نور طلال نصرة
كاتبة سوريّة
أحالَ الإنسان الأوَّل هواجسه إلى قصص مصوَّرة، نافذًا إلى ذاته التي كان يجهلها في ذلك الوقت، معبّرًا عن مدركاته غير المحسوسة بشطح خيالي، كان رفيقًا مخلصًا له في تعثُّره. إنّها القوّة الخفيّة والنزعة الأولى التي تملَّكتْ الإنسان وجعلته يخرج من كهفه، تلك الرّغبة في الطيران والنّجاة جعلته يحلّق بمَلَكة الخيال ويشطح بعيدًا في نزهات العقل، فخرَجَ بصور وأفكار دأبت تحفر بمعول الخلاص وبإزميل الإبداع.
لاذَ الإنسان الأوَّل إلى كهفه حاملًا ورطته "عجزه"، واضعًا رأسه بين ركبتيه، لكن ما لبث أن أغمض عينيه حتى هرع إلى أقرب حائط، راسمًا ما تراءى له في مخيّلته، تلك الصورة التي كانت بذرة نيّئة في رحم الإبداع الإنساني قبل أن يتكلم ويعبِّر عمّا يعتريه من مخاوف وما يطرق مخيّلته من أسئلة. إنّه الإنسان القديم "المُبكر" الذي أحال هواجسه إلى قصص مصوَّرة، نافذًا إلى ذاته التي كان يجهلها في ذلك الوقت، معبّرًا عن مدركاته غير المحسوسة بشطح خيالي، كان له رفيقًا مخلصًا في تعثُّره.
لم تكن الطفلة "ماريا" التي خرجت عام 1879 بصحبة والدها في مغامرة صغيرة لاستكشاف كهف قريب من منزلهما الكائن جنوب إسبانيا تدرك أنّه بصرختها تلك التي أطلقتها في ذلك النهار من داخل كهوف "ألتميرا" إنَّما كشفت عن معرض للوحات يعود تاريخها إلى نحو خمسة عشر ألف عام.
"بابا.. انظر هناك رسومات من الثيران"، قالت لوالدها "مارسيلينوسانزو دي ساوتولا" الذي كان هاويًا لاقتناء الآثار والتنقيب عنها، إلّا أنَّ ما رأته لم يكن ثورًا كالذي نعرفه، بل نوع من الثيران الأوروبية التي انقرضت وتسمى "الأورُخص"، وهذا ما يدحض الاتهامات والسخرية التي لقيها "دي ساوتولا" على أنه استأجر مصوّرًا ليرسم هذه اللوحات.
إنّها القوّة الخفيّة والنزعة الأولى التي تملَّكتْ الإنسان وجعلته يخرج من كهفه، تلك الرغبة في الطيران والنجاة جعلته يحلّق بمَلَكة الخيال ويشطح بعيدًا في نزهات العقل فخرَجَ بصور وأفكار دأبت تحفر بمعول الخلاص وبإزميل الإبداع.
تضاربت آراء الفلاسفة حول تعريف الخيال، فذهب أرسطو إلى أنَّ الخيال حركة يسببها الاحساس، إلاّ أنه نفى جسمانية الحس واشترط اجتماع الخيال والإحساس لحدوث "التصوّر" لكنَّ الخيال والتصوُّر ليسا متطابقين، حيث إنَّ الإحساس هو ركيزة التصوُّر الذي يقوم في وعي الإنسان بحركة دينامية متصاعدة إلى أن تستقر كشكل من أشكال الإدراك العقلي. ويتفق هنا مع "غاستون باشلار" الذي يقول في كتابه (الهواء والأحلام، مقال حول خيال الحركة) إنَّ: "علم نفس الخيال لا يمكن أن يتطوّر باستخدام أشكال وصور سكونية جامدة، بل يجب أن يقوم على أشكال تكون في حالة تحوُّل دائم". فالحركة واللامحدودية لعقل الإنسان جعلا من الخيال بساط ريح إلى أبعد من حدود النظر. وإن كانت شطحات الخيال تتجاوز المنطق والعقل في قصص الميثولوجيا إلّا أنَّ الخيال لا يتعارض مع العقل حيث اعتبر أفلاطون أنّ التخيُّل من وظائف العقل، كما أدرج " ديفيد هيوم" الخيال ضمن الأفكار المركّبة والتي هي أفكار مستقاة من الواقع الحسّي، حيث إنَّ أي فكرة خياليّة هي عبارة عن نشاط عقلي ضمن معطيات واقعيّة. فالخيال تعريفًا كما جاء في لسان العرب: خالَ الشيءَ يَخالُ خَيْلًا وخِيلة وخَيْلة وخالًا وخِيَلًا وخَيَلانًا ومَخالة ومَخِيلة وخَيْلُولة ظَنَّه. والخيال كما عرّفه "آرثر ثريبر" هو "عبارة عن نشاط يقوم به الإنسان بكل إبداع، وقد يكون مبنيًّا على أساس رغبات الإنسان أو الواقع الذي يعيشه أو قصص مستقبليّة".
إنَّ التخيُّل في اللغة اليونانية -بحسب خروسبس الرواقي- مشتق من كلمة "الضياء" وكأنه يروم بذلك لإضفاء طابع باثولوجيّ على التخيّل، حيث إنَّ الضياء شكل من أشكال السراب الذي لا يمكن الإمساك به أو التقاطه، متجاهلًا الضياء بالمعنى المغناطيسي الإبداعي الذي يجذب الفكر إلى سطوة الضوء الساطع حيث يغمض الإنسان عينيه على وقعه فيحمله الضياء على التخيّل الذي يحلّق به بعيدًا.
وربما كان "أوغسطين" هو أوّل مَن استخدم الكلمة اللاتينية imagination)) على أنها تعادل كلمة "تخيُّل" Phantasia)) الإغريقية. ويقول "آينشتاين" إنَّ التخيُّل أهم من المعرفة. ويرى "ستانسلافيسكي" أنَّ "الخيال يخلق الاشياء التي يمكن أن توجد ويمكن أن تحدث، بينما يخلق التخيُّل الأشياء التي لا وجود لها والتي لم يسبق لها أن وجدت والتي لن توجد أبدًا". فالصور التي يتخيّلها الإنسان وتتدفّق في ذهنه تتشكّل في جزء من المخ وهو جزء مسؤول عن العواطف والانفعالات يدعى الجهاز الجوفي، لكن إدراك الصورة يتم في المستوى الأعلى من المخ ويعرف بالقشرة وهو الجزء المختص بالذاكرة والتفسير والتبرير. فالحاجة إلى التفسيرات هي مَن دفعت بهذه الصور لتتلاحق تباعًا؛ حاجة الإنسان لقوة عظمى ينسب لها تفسيراته أمام غموض الطبيعة. فقد كان البابليون يفسرون المطر على أنه وساطة من الطير العملاق "إمدوغود" الذي كسا السماء بما في جناحيه من سحب الزوابع السوداء والتهم ثور السماء الذي كان قد أحرق الزرع بأنفاسه الملتهبة.
إنَّ شعور الإنسان بالانتماء العميق للطبيعة منذ وعيه الأول دفعه للانخراط أكثر في تجميع المدركات من حوله ليتجسّد خلاصه بلغة يقارع بها المنطق ومدلولاته في وجه الغموض الذي استفزّه ليوصله إلى حالة الشخص المتكلّم، فكانت الأساطير ردهة احتمى بها الإنسان ليخرج سالمًا من شكوكه. يقول "كلود ليفي ستروس" ( شتراوس) في كتابه (البنيوية الأنثروبولوجية): "الأسطورة لغة يتم تنشيطها عند مستوى مرتفع بشكل خاص وتتابع فيه المعاني بشكل يجعل الخلفية اللغوية لها في حالة حركة دائمًا". ويقول الشاعر الفرنسي "باترسدولاتوردوبان": "إنَّ الشعب الذي لا أساطير له يموت من البرد". وبهذا ينفذ الخيال إلى المجال الإبداعي بوصفه مكانًا متاحًا لحرية الخيال، "فاللغة هي بُعد من أبعاد الخيال" كما يقول "ريكور"، كما أنه يميل لوصفها بأنها الوظيفة الإنتاجية له ويستدلّ على ذلك بالصور والاستعارات الشعرية، فالصور الشعرية لا تتحقق دون الخيال "وكل استعارة هي أسطورة مصغَّرة" كما يقول "باشلار".
الأدب الخيالي الحديث ( الفانتازي) له جذور أصيلة تمتد في عمق الأسطورة، وقد اهتمّت "روزماري جاكسون" بالبُعد البصري للخيال ووضعته ضمن مسار الفانتازيا التي لجأت إلى الأساطير والحكايات الخرافية لتخرج بصيغة جديدة تساير تطوّر العلم الحديث وتدعم ما يقدِّمه العقل من نظريات علمية، فلدينا الأفلام الخيالية التي تشغل صالات السينما العالمية اليوم والألعاب التي تنتشر بكثرة في عالم الميديا والتكنولوجيا، هذا العالم "العجائبي الخيالي" الذي صنَّفه "تيودوروف" ضمن مكوّنات الأدب الخيالي حيث يعمل على تكوين حيّز له في الواقع المتخيّل كما يتجلّى في وعي الإنسان.
إنّ وظيفة الخيال في التجربة الصوفيّة قائمة على أنه خيال خلّاق، وقد ميّز "كوربان" نوعين منه: خيال متصل؛ وهو خيال ذاتي ينبع من حاجة الإنسان لاستحضار الصور الغائبة، وخيال منفصل؛ ويعني به العالم الميتافيزيقي. كما أنَّ هذا الخيال هو مصدر خلّاق للتجلّي؛ أي إنتاج الروح في العالم المادي، التجلي الذي اعتبره ابن عربي الرمز الأساسي في الخيال ومزَجَه برمز النّور الذي هو رمز تفسيري لنشاط النفس لدى الإشراقيين.
ويرى "كوربان" أنَّ الإدراك الفينومولوجي للظواهر يقوم على إدراك "الماهيّة"؛ أي تجاوز كل ما هو مادي واستبطان الظواهر من الداخل، وهذا ما يصبّ في رؤيته لصوفيّة ابن عربي وقوله إنَّ ابن عربي يؤمن بوجود عالم الأفكار والصور والتمثيلات وهو عالَم وسيط بين الإدراك العقلي والادراك الحسي، هذا العالَم الوسيط هو عالم التأويل والرُّموز والخيال.