عِذاب الركابيّ
كاتب وناقد عراقي.
" إنَّ الكلماتِ كانتْ سحرية في البدءِ، وتُعادُ إلى السحرِ على يدِ الشعراء" – بورخيس!
" سوفَ أبقى دائماً
أنتظرُ الوردَ الّذي..
يطلعُ من تحتِ الخراب" سعاد الصباح !
إذا كانت ولادة القصيدة، كما حالةِ الطَلقِ - والأنثى بينَ الحياة والموت - فهيَ ليست حالةً بيلوجيةً عاديةً، أو هي مجرّد تهذيبِ أو ترتيبِ مفاصلِ الجسدِ، أو جمع شظاياهُ.. وليستْ تجديدًا أوْ لحظة إحياءِ نسيجِ لحمِ الروحِ فحسب، فثورة القصيدة لدى الشاعرة الكبيرة د. سعاد الصباح هي بركانُ حريّة، بلْ حرية ُالحريّةِ، وتلكَ هي حقيقة الشعرِ، وشعرُ الحقيقة و" لا توجدُ حقيقة خارجَ الشعر" – كما يقولُ نزار قبّاني.. والحقيقة ومعادلُها الموضوعي objective correltive في وضوح الشمسُ فـ" الشمسُ تغنّي كدأبها مِنَ الأزل" – بتعبير "غوته" في "فاوست".. !
حقيقة أنْ ينبتَ الوردُ ويزهرُ ويهندسُ ألوانه، ويفيضُ بعطرهِ في ترابِ الخرابِ، وهو تناصٌّ interxtuality رائع أيضاً مع فقهِ الإنجيلِ في شذرتهِ الكونيّةِ: " وينبثقُ النورُ من الظلمات".. وشغبُ القصيدة مرهونٌ بالولادةِ الحياة، وهُما يُراوغانِ كلّ ما للموتِ من حيلٍ وخُططٍ خادعةٍ.
تلكَ هي الألوانُ الصاخبة الظلال، والفرشاة المشاغبة في " حوار الوردِ والبنادق" والتي تفضّلُ الشاعرة الكبيرة سعاد الصباح في رسمِ بورتريهٍ، يُشاهدُ ويُقرأ في آنٍ للذات المتشظيّةِ، أسيرةِ عشقٍ لوطنيينِ أزليينِ، مرئي "الأمّ" ولا مرئيّ " الوطن"، وللواقعِ المعيش أيضاً، وهي تراوغهُ بوليمةِ أحاسيسٍ، ثمرتهُا كلماتٌ بعدَ الكلماتِ، وخيالٌ بعدَ الخيالِ، لتبدو القصيدة المكتوبة والمنطوقة بصرية في آنٍ:
"كانَ التشابهُ بينَ أمّي الأولى، وأمّي الثانية
صارخاً..
فكثافة الحُبّ واحدةْ..
وحرارة اللمساتِ واحدةْ..
وتمتمة الصلوات واحدةْ..
والنجوم الّتي تضيء في عينيّ أمّي السوداوين،
كالنجومِ الّتي تضيءُ ليالي وطني
وصوتُ أمّي المائيّ،
يُشبهُ صوتَ المجاديف وهي تعبرُ في شراييني
إنّهُ مأزقٌ عاطفيٌّ كبيرٌ
حتّى إنَّ جميعَ الأطباء الّذين حلّلوا دمي
لمْ يجدوا فارقاً.. بينَ فصيلةِ دمي
وفصيلةِ دمِها..
أمّي الثانية.. هيَ الكويتُ" – ص 17.
• " الوطنُ هوَ المحلُ الهندسيّ للعقلِ الكُلّي، وللحريةِ العُليّا"- "تيري أجيلتن"!
والوطنُ بفقهِ القصيدةِ ليسَ أوراق ومستندات، ولا شهادة ميلادٍ أو جواز سفرٍ، هو " تشكيلة مركبة من الأشياء اللانهائية" – بتعبير "جوليان فوكس".. وهو هُوية حُبّ وعاطفة كونيّة، فاقت في أبجديتها كلّ مقّدسٍ في ميثيولجيات العالم، عاطفة لا سلطان عليها، وهي تأمرُ الروح والجسد بتأديةِ صلاةٍ، من وضوئها عطر مشاعر لا حصرَ لها، وقِبلتها واحدة لايُمكنُ تغييرها هي الوطن، " وحدة مصير كونيّة"، وهوَ في رحمهِ الدافيء المجازي ينافسُ، بلْ يطغى على نفحاتِ عطرِ وكهرباءِ نبضاتِ الرحمِ الحقيقيّ.. نوعٌ من العشقِ الإلهي الكونيّ وهو يتخذُ من جسدِ الشاعرةِ سكناً، بلْ ماكنة حياةٍ وولادةٍ دائبة في اللازمان.
والوطنُ بفقهِ قصيدة – سعاد الصباح.. كلمة ذاتُ كبرياء ..!! " لا تكُنْ بلا حُبّ، كيْ لا تشعرُ بأنّكَ ميّتٌ، مُتْ في الحُبِّ، وابقى حيّاً إلى الأبدْ" – جلال الدين الروميّ!
• الشعرُ والحُبُّ هُما كُلُّ المعاني.. !!
حسب "فاليري" فإنَّ: " الشعرَ كلماتٌ تُمارسُ الحُبَّ"..! وبفقهِ قصيدةِ الشاعرة الكبيرة سعاد الصباح، فإنَّ الحبَّ كما الكتابةِ لحظة انتزاع من المستحيل.. وكما الحلمِ يصعبُ تأجيلهُ، أو سجنهُ، براكين رؤى وأحلامٍ، كلماتٌ وقدْ تمرغتْ بمشاعر وأحاسيس لا حصرَ لها.. والحُبّ بكلّ سردياتِ المثيولوجياتِ الإنسانية هوَ كلُّ شيء، المنتصر الوحيد، ولا قوة تقوى على هزيمةِ جندهِ الملائكيين.
وحُبّ العراق هنا، عبرَ مخزون ذاكرة القصيدة والقلبِ معاً، ووفقَ ترمومتر مشاعر وأحاسيس الشاعرة الكبيرة، هوَ حُبُّ الأرض – الحضارة، والإنسان – الحالم، وقدْ استيقظ على صوتِ فجرٍ عربيّ نديّ، عابرٍ للحدودِ والنفوسِ، الإنسان الّذي توضأ بعبير الحريةِ، وهوَ يحرقُ كلّ خطى الطغيان وأوراق وأضابير الجبروتِ ونرجسية السلطان المقيتة، والسلطة مصدر الشرور– حسب "أوسكار وايلد".. وهو حُبّ التاريخ الذي وضعَ " حمورابي" قوانينه الإنسانية العادلة، والذي لم يستطع الرواة ُ مهما تعدّدوا وتذاكوا أنْ يفسّروا سحرَ قصصهِ وحكاياتهِ وأحداثهِ، وهو حُبٌّ مُؤرّخٌ في أول قصيدة حُبٍّ كتبها السومريّ " جلجامش" العظيم، وقدْ فاقتْ موسيقى قوافيها عطرَ عشبةِ الخلود التي بحثَ عنها، وتجاوزتْ عمقَ حزنهِ العظيم ِعلى صديقهِ " إنكيدو":
"أنا امرأة
قرّرت أنْ تٌحبَّ العراقْ
فمنذ الطفولةِ
كُنتُ أكحّلُ عينيّ بليلِ العراقْ
وكُنتُ أحنّي يديّ بطينِ العراقْ
وأتركُ شعريَ طويلاً
لِيُشبهُ نحلَ العراقْ
أنا امرأةٌ
لا تُشبهُ أيَّ امرأةْ
أنا البحرُ.. والشمسُ .. واللؤلؤةْ" – ص21.
والحُبُّ بفلسفةِ الشعرِ، وفقهِ الكلماتِ، وبكلّ ما في الخيال الواقع من جنوحٍ، ليسَ مشاعرَ طارئةً، تأتي هكذا في إيقاعٍ مشاغبٍ، لتزلزلَ جبالَ الروحِ؛ بلْ هو وجهة نظر في العالمِ.. في الحياة.. في الكون.. ومنطاد نجاة الإنسان الحالم، وتلك هيَ كيمياء قصيدة الشاعرة الكبيرة د. سعاد الصباح:
"مزاجي أنْ أتزوجَ يوماً
صهيلَ الخيولِ الجميلةْ
فكيفَ أقيمُ علاقة حُبٍّ
إذا لمْ تُعمّدُ بماءِ البطولةْ؟
زواجي جرى تحتَ ظلّ السيوفِ وضوءِ المشاعلْ
ومهري كانَ حصاناً، وخمسَ سنابلْ
وماذا تُريدُ النساءِ مِنَ الحُبّ إلاّ
قصيدة شعرٍ..
ووقفة عزٍّ..
وسيفاً يُقاتلْ؟"- ص24.
يقولُ أدونيس: " الكلمةُ في الشعرِ تعلو على ذاتِها، تزخرُ بأكثر مّما تعدُ بهِ، وأنْ تشيرَ إلى أكثر ما نقول"...!
وفي " حوار الوردِ والبنادق" والكلماتُ في إيقاعِها الحميميّ الانتمائي يتجسّدُ الوطن خارج كلّ خرائط الجغرافيا، وفرضيات القوانين، حُبّ الحُبّ بعيداً عن تعويذاتِ الوقتِ.. والحُبُّ وطنٌ أيضاً، وكلاهما حفرٌ على آنيةِ القلب، وكهرباء جسدٍ، وبينَ الوطن والحُبّ والشعرِ معادلات لانفعالات إنسانيّة، خلاصة رياضة الروح.. وحُبّ الوطن الأصغر – الكويت أولُ الحُبِّ، بلا آخر حتّى انتهاءِ الزمان:
"كويتُ .. كويتُ
إذا ما ذكرتُكِ أورقَ في شفتيّ الشجَرْ
فكيفَ سألغي شعوري
وحُبُّكِ مثلُ القضاءِ..
ومثلُ القَدرْ؟" - ص26.
في " حوار الوردِ والبنادق" القصيدة في إيقاعٍ نستولجي nostalagie جماليّ!! وأنَّ عبقرية هذا الجمال في الشعرِ معادلات رياضية، لانفعالاتٍ إنسانية – حسب "آزرا باوند"، نوعٌ من الكتابةِ الحفر " كتابة للمقاربة ، وللإنصات"، والشاعرة الكبيرة وهيَ مؤمنة بأنَّ الكتابة - والشعر على وجهِ الخصوص- سيكونُ لهُ معنى في الحياة، والكتابة هي الباقية " حتّى ونحنُ على أبواب القيامة" – كما يُعبّر "إمبرتو إيكو"..!
والقصيدة – تعويذة لدى سعاد الصباح بمهارةٍ عاليةٍ، لغة تتعدى الكلماتِ، صفوة اللغة ورحيقها، لحظة إحساس تعبيري جمالي إيحائي allusion. وحسب "هنري ميشوينك" " جرسُ ضوءٍ داخل اللغة".. في بوحٍ – عبقرية روحٍ في صلاة عشقٍ واجبةٍ وجائزة لأنْ تكون قِبلتها كلّ الاتجاهات . يقولُ "نيتشه":" أدين بفلسفتي لألمي"، وكأنّي بالشاعرة الكبيرة تعيدُ صوغ هذهِ العبارة إلى " أدين بشعري لألمي" لما عانتهُ نفسياً في الواقع العربي المعيش:
"أعطني سيفاً
وخُذْ منّي دواوين جميعِ الشعراءْ
أعطني عدلاً..
وخُذْ منّي تعاليمَ جميعِ الأدباءْ
أعطني الشعبَ..
وخُذْ تيجانَ كُلّ الحُلفاءْ"– ص32.
معادلات لانفعالاتٍ في أسلوبٍ سمةٍ ثابتةٍ نتاجُ " كلّ كلمةٍ وعبارةٍ وجملةٍ وفقرةٍ أنْ تنتظمَ في متوالية منطيقيّة" – حسب تنظير "روبرت لويس ستيفنسن" في " فنّ الكتابة".. هوَ الانتظامُ المثاليّ للكلماتِ بامتياز!!، ولكنّ هذهِ المرّة نتاجُ ذاكرة القلب التي لا تطالها رطوبة الوقت المهادن، والّتي لم تكشفُ عنها، وتحدّدُ ملامحَها إلاّ قوافي القصيدة التي تمرّدت على حبرِها، وحروفِها، وأوازانِها، لتضحي صوتاً، إيقاعاً متفرداً، أوركسترا شعرية كونيّة:
"أعطني شبراً مِنَ الأرضِ يُسمّى وطناً
ما بهِ مشنقةٌ.. أوْ مخبرونْ
أعطني شبراً مِنَ الأرضِ يُسمّى وطناً
لا تُغطّيه المنافي والسجونْ
وصلَ السيفُ إلى الحلقِ..
ومازالَ لديْنا شعراءُ يكتبونْ
وصلَ السُّلُ إلى العظمِ..
ومازالَ لديْنا شعراءُ يكذبونْ
ويقولونَ على الأوراقِ.. ما لايفعلونْ" – ص35.
• " حوار الوردِ والبنادق" .. والقصيدة تعويذة ..!!
والشاعرةُ في ثوبِ كاهنٍ مهمتهُ القصوى: " أنَّهُ يخدمُ إلهاً هوَ الحقيقة والجمال" – حسب تعبير ميخائيل نُعيمة ..!! والشعرُ تفجيرٌ لا يقتصرُ على اللغةِ، وهندسةِ الكلماتِ، ولحظة تماثل semmetria بينَ الألفاظِ والمعاني وحسب، وهوَ يؤاخي بينها على جمرِ المشاعر.. ليسَ تجديداً زُخرفياً بإيقاعٍ باهتٍ، بلْ رؤى – إيقاعات بركانيّة ضدّ الجمود والتكرار والرتابة والخيانة.. والشاعرُ – الرائي سارقُ النار " بروميثيوس" العصر، لمْ يعُد قناة تصدّرُ الكلماتِ والرؤى والأحلام الخُلبيّة؛ بلْ سيف لبريقهِ رهبة سكينة الأنبياءِ والقدّيسن، المبشرين بالغدِ والأملِ والحُريّةِ، جوهر العيش الرغيد، وسرُّ العالمِ يكمنُ في أعماق القصائدِ:
"أيُّها السادةُ
ماذا يفعلُ الشعرُ هُنا
بينَ ريحانِ البساتين.. وريحانِ الخُدودْ؟
ما الذي ينشدهُ الشاعرُ
في عصرِ الخياناتِ وفي عصرِ الجحودْ؟
فصديقٌ فضّلَ الغربُ عليْنا
وصديقٌ فضّلَ السكنى بحاراتِ اليهودْ
أتُرى نحنُ نُغنّي عصرَنا،
أمْ نُغنّي عصرَ عادٍ وثمودْ؟" - ص48.
ومعَ الشاعرةِ الكبيرةِ د. سعاد الصباح لا تبدو القصيدة غير ألمٍ فيزيائي، ومعدلات الانفعالات نفسية بحقّ، لوْ عادَ " فيثاغروس" وعباقرة الرياضة والحاسوب والذكاء الصناعي، لما استطاعوا أنْ يأتوا برمزٍ واحدٍ من رموزها، وقدْ أضحت بفعل الإيحاء التعبيري والإثارة excitation والجمال، واللعب الفنّي الغريزي – الّذي هدفهُ الوصول إلى غاية الجمال والحُريّة - واقعاً مستفِزاً في شغبٍ ضروريّ مُحبّب، مستفيدة من تقنية السرد narrative وما فاضت بهِ قرائح الساردين من خيالٍ منتجٍ، ليُقرأ الواقع المعيش سريالياً وخليطُاً بديعاً من الواقع الخيال، والخيال الواقع، والقصيدة منتمية ومحرضة في آن:
"أيُّها الشعرُ الّذي
يُحرقُ بالكبريتِ أشجارَ السّماءْ
يا الّذي يأكلُ من قلبي صباحاً ومساءْ
يا الّذي يحفُرني حتّى العياءْ
كيفَ ترضى موقفَ الذُّلِ؟
أليسَ الشعرُ ابنَ الكبرياءْ؟
*****
أعطني صوتَ الأعاصيرِ
وخُذْ منّي غناءِ العندليبْ
أعطني الجُرحَ الّذي
يُزهرُ في معركةِ الحقِّ
وخُذْ ثغرَ الحبيبْ "– ص51.
في " حوار الوردِ والبنادق" الشعرُ لغةٌ داخل لغةٍ، كيمياءُ كلماتٍ وهي تعلو على ذاتِها، ولدى الشاعرة الكبيرة لحظة حرثٍ مضنٍ في تربةِ الحلم، حيث اللغة – بلاغة بيضاء، يتجاوزُ فيها الشعرُ براكين الأحاسيس إلى لغة – صمت اللسان، تفوقُ ما يدعونهُ جرس الكلام والقوافي، وللصمتِ نوته، في القصيدة حرفٌ صوتي، ولدى الشاعرةِ الكبيرة سعاد الصباح حرفٌ صوتي ساحر، في إيقاعٍ تأمّلي حُلمي، مبتهج أحياناً، وحسب سِفر الخروج من التوراة: " يرى كُلّ الناس الأصوات" ، ويجد القراء في قصائدِ الشاعرة الكبيرة سِفراً شائقاً، سحر لغةٍ شعريةٍ ممتدٍّ إلى اللازمان.. يصبحُ الصمتُ موسيقى، حيث ينطقُ الجمادُ، وتُزّودُ المخلوقات وحتى ظواهر الطبيعة بعقولٍ وذاكرات، صارتْ للخيول أرواح، ومشاعر، ووجهات نظر، ورُبّما هي الأخرى تتقيّأ همومَ الواقع العربي المعيش، وهي تفيضُ دمعاً لؤلؤياً.
في " حوار الوردِ والبنادق" القصيدة لحظةُ تجلٍّ بطقوسِ الصلاة، وللكلماتِ هيبةٌ ووقار وهي تتبارى بحماسٍ وحُبٍّ على أصابع الشاعرة الكبيرة، أو وهي تلدُ كلماتٍ على حرارةِ قريحتها، وتبدو للقاريء القصيدة تكتبُ نفسّها بنفسِها في تناغمٍ، وفي لغةٍ شعريةٍ متفردةٍ، لا تُنسبُ إلاّ لها، وهي في طربِ روحٍ وانتشاء جسدٍ وكأنّها تتذوقُ الكلماتِ على لسانِها:
"افتحوا القلبَ للحصانِ العربيّ
فللخيلِ أدمعٌ .. ومشاعرْ
أطعموهُ قمحاً، ولوزاً، وتيناً
واتركوهُ ينامُ بينَ المحاجرْ
هوَ ذا يحرقُ المسافة شوقاً
فعلى الشمسِ حافرٌ من شموخٍ
وعلى جبهةِ الكواكبِ حافرْ" – ص55.
مع الشاعرة الكبيرة د. سعاد الصباح، القاريء لا يبحث عن الشعر – البلاغة البيضاء وحسب؛ بلْ البحث عن الحياةِ المكونةِ من الشعرِ، أوركسترا مشاعر وأحاسيس، وهذا ينهي سلطة الكلام المزخرفةِ حروفهُ بالخوف والنفاق والخيانة، يسقط دعاتهُ من أجندة الوقت والتاريخ والحياة، وينتصرُ للشعرِ- لغة اللغة، وهوَ يولدُ على أصابع الشاعرة الكبيرة سيوفاً ورماحاً ورصاصاً ذكياً لا يخطيء هدفَهُ الأسمى، حيث تنتهي كُلّ سلطةٍ طارئةٍ زخرفيةٍ خادعةٍ وشاحبةٍ للكلام، ويصبحُ للصمت حرارة وصوت وفعل البراكين:
"وامنحونا الصَّمتَ الجميلَ قليلاً
واستردوا أسماءَكم والضمائرْ
لا تُريدُ الخيولُ صرفاً ونحواً
تكرهُ الخيولُ ثرثراتِ المنابرْ
لا مكانَ هُنا للزاحفينَ على البطنِ
نفاقاً والحاملينَ المباخرْ
أصبحَ الشعرُ بينَ أيدي المماليكِ
ومحظيةً لكلّ القياصرْ"- ص56.
• " حوار الوردِ والبنادق" القصيدة تعويذة.. والشاعرة قدّيسة..!
والقوافي الّتي يلونُ فسفورُ حروفِها أصابع الشاعرة في شغبٍ مُحبّبٍ، ولعبةِ كلماتٍ غريزية، تأسيساً للخراب الضروريّ الّذي قدحَ جمرَ أبجديته شاعرُ الحداثةِ الكبير "آرتور رامبو" المغامر الّذي انتعلَ الريحَ، ساعيةً لا لتغيير الواقع المعيش، بلْ تغيير العيون الّتي تراه.. تُقرأ القصيدة أيضاً شعوذة ضروريّة ليلكية َالإيقاعِ.. والشاعرة صوتُ الأنثى هدير الوجود – حسب تعبير "لوران غسبار"، والكلماتُ النيزيكية لديها مواقف، سلطة أزليّة، عندها يسقطُ الفرق تماماً بينَ جمالِ العيون، وسحر قعقعةِ السلاح، عبرَ لعبٍ فنّي غريزي في " لغةٍ غريزيةٍ نابعةٍ من الأحشاءِ، لغة ملتحمة بحميمنا السريّ، الشيء الّذي هو أقربُ مايكونُ لنا" – حسب تنظير السيميائي "رولان بارت":
"سلامٌ عليكنَّ .. يا سيداتِ الندى والسّماحْ
سلامٌ على شجرِ الرازقيّ
وميسِ العباءاتِ عندَ الصّباحْ
سلامٌ عليكنَّ في كُلّ وقتٍ
فقدْ سقطَ الفرقُ بينَ جمالِ العيونِ
وبينَ جمالِ السلاحْ" – ص71.
هذا النصّ الشعري السحري الخُرافيّ، وكيمياء قوافيه سحرُ صوت الأنثى – الشكل الأسمى للوجود – برؤى فيلسوفنا ابن عربي، وهي الشكل الأمثل للحياة والكون شعرياً أيضاً.. فهلْ قالَ "سقراط" عبارته " فتّش عن المرأة" مصادفةً.. أبداً !! فالعالمُ يبدو مختلاً إذا ما فقدَ كهرباءَ أنوثتهِ، والمكانُ والكونُ والعالم إذا لم يؤنثوا لا يُعوّلُ عليهم:
"سلامٌ عليكنَّ.. أيّتها الواقفات
كأشجارِ وردٍ بوجهِ الرزايا
سلامٌ عليكُنَّ.. أيّتها الضاحكات
أمامَ حصارِ المنايا
سلامٌ عليكُنَّ..
يا حارسات مداخل هذا الوطنْ
يا بائعات أساورهنَّ
ليسلمِ هذا الوطنْ
ويا فاتحات ضفائرهنَّ الطويلة
حتّى ينامَ الوطنْ" – 74.
ومن "جسدِ المرأةِ يتدفقٌ تيارُ الحياة" يقول "ج.م. كوتسي"..!! وللحياةِ والوجود في إيقاعهما الأنثوي كيمياءُ أخرى، حينَ تزهرُ الوردة وتتفتحُ على صدر أنثى، والسيفُ أعمق بريقاً في كفِّ أنثى، والحياة والوجود أكثر ابتساماً وهدوءاً وأماناً على صوتِ طلق الأنثى.. وإذا ما بدا الزمنُ العربيّ مختلاً أو فاقداً للمكملِ الغذائي من الكبرياء والشموخ، لحظتها تحزنُ الأرضُ، ويجمعُ الوطنُ أوراقهُ، حينَ يتمّ اغتيال الطفولة في " غزة" وفي اللامكان من الوطن، فإنَّ السيف أجملُ ما تتزينُ وتتجملُ بهِ النساءُ، وقافية التمرّد وحدها ما يليق بقوافي القصيدة:
"سلامٌ عليكُنَّ في ورشةِ الشغلِ
إنَّ الحمائمَ أيضاً تجيدُ البناءْ
فعندَ الكرامِ مكانٌ لكُلّ النساءْ
ومَنْ قالَ إنَّ الحروبَ تُخيفُ الظباءْ؟
سلامٌ على السيفِ في كفِّ أنثى
وقدْ يُصبحُ السيفُ أجملَ
ما تتجمّلُ فيهِ النساءْ
*****
سلامٌ عيلكّنَّ في زمنٍ عربيٍّ
يُريدون فيهِ اغتيالَ الخيولْ
وقتلَ الصهيلْ..
سلامٌ عليكُنّ في زمنٍ عربيٍّ
تُدافعُ في الحجارةُ عن نفسِها
وتّذبحُ فيهِ الطفولة في غزّةَ، والخليلْ
سلامٌ عليكُنَّ في زمنٍ عربيٍّ
تنكرَ فيهِ الشقيقُ
وقلَّ الوفاءُ، وغابَ الأصيلُ.. الأصيلْ" – ص76.
*حوار الورد والبنادق – شعر – سعاد الصباح – الطبعة الثانية والعشرون 2022
دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع/ الكويت .