظراتي تغير على بطرس ثم ترتدّ وقلتُ: ‏

‏- أنت خائف أم قلق؟ ‏

‏- القلق يُنبت الخوف، والخوف يفجِّر القلق، وجهان لعملة واحدة، ونحن تلك العملة"(5).‏

 

‏"إبراهيم"‏

الشخصيّة الرَّئيسة الثانية في العمل، فهي تتحرَّك بكلِّ الاتِّجاهات، وتشارك الأحداث، وسيطرت ‏على الجزء الأكبر من المشهد السردي، رسَمَها الرِّوائي على أنَّها ذات مرجعيّة دينيّة، إلّا أنَّها ‏أيضًا تعاني من الانحلال، فقد فُرض عليها هذا الدَّور نتيجة الموروث الاجتماعي، فالجدّ ‏‏"إبراهيم" والأب "غيث" قد ورثا هذه الصفة، وتظلّ المغارة -التي ورد ذكرها في أكثر من مكان ‏في المشهد السردي- رمزًا لحياة التقوقع التي عاشها "إبراهيم" وعائلته، فالمغارة تحمل دلالات ‏متعددة، فهي المكان الذي يشعُّ بالإيمان ظاهريًّا، على الرغم من الخرافات والأساطير التي ‏تصاحبها وتظهر منها، فشخصيّة "إبراهيم" شخصية "شيزوفرينيّة" تعيش بأكثر من شخصيّة، ‏فعلى الرغم من أنه رجل مسجد يحافظ على الصلوات إلا أنه صديق "بطرس" الذي لا ينفكّ عن ‏الشرب ولا يرمي الكأس من يده، بل قد يأتي له "إبراهيم" بالخمر التي يطلبها.‏

‏"- ماذا؟

‏- أريد أن أصلي ركعتين.‏

‏- لا وقت للصلاة ونحن نوغل في السَّهر في جوف هذا الليل.‏

بطرس: يا شيخ هذا مكان تخثَّرت فيه رائحة المشروب، وتُسجن فيه أرواح مزَّقها القلق، ربَّما ‏من الأفضل أن تؤجِّل صلاتك إلى صلاة الفجر في المسجد..."(6).‏

 

‏"بطرس"‏

طبيب أسنان، يقع في هوى وحُبّ فتاة بدويّة، وعندما يعلم إخوتها بالأمر يقومون بقتلها بإلقائها ‏في بئر، ثم يهاجمون عيادة الطبيب "بطرس"، ويجرِّدونه من رجولته بأبشع الطرق، ويظلُّ ‏‏"بطرس" سجين الوحدة، فقط ينظر إلى صورة على الحائط تمثل تلك الفتاة، ويدرك أنَّ حياته قد ‏انتهت بانتهاء حياة تلك الفتاة، فهو يعيش القلق والخوف معًا، شخصيّة لا تريد من الدنيا شيئًا، ‏فقط ينتظر موته ببطء، فهو ميت في جسد حيّ، لم يبق له من الدنيا شيئًا سوى الانتظار والخوف ‏والقلق، فهو يموت في بطء شديد ليزداد عذابًا، وصداقته بالشيخ "إبراهيم" و"فارس" كانت تفتح ‏له أحيانًا كوّة من الأمل. ‏

‏"وكنتُ أنا ثمرة هذا الزَّواج، ثمرة جوز قاسية، ثمرة لم تصمد طويلًا، سرعان ما فسدت ‏وصارت غير صالحة إلّا للموت، الثمرة التي لا حياة فيها، هي موت مؤجَّل برسم العفن"(7).‏

كلمات تلخِّص الجانب النفسي الذي تعيشه شخصيّة "بطرس"، الشخصية المهزومة داخليًا، والتي ‏تنتظر الموت المؤجَّل، مثلها مثل باقي الشخصيّات الأخرى تعيش في أعالي الخوف. ‏

وقد أثَّر الجانب النفسي على الجوانب الأخرى، فـ"بطرس" قد أغلق على نفسه باب عيادته وراح ‏يتأمّل صورة الفتاة التي كان سببًا في موتها، وكانت سببًا في دقّ المسمار الأخير في نعشِه. ‏

 

الشخصيّات الثانويّة

هناك الكثير من الشخصيّات الثانويّة التي وظَّفها الرِّوائي هزاع البراي في هذه الرِّواية، وكان لها ‏الأثر الكبير في المشهد السردي، وقد ظهرت العديد من العناوين الفرعيّة التي تحمل أسماء ‏شخصيّات ثانويّة: "ديمة"، "هديل"، "زينب" (أم فارس)، "إيناس"، وأسماء أخرى ظهرت في ‏ثنايا العمل: "فادي"، "إبراهيم الكبير"، "غيث"، وغيرها من الشخصيّات، وعلى الرغم من الدور ‏البسيط لهذه الشخصيّات، إلّا أنَّها تُلقي الضوء على الكثير من الجوانب التي أرادها الكاتب، وقد ‏تمرُّ سريعًا إلّا أنَّها تترك في المتلقي أثرًا، وقد لا تحظى بالكثير من الاهتمام أحيانًا إلّا أنَّها من ‏العناصر المهمّة جدًا في العمل الرِّوائي، وحول ذلك يقول محمد غنيمي هلال: "إذا كانت ‏الشخصيّات ذات الأدوار الثانويّة أقلّ في تفاصيل شؤونها، فليست أقلّ حيويّة وعناية من القاص، ‏وكثيرًا ما تحمل الشخصيّات آراء المؤلِّف"(8).‏

ولا نريد هنا الاسترسال في موضوع الشخصيّات الثانويّة، فهي تحتاج إلى وقفة خاصة حول ‏دورها وبنيتها في هذه الرواية، ناهيك عن جوانب أخرى كثيرة يمكن الوقوف عليها، فرواية ‏‏"أعالي الخوف" تستفزّ المتلقي للبحث في ثيماتها العديدة ومنها "الخوف" و"الحب"، و"حال ‏المثقف وتوتره الدائم"... ناهيك عن اللغة التي تميل في كثير من المواضع إلى لغة الشِّعر التي ‏تعبِّر عن الأجواء المشحونة بالعاطفة، وهناك خصوصيّة المكان (عمّان) التي اكتسبت دلالات ‏خاصة في هذا العمل. ‏

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ هزاع البراري، أعالي الخوف (رواية)، ط1، دار الأهلية للتوزيع والنشر، عمّان، الأردن، ‏‏2015، ص10.‏

‏(2)‏ ‏ بنية النص السردي (من منظور النقد الأدبي) د.حميد لحمداني، ط1، المركز الثقافي العربي، ‏بيروت، 1991.‏

‏(3)‏ ‏ أعالي الخوف، ص14.‏

‏(4)‏ ‏ أعالي الخوف، ص93.‏

‏(5)‏ ‏ أعالي الخوف، ص97.‏

‏(6)‏ ‏ أعالي الخوف، ص95.‏

‏(7)‏ ‏ أعالي الخوف، ص141.‏

‏(8)‏ ‏ محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، دار الثقافة، دار العودة، بيروت، (د ط)، 1973، ‏ص205.‏