عبد الهادي شعلان
قاص مصري
المرأة العجوز الطيبة كريشة، تحب البستان وترتدي الأبيض الناصع المخلوط بزهور سماوية، تجلس على المقعد الأخضر بلون الزرع الطازج وتتحدث للطيور الزرقاء التي تعرف المرأة العجوز وتقف على زهور فستانها، تلتقط الحَبّ من قلب يدها ولا تطير حتى تقف العجوز وترحل.
حين أرادت الخروج من البستان وجدت زهرة بيضاء عالقة في ملابسها فابتسمت للعصفور الذي اقتطفها من الشجرة وأحضرها إليها، رفرف العصفور وضحك مشيراً بجناحيه أنَّه في انتظارها في الغد، تلفَّتت يميناً ويساراً تبحث عن ابنها ليوصلها للبيت فتذكرت أنَّها أتت بمفردها فقبضت على المفتاح المُعَلَّق في صدرها ولم تبتسم، ويدها الأخرى تمسك ورقة تضغط عليها بكل أعصابها الضعيفة وراحت تعتصرها لتستخرج منها شيئاً وتلفَّتت مرة أخرى.
خَطَتْ خطوات ضعيفة خارج البستان وحركة قدميها تشبه الخواء والهشاشة، لكنَّها تماسكت وانتقلت للميدان المفتوح على أكثر من شارع، تسمَّرت في منتصف دائرة الميدان وشمَّت الوردة البيضاء التي منحها لها العصفور واستردَّت كيانها، وأرادت أن تُنْبِت لها الحياة جناحين فتطير الآن لبيتها وتسكن كما العصافير في العش، زادت حيرتها من رؤية الشوارع المتعددة فقررت أن تذهب حيث يدفعها قلبها لأي الطرق، وأنَّه وَجَبَ عليها الآن أن تسير حيث تقودها روحها وعيونها مغلقة؛ فأغلقت عينيها وسارت بقلب مفتوح ورح صاحية وهشاشة وصلت لجفون عينيها.
لم تسمع مناغاة عصفور رقيق، وصرخ في أذنيها صوت سيارة ففتحت عينيها ونزل من السيارة رجل طيب، وقبل أن يعاتبها نظر في نور وجهها وشاهد روح النور تنطلق منها وشم رائحة وردة نادرة؛ فابتسم لها وقال: "أين ستذهبين يا أمي؟" نظرت في قلبه وكان قلبه قلب ابن فقالت: "أنا ذاهبة لبيتي" وشدَّت على المفتاح المعلَّق في عنقها الشفاف ففهم أنَّه مفتاح بيتها، فتح باب السيارة وقال: "يمكنني أن أوصلك لأي مكان تريدينه، أنت كأمّي" لا تعرف لماذا أحَبَّت قلب هذا الرجل وتمنَّت أن يكون ابنها فضغطت على روحها بقوّة وفتحت يدها اليسرى فظهرت ورقة أعطتها له وهمست: "إنَّه عنوان بيتي، كتبه ابني حتى إذا ضعت في الطريق يمكنني أن أعود."
أخذ منها الورقة، ونظر فيها وتحدَّرت من قلب عينيه دمعه، مسحت على يديه وأخذت منه الورقة ونظرت في عمقها فرأتها بيضاء كالحليب وبقع الحبر سائلة كزهور سماوية متطابقة تماماً مع زهور فستانها الأبيض السماوي، تبسَّمت وقالت: "زهور جميلة" كاد الرجل أن ينحني من شيء انكسر داخله وأراد أن يربت على ظهرها، وأن يأخذها معه فقالت والابتسامة ما تزال تنير ضياء وجهها "لقد تذكرت العنوان، يمكنك أن ترحل يا ولدي" فركب الرجل الطيب سيارته وظلَّ يلتفت إليها حتى غاب.
وجدت نفسها في قلب الميدان، فتحركت بهدوء والورقة في يدها تنظر لها وتضعها بجانب الفستان وتحاول أن تتذكر من رسم هذه الزهور السماوية على الورقة والفستان؟! تحركت بهشاشتها ورِقَتها وضوئها ونورها وفستانها السماوي، ودخلت البستان وقبضت على المفتاح برجفة تشبه الرجفة التي كتب بها ابنها العنوان، وأخرجتْ من جيبها الحَبّ، وجلست على المقعد الأخضر بلون الزرع الطازج وتجمَّعت حولها العصافير الزرقاء.