مكرُ الثقافة ‏ وخدعة المثقَّف

د. يوسف ربابعة

رئيس التحرير

 

 

درجت العادة على تسمية الشخص المهتمّ بالكتابة والأدب والنقد بمصطلح "المثقف"، وهو يعني ‏أنَّ هذا الشخص يتمتَّع بثقافة عالية، وأنه متميِّز بما يحمل من أفكار على المستوى الشخصي ‏والمستوى العام، وأنه يمارس سلوكًا يتناسب مع تلك الثقافة التي يحملها، وذلك انطلاقًا من ‏مفهومنا العام للثقافة الذي اعتدنا عليه واستقرَّ في وعينا، لكنَّنا حين نختبر تلك الأوصاف فإنَّنا ‏نجد أنفسنا في حيرة من أمرنا، فكثير ممَّن نصفهم بأنهم مثقفون يمارسون سلوكًا لا يختلف عن ‏سلوك أيّ شخص لا يتَّصف بتلك الصفة، بل نجد أنَّ هذا الذي نسمّيه مثقفًا لا يختلف عن أيّ ‏شخص آخر حين يتعلّق الأمر بقضايا الحياة والمجتمع، ولو حكمنا على السلوك دون معرفة مَن ‏يقوم به فإنَّنا لن نجد فرقًا بين مَن يسمّى مثقفًا أو غيره.‏

يمكننا الاستدلال على ما ذهبنا إليه بمجموعة من القيم والسلوك التي يمارسها الجميع على ‏اختلاف مستوياتهم من منظور ثقافي، ومن ذلك ما يتعلّق بنظافة الأماكن والفضاءات العامة ‏وطريقة التعامل معها مثلًا، إذ نلاحظ أنَّ الجميع أو ربّما الأغلب لا يهتمّ كثيرًا بنظافة الأماكن ‏العامة، ويلقي النفايات في كل مكان بدون أيّ حساسية تجاه الفضاء العام، بوصفه عامًا وليس ‏خاصًا، فهل نجد فرقًا في ذلك بين مثقف أو غير مثقف؟

الجواب في الغالب "لا"، ومن هنا يظهر "مكر الثقافة" التي تتسرَّب في الخفاء بدون أن يشعر بها ‏أحد، لتكشف بلا وعي حقيقة الفرد وتجلّيات سلوكه بعيدًا عن الادِّعاء الظاهري الذي نمارسه، ‏وعند ذلك تنكشف العلاقة بين ما نتَّصف به من قراءة وكتابة وما نمارسه على أرض الواقع.‏

إنَّنا في الحقيقة نبذل قصارى جهدنا لإخفاء ثقافتنا والظهور بمظهر مختلف، لكن ذلك لا يتحقَّق ‏دومًا، فالثقافة طاغية أكثر ممّا يمكن إخفاؤها، وماكرة أكثر ممّا يمكن التحايل عليها، لذا فهي ‏تحرجنا بظهورها المفاجئ، وتكشف صورتنا الحقيقيّة في اللحظات الحاسمة، لحظات التحقُّق ‏الفعلي للسلوك، فيظهر لدى الجميع ظاهرة استباحة الفضاء العام وعدم المحافظة عليه وعدم ‏الشعور بالمسؤوليّة الجماعيّة وتدهور الإحساس بالانتماء له، في المقابل فإنَّ الفرد ذاته نجده يهتم ‏ببيتِه ويحافظ عليه، ولا يلقي النفايات فيه في أيّ مكان، ومن المَناظر التي تكشف عمق التناقض ‏بين الانتماء للخاص والعام -ولا فرق في ذلك بين المثقف وغيره- ما نراه في الأحياء السكنيّة، إذ ‏نجد أنَّ الشارع مليء بالأوساخ والنفايات، لكن حين تدخل البيوت تجدها منظمة ومفروشة بشكل ‏أنيق ونظيف، فكيف يمكن لشخص أن يعيش في بيت داخله جميل وخارجه قذر؟ إنَّها الثقافة ‏الماكرة التي تصنع في داخلنا التناقضات، فتعطينا شعورًا بأننا متعلمون ونملك قدرًا كبيرًا من ‏الثقافة، وننسى أنَّ سلوكنا لا يكشف عن تلك الثقافة ولا يحوِّلها إلى فعل محسوس.‏

يمكننا أن نرصد عشرات القضايا التي يظهر فيها مكر الثقافة، وتنتشر بين مَن نسمّيهم مثقفين، ‏ومنها الاهتمام بالشأن الخاص، ومحاولة الخلاص الفردي بعيدًا عن حمل الهَمّ الجماعي وتراجُع ‏كبير في الإحساس بالمسؤولية في الشأن العام، وطلب الحلول السريعة للمشاكل بشكل فردي ‏أيضًا وبدون النَّظر للحلول الجماعيّة والعامّة، أو حتى إنَّ الشخص يقبل بحلِّ مشكلته على حساب ‏غيره، ولا نجد -إلّا مَن رحم ربي- من المثقفين ممَّن يفكر بغيره عند وقوع المشاكل، لذلك تبقى ‏مجتمعاتنا عرضة للتفتيت والتفريق، من خلال تحقيق مصالح فئة ضدّ أخرى، أو شخص على ‏حساب الآخرين، وقد يبرِّر بعضنا هذا الفعل حين يكون عملًا فرديًّا، وقد يحصل في أيّ مجتمع ‏وفي أيّ مكان، لكنه حين يتحوَّل إلى ظاهرة فإنَّ ذلك يدفعنا للقلق، ذلك أنه يصبح ثقافة مسيطرة ‏لا ينجو منها أحد مهما كان مستواه الثقافي والتعليمي.‏

إنَّ أيّ إصلاح ثقافي سيواجه كثيرًا من القضايا العميقة التي تغفلها المؤسسات الثقافية، لأنَّ النظر ‏للثقافة غير كامل وغير شامل، بل تتَّسم النظرة بالجزئيّة والقصور، فتهتمّ بما هو سطحي من ‏تعليم وتأليف وعناية بالكُتّاب وإقامة الندوات والمؤتمرات معتقدة بذلك أنها تخدم الثقافة -وذلك ‏جزء مهم- لكن الاقتصار عليه هو ترك الحبل طويلًا لثقافة عميقة لا أحد يعتني بها، على الرّغم ‏من أنَّها هي التي تحدِّد سلوك الجميع، وتظهر في الأفعال، ولا فرق بين المستويات الثقافية في ‏عرفها، بل إنَّها أكثر مكرًا ممّا نعتقد، فتكشفنا في اللحظات الحاسمة، وتزيح كل ادِّعاء قد يمثِّل ‏غطاء نتوارى به عن عيون الآخرين، والأهمّ من ذلك أنَّ المعالجات قاصرة أيضًا، لأنها تنظر ‏إلى التعليم بوصفه مفتاحًا لمعالجة مشكلة الثقافة، وهذ الافتراض غير دقيق كما بَينّا سابقًا، لأنَّ ‏المتعلمين على اختلاف مستوياتهم لا نجدهم يختلفون في الثقافة العميقة عن غير المتعلمين. ‏

ولذا، فإنَّ التشخيص مهمّ، والمُعالجة تكون بالكشف عن تلك الثقافة الماكرة التي تظهر في الوقت ‏المناسب، ومن ثَم تطفو على السَّطح خدعةُ المثقف الذي نعدّه مفتاحًا للإصلاح، ونكتشف أنَّه ‏جزءٌ من المشكلة.‏