حسين نشوان
كاتب وفنان تشكيلي أردني
تكمن أهميّة هذا الكتاب في جدّة الطرح واجتراح المنهج الشمولي الذي يقارب المصطلح علميًّا بوضع الشَّرق في دائرة المعرفة وليس الجغرافيا، وكذلك في النتائج التي وصلت إليها الدراسة عن الطاقة التي تحوزها بلاغة المجاز في مضارعة صورة الكون من حيث الحركة التي كشفها العلم الحديث "اتساع/ تمدُّد"، وتكشف عن وجه آخر للشعر العربي والتراث الأدبي العربي، غير ذلك الوجه الذي قدَّمه به كثير من مؤرِّخي الأدب العربي ودارسيه من العرب والمستشرقين.
يتتبَّع الباحث الأكاديمي البوسني "أسعد دوراكوفيتش" في كتابه "من الاستشراق إلى علم الشرق" التسلسل التاريخي لمنهج النقاد العرب في دراسة العلاقة بين الشعر والقرآن بالمقارنة مع قراءات المستشرقين في دراسة الأدب العربي.
ويمايز المؤلف في كتابه بين ديناميّات تطوُّر النص من الوصف والتشبيه المجاز، التي أثرّت في أبنية الخطاب لحظة التأسيس، وقامت على القراءة من الداخل، بخلاف القراءة الوضعيّة ومناهجها الاستشراقيّة التي قرأت النص بمقاربات تتَّصل بتاريخ الأدب الغربي.
يتَّفق المؤلف "دوراكوفيتش" مع إدوارد سعيد في نأيِه عن مفهوم "الاستشراق والدراسات الشرقيّة" لقناعته أنَّ المصطلح لا يخلو من -تلوُّث أيديولوجي- وتضليل، لافتًا إلى أنَّ اختياره لمصطلح "علم الشرق" منهجًا، يؤسِّس لمبحث علمي في دراسة الأدب العربي بصورة عضويّة منطلقًا من داخل الأدب نفسه، ساعيًا لفهم كلّي للثقافة العربية وينابيعها والمؤثرات الأصيلة فيها، من خلال "قراءة النص بالنص"، فضلًا عن أنَّ ذهابه لهذا المصطلح "علم الشرق"، يبعده عن شراك المركزية الأوروبية ونزعاتها التصنيفية لإنتاج المعرفة على أسس جغرافية.
يدرس الكتاب -الذي يقع في ستة فصول- عمق العلاقة بين القرآن والشعر كمؤثث لثقافة العقل العربي، انطلاقًا من أنَّ القرآن لم يأتِ مصدرًا للدين حسب، بل "معجزة الكلمة" وله تأثير على الأدب وجماليّات اللغة.
إنَّ مواجهة القرآن مع الشعر تجسَّدت -بحسب المؤلف- في "الأيديولوجيا والشكل"، الذي أسهم في نضوج الشعرية التي حوَّلت الشعر إلى حقل أدبي قابل للانتشار والتفاعل والتأثر والتأثير في الأدب العالمي، ويرى أستاذ الأدب الأندلسي د.صلاح جرار الذي راجع الكتاب وخط تقديمًا له: أنَّ الكتاب "يُعدُّ اختراقًا علميًّا متميزًا وفريدًا في مجال دراسات التراث العربي".
• منظومة جماليّة
يقول المؤلف في كتابه الصادر عن دار الآن ناشرون في عمّان بالتعاون مع معهد الدراسات الشرقية في بريتشينا/ سراييفو: إنَّ "البحث والدراسة للأدب العربي خلال ثلاثة عقود قاده إلى استنتاج مفاده أنَّ الأدب العربي القديم هو منظومة مرتبطة بشكل ملحوظ بالمصطلحات الشعريّة، أي أنه يمتلك تفرُّده الخاص به"(ص18)، وهو يمثل (منظومة جماليّة أصيلة).
والكتاب بشكل عام -بحسب المؤلف- يقدم "تفسيرًا متسقًا للمسلَّمات الشعرية المتأصلة للقرآن من جهة، ولمسلَّمات الشعر من جهة أخرى، بالإضافة إلى تفسير العلاقات الضمنيّة بينهما في التراث نفسه"(ص20).
ولا يقتصر تأثير الشعريّة العربيّة التي أسَّست للثقافة العربيّة وآدابها على حقبة معيَّنة أو مكان معيَّن، بل امتدَّ من الجزيرة العربيّة منذ نشَأت القصيدة –الجاهليّة- إلى اللغات الشرقية والإسلامية.
• شعريّة الأرابيسك
يَجمَع المؤلف في الكتاب الذي يقع في 394 صفحة من القطع الكبير بين المنهج التحليلي والتطبيقي المقارن، مازجًا بين مفاهيم الفن والعمارة والمدارس النقدية القديمة والحديثة لفهم وتفسير الشروط الثقافية والاجتماعية التي أنتجت الظاهرة، مؤيِّدًا رأيه بعشرات المراجع والمصادر المعرفيّة في اللغة والتاريخ والأدب باللغة العربية واللغات الأجنبية.
ويتجاوز صاحب كتاب "نظرية الإبداع المهجرية في النقد الأدبي"، في دراسته للظاهرة الشعرية التحقيبات التي تتوقف عند خصائص الأدب العربي في العصور الأموية أو العباسية...، ليحفر في عمق الظاهرة الفنية، لافتًا إلى أنَّ ما يميِّز الثقافة العربية، شعريّة الأرابيسك (الزخرفيّة)، التي تتَّسم بتشابكاتها وتضافرها وطباقيّاتها وجناسها وانسجامها، كما تمتاز بملء الفراغ وجماليّات التكرار، وهي "شعريّة معياريّة" أسَّست لنموذج الإبداع الذي سار عبر الحقب بنمط التاريخ الدائري/ الشاقولي/ الزنبركي/ المتصاعد وليس المتقطِّع، الذي منح الأدب والفكر والثقافة العربيّة تاريخيًّا سمة "السيادة على الفضاء"، وجعل النص "مجرّة من الدلالات أكثر ممّا هو بنية من المدلولات" ومكَّن من تطوير وعي مختلف للزَّمن يفارق التاريخ المسيحي واليهودي، ومن هنا فالمؤلف لم يأنس في دراسته للتحقيب المتقطِّع، كما لم يتمثل الأدب الغربي الذي يسير بخط مستقيم.
• من الشعريّة الاستقرائيّة إلى الاستدلاليّة
في هذا الكتاب الذي ترجمه للعربية عدنان حسن، وراجعه د. صلاح جرار، يدرس المؤلف الكثير من الظواهر والقضايا الأدبية والثقافية التي تتصل بالشعرية والمجاز والتشبيه، ومنها الاستدلالية في القرآن الكريم، وتجاوز النص القرآني للتراث، ونضوج الشعرية ما بعد القرآنية.
كما يدرس الأدب العربي من زوايا الأسلوبية والموتيفات والتناص والفضاء النصي، ويخلص إلى أنَّ الأدب العربي بدأ مع الأدب الجاهلي، وأنَّ هذا العصر أثَّر على الأدب العربي لاحقًا، وأنَّ القرآن الكريم نقل الشعرية العربية من "الشعرية الاستقرائية إلى الشعرية الاستدلالية" ومن التشبيه الحسّي الواقعي إلى المجاز بما هو فضاء ومتخيّل لا حسّي.
ويقول المؤلف الذي ترجم معاني القرآن الكريم إلى اللغة البوسنية، وترجم العديد من الكتب والدراسات المتعلقة بالأدب والثقافة العربية، ومنها "ألف ليلة وليلة"، و"المعلقات": إنَّ المجاز لعب دورًا مهمًّا في تغيير واقع العالم أو العالم الواقعي من خلال إعجاز اللغة، و"تغير العالم كليًّا بسبب المجاز الذي حوّله مبرهنًا بأسلوب متوهج لا يمكن توقعه، يعتمد فيه الواقع على اللغة، أو على ما تبتدعه اللغة.. ولعبت اللغة في تثوير العالم"(ص188).
إنَّ هذه الدراسة بشموليتها لا تمثل مبحثا في دراسة تاريخ الأدب العربي حسب، بل تتَّسع لتشكِّل قراءة في العقل العربي ومحيطه ووجوده المرئي/ الواقعي واللامرئي/ الميتافيزيقي، وقد ألقت تلك الظاهرة بظلالها على مجمل الحياة العربية. حيث حقق القرآن من خلال المجاز مفهومًا جديدًا لفهم العربي للكون والوجود، من خلال "انقلاب تاريخي نَقَلَ رؤية العالم الوثنيّة الجاهليّة من بساطتها القديمة وشفافيّتها وكمالها إلى صفة مختلفة اختلافًا جوهريًا، وإلى وعي وإيمان بنقص العالم وزائليّته"(ص226).
• الحريّة شرط الإبداع
يؤكد المؤلف -وهو عضو أكاديمية البوسنة للعلوم والفنون، وعضو في مجامع اللغة العربية في عمّان والقاهرة ودمشق- أنَّ القرآن الكريم لم يواجه الشعر على مستوى الشكل والأمثلة الأسلوبية، بل "مثّل منظومة واحدة أثرت على مدى قرون من خلال إعجازه"، وأنَّ القرآن وإنْ كان خالف الشعر (أيديولوجيًّا)، إلا أنه أتاح نموّ "تشكيلة واسعة من أشكال الثقافة وليس فقط الأدب"(ص94)، وجعلها أكثر غنى وتنوُّعًا ممّا كانت من قبل، بإعادة توجيهها، ويرى أنَّ "من الخطأ أن نعتقد أنَّ النص القرآني يقوم على تحريم الشعر عمومًا، مثلما من الخطأ تفسير الإعجاز بوصفه عاملًا محدّدًا بشكل نهائي في تطوُّر الأشكال"(ص115).
ويذهب صاحب كتاب "الشرق الأوسط: تهديم كل ما بُني بشكل ملحمي"، إلى تأثير القرآن في الغنائيّة الشعريّة والروحانيّة، والأهم من ذلك أنَّ "الكون الذي خلقه النص القرآني آخذ في الاتساع باستمرار، وإنَّ معنى الشمولية يتم إغناؤه بشكل مستمر.. وهو ما قدَّم المسوّغات للشعر أن ينضج متحوّلًا إلى (أدب) من حيث تعدديّة الأجناس وتفرُّع الأشكال"(ص335)، والذي أتاح للثقافة العربية وآدابها استيعاء الأشكال الأدبية الجديدة –التقنية- إلى الأدب العربي، ومنها الدراما، الشعر الحر، وقصيدة النثر والرواية، لأنَّ الحرية التي منحها النص المقدّس من المرجّح أنها كانت بلا حدود، لأنها -الحرية وليس الأيديولوجيا- هي شرط مسبق للإبداع الفني الأصيل"(ص335).
إنَّ أهمية الكتاب تكمن في جدّة الطرح واجتراح المنهج الشمولي الذي يقارب المصطلح علميًّا بوضع الشرق في دائرة المعرفة وليس الجغرافيا، وكذلك في النتائج التي وصلت إليها الدراسة في الطاقة التي تحوزها بلاغة المجاز في مضارعة صورة الكون في الحركة التي كشفها العلم الحديث "اتساع/ تمدد" التي "تشكل النظرية الحديثة لبنية الكون وتاريخه"، وتكشف عن وجه آخر للشعر العربي والتراث الأدبي العربي، غير ذلك الوجه الذي قدّمه به كثير من مؤرخي الأدب العربي ودارسيه من العرب والمستشرقين.