النَّص السَّردي ومُمكنات "المُقاربة الثقافيّة"

ياسين معيزو

باحث في السرديات- المغرب

 

يقدِّم هذا المقال إضاءة حول الممكنات التي أبرزتها الدراسات الثقافيّة، والتي أتاحت مفاهيمها ‏النقديّة ومقاربتها الثقافيّة أنْ تسلِّط الضوء على التمفصُل الذي يربط بين السرد والتجربة ‏الثقافيّة والإنسانيّة داخل العمل السرديّ، الأمر الذي لم يكن متاحًا قبل ذلك في الوقت الذي ‏كانت فيه المناهج النقديّة (النفسي، البنيوي، التاريخي..) تتولى مقاربة النص السردي من ‏تصوُّر يقيم الحدود بين عناصر منظومة الخطاب الأدبي ¬¬¬(المؤلف، النص، القارئ)، الأمر ‏الذي يجعل هذه المناهج تغفل أو تتغافل عن "أنساق ثقافيّة مُضمرة" وثاوية في النص ‏السردي، وهو ما أدّى بها إلى فصل النص الأدبي عمومًا والسردي، على وجه الخصوص، ‏عن مرجعيّاته الكامنة في العالم الخارجي، بوصفه تمثيلًا للتجربة الثقافيّة الإنسانيّة الفذّة.‏

استأثر السّرد بشطر لا يُستهان به من التفكير الإنساني تخييلًا، ونقدًا، وتنظيرًا. ولا يعدو أن ‏يكون هذا الاستئثار سوى خضوعٍ موضوعيّ فرضته طبيعة السّرد التي أضحت تتماهى جدليًّا ‏مع حركة التاريخ التي ينسج خُيوطها الفكر الإنساني ثقافيًّا، ومعرفيًّا، وسياسيًّا... ما جعل ‏السرد يتّخذ صورًا وتشكيلات متغيرة ومختلفة، باختلاف الزوايا والرؤى التي نظرت إليه، ‏والسياقات التي ساهمت في تَخْلِيقِه وتشكيله وتقديمه للمتلقي/ القارئ. ‏

هذه الميزة التي طبعت السرد، جعلته يحظى باهتمام بالغ من طرف الدّارسين، ما جعلهم ‏يسيلون مداد أقلامهم لمحاولة فهم واستيعاب هذه الظاهرة التي ما زالت تتوغّل في جذور ‏التفكير الإنساني، وتشغل باله. إذ أصبح السرد، من هذا المنطلق، مسرحًا رحبًا لعرض ‏تفاصيل الحياة اليومية، والتّجارب الإنسانية، وتعبيرًا عن شكل الوجود في العالم، ومساءلته ‏من موقع الزمن داخل هذا الوجود الذي لا يتحقق إلا من خلال استعراضٍ تاريخيّ يُعيد إنتاج ‏مفهوم الزمن داخل تمفصلات سرديّة. الأمر الذي جعل المفكر الفرنسي "بول ريكور" يعدّ ‏السرد مكوّنًا رئيسًا في تشكيل ما أطلق عليه "الهُوية السردية"؛ أي تلك الهُوية التي لا تتحقق ‏إلا بالتأليف السردي وحده، حيث تتشكّل هُوية الفرد والجماعة معًا من خلال الاستغراق في ‏السرديات والحكايات التي تصير بالنسبة إليهما بمثابة تاريخهما الفعلي(1). لقد أدّى هذا الفهم ‏المتجدد للسرد إلى إعادة النظر في السرد نفسه، بوصفه مُتموقعًا في صميم التجربة الإنسانية ‏على النحو الذي يستفاد من مؤلفات بول ريكور، وريموند ويليامز وهومي بابا خاصة في ‏مؤلفه المهم "الأمة والسرد"(2).‏

في المقابل تكشف المقاربة الثقافية في هذا الصدد جوانب مهمة من هذا التمفصل بين السردي ‏والإنساني الثقافي، إذ تشكِّل الأبحاث المندرجة في هذا الإطار، خلفيّة معرفة جد مهمة في ‏تناول السرد، من خلال ما تضطلع به من إثارة المجهول الذي يثوي خلف الدلالة المباشرة، ‏ويتم استدعاؤه من خلال الوعي بالسياق الثقافي الواسع الذي يتحقق فيه، وذلك من أجل إنارة ‏النص، وتسليط ما يكفي من الضوء عليه حتى تنكشف أنساقه المضمرة فيه(3). لكن السؤال ‏الذي ينبغي طرحه بداية هو: كيف استطاعت هذه النظرة المتجددة للسرد أن تتخذ لنفسها ‏موطئ قدم بين ركام "المناهج النقدية" التي استولت، إلى حد بعيد، على النص السردي، ‏وخوّلت لنفسها الشرعيّة الوحيدة لدراسته وتحليله؟ هل لأنَّ هذه المناهج قد استنفدت ذخائرها ‏الإجرائيّة وكسدت تجارتها؟ أم إنّ مرونة المقاربة الثقافية، التي لا تحاول أن تخلص إلى نتائج ‏مغلقة، هي التي مكّنتها من بلوغ هذه المنزلة؟

يأتي التفكير في الإجابة عن هذا السؤال انطلاقًا من التحوُّلات والإبدالات التي أضحت تهدِّد -‏إن صح التعبير- ما كان يعرف في السابق بالمناهج النقدية، سواء تعلق الأمر بالسياقية أو ‏النسقية على حد سواء، والتي كانت تنظر إلى النص الأدبي بوصفه فضاء رحبًا لتجريب ‏أدواتها الإجرائية، وتقويل النص الأدبي ما لا يقوى على قوله؛ وأقصد بالإبدالات هنا، تلك ‏التداخلات المعرفية بين التصورات الفلسفية، والأنثروبولوجية، والاجتماعية، وغيرها، والتي ‏استطاعت الدراسات الثقافية أن تُولِّف بين مجملها، وذلك من أجل اجتراح حقول الإنتاج ‏المتعددة والمتشعبة؛ ولعلَّ الإنتاج السردي واحد من هذه الحقول التي أصبحت، منذ أواخر ‏السبعينات، ينظر إليها بعيدًا عن طموحات التقليدانيّة التي تحصر الإبداع في الشكل أو البنية أو ‏الوظيفة. ‏

لقد ساهم الشرط ما بعد الحداثي الذي أثار فرضيات الشك والارتياب في الأشكال السردية، في ‏تعبيد مسير النقد إلى وجهات أرحب وأوسع، معيدًا الاعتبار إلى الأسئلة الثقافية التي باتت ‏تستحوذ على الإنتاجات الإنسانية في شموليتها؛ وذلك من خلال التركيز على قضايا وأسئلة ‏كانت مغيّبة في السابق، وثم إعادة النظر فيها، وفي المفاهيم التي كانت تتأسس على الفصل ‏بين السرد والتجربة الإنسانية(4).‏

وإن كانت تلك التحوُّلات قد مسَّت ضروب التفكير وإنتاج المعرفة، فلم يسلم التفكير الأدبي ‏عمومًا، والسردي على وجه الخصوص، من هاته الإبدالات، إذ قدّمت الذات الإنسانية لنفسها ‏‏-في هذا الإطار- نقدًا لاذعًا، بعد ما لحقها من خذلان وتسليع، وتمَّ إقحامها في حروب ‏وصراعات هي في غنى عنها، ما جعل هذه الذات تسعى إلى إعادة الاعتبار لذاتها، من خلال ‏التعرُّف على نفسها، والبحث عن ما يشكِّل هُويتها(5). وقد وجدَتْ في السرد -وخاصة ‏الرواية- موضوعًا لعرض تجاربها الإنسانية المعيشة، والتي تتحكم في أفعالها محفزات ثقافية ‏ورمزية، تجعل منها موضوعًا خصبًا للدراسات الثقافية بحسب تعبير الناقد المغربي إدريس ‏الخضراوي.‏

‏ وتكمن أهميّة مقاربة السرد من وجهة نظر ثقافية، في الموقع الذي أمسى السرد يحتله بين ‏باقي الأجناس الأدبية الأخرى. فلقد طال هذا الجنس الأعلى منذ نشأته الأولى ارتقاء متواصلًا، ‏استطاع بخبرته السردية استيعاب التجربة الإنسانية؛ بتمفصلاتها الزمنية، ودلالاتها، وأنساقها ‏الثقافية والرمزية. ومن جهة أخرى فإنَّ التحولات التي مسّت حقل دراسة الرواية، أصبحت ‏معلنة خياراتها المعرفية، بعيدًا عن المسوغات الشكلية التي كانت تلهم النقد الأدبي؛ إذ أصبحت ‏هذه الخيارات ترتبط بالاستفادة من الدراسات الاجتماعية والتاريخية والثقافية، وذلك من خلال ‏التركيز على الأسئلة التي كانت مغيَّبة في السابق.‏

لقد شكَّلت الأبحاث المنضوية في إطار الدراسات الثقافية خلفية معرفية بالغة الثراء، نظرًا ‏لكونها ملتقى العديد من العلوم المعرفية؛ كالفلسفة، والأنثروبولوجيا الثقافية، وعلم الاجتماع، ‏والسيميائيات، وغيرها. ما يجعل الاشتغال في صلبها مغامرة علمية محفوفة بالصعوبات. ‏

كما تسعى هذه الدراسات إلى الاهتمام بالممارسة والفعل الثقافيين اللذين يستعصيان على الفهم ‏دون وضعهما في السياق الثقافي المتحكم فيهما. إذ تعمل -المقاربة الثقافية- على تتبُّع شبكة ‏التمثيلات والتوسطات الثقافية والرمزية المتمثلة في التراث والتقاليد والمرويّات والقيم الثقافية ‏العابرة للأجيال(6)، فهي تضع السرد في مستوى هذه الممارسات الثقافية التي يبدعها الإنسان ‏بهدف التعريف بنفسه وبعلاقته بالعالم والوجود.‏

لعلَّ هذا بعض ممّا جعل الدراسات الثقافية تهتم بالسرد عمومًا والرواية على وجه الخصوص، ‏من حيث هي محاكاة لأسلوب حياة الناس الثقافية وتجاربهم الإنسانية، التي ينبغي أن يستهدفها ‏الناقد للكشف عن كيفية تمثيل المتخيَّل الثقافي، والأنساق الثقافية الثاوية فيه داخل العمل ‏السردي، الذي يجعل من الرواية موضوعًا خصبًا لاشتغالها.‏

 

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ السرد والهوية، نادر كاظم، دراسات في النظرية والنقد الثقافي، دار الفراشة للنشر ‏والتوزيع، ط2، 2016، ص7.‏

‏(2)‏ ‏ إدريس الخضراوي، السرد موضوعًا للدراسات الثقافية، مجلة فصول، العدد 117، شتاء ‏‏2014.‏

‏(3)‏ ‏ إدريس الخضراوي، المرجع السابق نفسه، ص107.‏

‏(4)‏ ‏ إدريس الخضراوي، السرد موضوعًا للدراسات الثقافية، ص108.‏

‏(5)‏ ‏ بول ريكور الهوية والسرد، الحبكة والسرد التاريخي، تر: سعيد الغانمي ورحيم فلاح، ‏ج1، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2006، ص186.‏

‏(6)‏ ‏ بول ريكور، الهوية والسرد، الحبكة والسرد التاريخي، ص116.‏