محمد عطية محمود
كاتب وناقد مصري
في "تاج الياسمين.. أغنية كنعانيّة" للروائيّة بشرى أبوشرار تتمثّل الساردة برمزٍ للوطن تجسِّد فيه كل الآمال القابلة للتحقيق، لتنهض فكرة الشخصيّة/ الرمز وتتجمّع حولها كل الأصوات المُناجية المشتركة معها في الهمّ الإنساني والوطني وهمّ الوجود، على خارطة للعالم اتَّسعت لتستوعب كل القلوب والأرواح المشتتة، عبر فضاء أثيري يمثل الحداثة على مستوى التقنية والمواكبة؛ لتقدِّم لوحات إنسانيّة لشخصيّات عامة ومغمورة، تمثِّل عالمًا عربيًّا جزّأته الجغرافيا وجمعه التاريخ وروح المقاومة، ولعلَّ ما يعطي هذا النص الرِّوائي الجديد براءة وجوده وفلسفتها يكمن في توجُّهه الشعري الوجداني غير النَّمطي.
تجنح الرواية في السرديات الجديدة إلى النزعة الوجدانيّة وشعريّة المعنى الذي تقدمه المواقف السرديّة المشبعة بالحياة، مرتبطة بوشيجة نفسيّة مترعة بالألم والأمل في آن واحد، حيث تبدو الغنائيّة التي تمارسها الشخوص الفاعلة في مدار النص، متسقة إلى حد بعيد مع ما يفرزه الوجدان مختلطًا بالواقع، من تفسير لما يدور بالتوازي فيما بين الذات/ الداخل، والآخرين المتفاعلين أو المتشاكلين معها/ الخارج.. تلك النزعة الإيجابية التي تعد تفريغًا نفسيًّا لما تعتلج به النفس وتفور براكينها حتى تهدأ في انتظار فورة أخرى من فوراتها التي لا تتوقف، وعندما تتوزَّع الأدوار يكون للثنائيّات الفاعلة في متن النص دور فاعل ومؤثر في تجسيد تلك الروح الرومانسيّة التي تتوق إلى التعبير عن الحريّة والانطلاق من أسر الواقع، مع محاولة تغييره.
في "تاج الياسمين.. أغنية كنعانية"(*) للروائية الفلسطينية بشرى أبوشرار، تبدو هذه الملامح اتساقًا مع مشروع روائي لثلاثية روائية مفعمة بالمد العروبي القومي المقاوم لما يحدث على أرض الواقع بمراراته وأحلامه على حد السواء، وبحيث تكتمل بها تلك الثلاثية وتنتمي إليها لغة وقضية، وبحيث يبرز هذا الخطاب الموجَّه من خلال تبادل الآلام والطموحات والذكريات من خلال ثنائيات تقوم على أساس حركة الحوار الافتراضي أو المادي بين بطلة النص التي تمثل ضميره "وردة"، وبين رموز متعددة تتلاقى على النزعة الوجدانية ذاتها، وربما كانت تلك الشخوص طبيعيّة من دم ولحم.
فمن هنا تأتي براعة النص في نسجه هذه الوشيجة المؤثرة التي تبدأ من العنوان الذي يجمع بين الدلالة الشعرية الرومانسية للياسمين متمثلًا في تاجه والمرموز به في الوقت ذاته إلى سوريا، بالتوازي مع تلك الأغنية الكنعانية التليدة التي ترمز إلى القضية الفلسطينية التي تحرك كل القضايا الأخرى وتؤثر فيها
إذن، فنحن بصدد علاقة ثنائية أخرى متجسدة في المعنى المتعلق بالحرية والتمسك بها والتغني بها في سياق لا ينقطع على أنات أصوات من المحيط إلى الخليج.. حيث تدخل الروائية عالم روايتها بتلك الكلمات المفعمة بالأسى والأمل في الوقت ذاته، وعلى محفة تصطلي من تحتها نار المقاومة –التي ربما كانت القضية الأكثر اشتعالًا في مشروعها السردي- مؤكدة على العودة دائمًا إلى الأساس الذي انطلقت منه كافة القضايا المتعلقة بالعروبية والقومية:
"على جدارية الوقت، كتبنا حروفًا من خيوط الشمس نجدلها.. أنا في حلب.. روحي في دمشق.. قلبي في حمص.. عيني على القدس".
فهي تذكِّر دائمًا بالقضية الأم، وهذا الوشم المتعلق بها والذي يحرك كل قضايا الصراع التي تجعل العلاقة ضرورية بين متآلفين على قلب الوطن.. تشتعل أصواتهم المتباعدة في المسافة والزمن كي تشعل نار القضية، وتؤمن على ذاك الوجع الذي يجمع كل الأطياف:
"هذا وجه الأرض وجهي.. إنَّ في الأرض غضب.. صار طعم النصر أشهى في رصاصك يا حلب".
كلمات حماسية لا يقف عندها السؤال، ولكنه يتداول بين تلك الثنائيات التي تتبادل الأدوار مع الصوت السارد، لتجسّد ملحمة الكلمات التي تتحول إلى رصاصات وهي ملفوفة في خيوط من حرير، تنطق بما لا يبدو من صمت وغضب دفين، يجمع تلك الأطياف لكي تقترن بحالة من حالات البوح التي لا تفقد طزاجتها، وكأنَّ تلك الثنائيات أو الآخر الذي يستمد روح وجوده من كلمات "وردة"/ بطلة النص الروائي الممتدة في عديد من روايات هذا المشروع السردي، وربما تشكل في وعي القارئ المتلقي أنه آخر متكرر على الرغم من تغييره من ظرف إلى ظرف ومن حالة وجدانية إلى حالة أخرى حماسية لكن كلاهما يغلفه روح الشعر:
"من مدينة النبك نزفت دماء.. غاب الأحبة.. رحلت سعاد.. رحلت هالة.. رحلوا حيث وطن تراب تراب.. مجروح أنت يا ناي من روحي وشجني.. مجروح أنت، مَن يضمد الجرح النازف فينا..!! هي صحراء منّي أنا، لفحت وجهي، تجذّرت في كثبانها.. هي صحراء كوني العاصف في تيه لا أخاف أن يغيّبني بعيدًا، حيث لا أحد، لا أحد.. ألوذ بذاكرتي فيطالعني الفراغ.. يجتاحني خريف الوقت.. تسقط أوراقي تنكسر تحت أقدام العابرين".
هذه الشاعرية الدالة على حالة من الاغتراب والتوحُّد على الرغم من كل ما يدور من حوارات ونجوى وثنائيات قد تكون مخاتلة ربّما لمحنا فيها ظلّ الرجل المهيمن على الوجدان، الشريك في الألم، الصديق المغاير للكل وغير معلوم الاسم والهويّة، وروحه الآسرة، إلا أنَّ تلك الحوارات تفتح الباب دومًا لتلك الانفجارات التي تثري المشهد السردي بشعرية تفوق الألم فتجد استعذابًا له من خلال ما تبوح به الذات الساردة "وردة" المفعمة باغترابها على الرغم من وجود الآخر/ الآخرين:
"هناك في دمشق غابة إسمنتية سكنتها الطيور والعصافير تبني أعشاشها ورحلات طيرانها ما بين شرفة بيتنا وعمود الكهرباء، تكبر الفراخ، وحكاية رصاصة ودماء لم تنته، دخان لا يكفّ يلوِّن ما تبقى لنا من زهرات الياسمين، تفجيرات تلاحق الحياة فينا، طالت أعشاش الحمام على شرفتنا الصغيرة، وكما الإنسان والجماد ترتفع الأعشاش إلى سقوط وتبعثر، فراخ الحمام لم ترَ الحياة إلا من ساعات، سقط الحمام صريعًا نازفًا مدمى بين شظايا البلور المكسور، تكسَّر البيض، بقيت بيضة واحدة من بقايا عش الحمام الحزين، وأم ثكلى عائدة تحتضن البيضة الأخيرة في انتظار أن تفقس ويولد فرخ حمام وحيد وأخير".
• من المشهديّة إلى الحواريّة
هذه المشهدية بالغة التأثير التي تستنزف الوجدان تعدُّ من مميزات النص السردي الموجَّه إلى العاطفة المستأثر بما لها من مخيّلة تكمل معها المعنى وتستبطنه وتملأ فراغات الحالة الدالة المسقطة على حال الوطن/ حال العروبة المصابة في جسدها، وهو ممّا يجعل الحمولة السردية للنص تبلغ مبلغًا يصعب معه الفصل بين الخاص والعام، وهو ما يتجلّى فيه هذا الحوار:
- "هو صباح الشوق لأحبة ما زالوا في الجوار، يسكنني دفؤهم وأنفاسهم حتى وإن بعدت المسافات، دروب مضيت إليها تحن إليك".
- "هي الحياة يا سيدي نحب أمكنة، نرحل عنها، نترك فيها بعضًا منّا، من روحنا، من شوقنا، من وجداننا، هذا هو الوطن، لا خيار لنا سوى عشق أبدي نحيا به ويحيا بنا، لا تندهش إن قلت لك إنني حزينة لهذا الفراق وكأنني أنا التي جئت وأغادر بقلب يتردى من وجعه، أمضي إلى دروب الحياة ومساراتها وأحداث تأخذني بعيدًا ولكن أبدًا لا تنسيني عطر المكان وعبق من نور الأحبة".
- "هو الوقت يا سيدتي، أرحل عن مدينتنا وفيها أنفاس لأحبّة، أغادرها وقلب لي لم يكف البحث عنها في غربتي البعيدة".
- "أنت يا سيدي تعمّدت بنور شمسنا وبهاء صبحنا، عبق قهوتنا، نسمات جبالنا، الآن تعرف كيف تحب الشآم مَن يمرّ ببابها، وكيف تسكن نسمات من زهرات ياسميننا القلب والروح والوجدان".
تتميز أغلب تلك الحوارات بإبهامها للشخصية التي تعقد معها البطلة جدل هذا الحوار أو الميثاق، ولا تحاول إلقاء الضوء على خصائصها المفعمة بعلاقة تبدو جليًّا خصوصيتها، في حين تتحدَّد تلك العلاقات الثنائية الأخرى بأسماء معيّنة، مثل "د.نزار" ابن المرجة و"حسان سلوم" وغيرهم من الشخصيات المعروفة على مستوى الثقافة والمقاومة، وهو ربما ما أعطى تلك الخصوصية نوعًا من المجاز والإطلاق كي تضرب مثلًا عميقًا على التوحُّد بين الساردة وتلك الشخصية الوجدانية التي تشترك أيضًا في القضية ذاتها بشأنها العام، وهو ما تراوح به الساردة بين ثلاثة محاور/ انتقالات مهمّة على مدار النص الروائي: حوار الثنائيّات المعروفة- حوار الشخصية الوجدانية- المرور على المشهد العام أو الرؤية التي تجمع بين صور الماضي والحاضر والتي تربط بين قضية سوريا وقضية فلسطين، إضافة إلى حالة العصف الذهني الرهيبة بين ذاتها وذاتها والتي تقرن فيها بين كل تلك العناصر، فتكون تلك الشعلة من اللهب التي لا تنطفئ:
"هل يستطيع المرء أن يبحر على قارب من ورق..!! وهل يمكن لحلم عودة إلى أرض الوطن عبر هذا القارب الورقي الرقيق الذي ما إن يبتل بالماء لا يصلح استخدامه ولو للّعب..!! فنجان قهوتي تسكنه الأسرار، موجات ورمال وأصداف بحر يسكنها وشيش قلبي المهاجر، قارئة الفنجان تراه وقد سكنته مساحات خواء، أنا مَن تقرأ سر الحكاية من فنجان قهوتي، لي أنامل تعبت من تجفيف دمعاتها.. تجهش بمطرها، ترفل في ملحها وأنا في صمت على مقامات بوح يقطر من أناملي".
كثيرة هي تلك التساؤلات التي تطرحها الذات الساردة على ذاتها وعلى متلقيها في الآن ذاته، في ظلِّ تلك الحالة الممتدة من البوح التي لا يوقفها شيء تمامًا كموج البحر الذي يسكن هاجس تلك الشخصية، ويطوّعها في عدة سبل لا تخطئ فيها خطواتها الآثار القديمة نفسها التي تركتها عليها وانحفرت في ذاتها، بتركيبة نفسيّة تتخبّط في جدران الذهن والمعاناة التي تبدو خفيّة، ولكنها مشتعلة بأرق الكلمات والأوراق؛ تلك المساحات التي تزيد الوجع، وهي تتنقل بين المكان بدلالاته وانعتاقاته، وهي تذكر أماكن التهجير القديمة في عمّان لتنطلق مرة أخرى إلى العام المؤلم والمجسِّد مرات ومرات لعمق القضية:
"هناك كنتُ أركن عند حافة سور واطئ أتأمل ليل المدينة، نجمات تسقط من عليائها لتسكن أسطح المنازل وشبابيك بيوت سكنت جبالها، نجمات "عمَّان" تحمل روح ليل لنهار مهاجر. "عمَّان" لا تنسى قلب مَن أحبَّها، باقية على عهدها كما قمم جبالنا، من صبح مهاجر يمسح عن وجه مدننا دمعات لفراق أحبّة يقتفون محطات الغياب، صبح مهاجر يطلُّ هذا اليوم على مدننا وشمس باكية تشرق على كوننا".
تقول الحكمة إنَّ الشيء بالشيء يُذكر.. هكذا تجنح الساردة ويجنح معها السرد ليعبر المكان بالشاعرية ذاتها المنغمس فيها، فيصير التصوير المشهدي لواقع المكان لوحة قادرة على حفظ القضية في الوجدان، فالكل يؤدي إلى الكل، قضية سوريا هي ذاتها قضية فلسطين، هي قضية الصراع بين الوجود غير الشرعي، والصمود واليقين بأنَّ قضية الجزء هي قضية الكل، فلا فرق بين تاج الياسمين والأغنية الكنعانيّة، فإن كان ثمّة صراع حضارات فالبقاء للأجدر والحق فلا فرق بين فينيقي وكنعاني في مواجهة الغزاة الطامعين.
• جدليّة المكان وتعدُّد الشُّخوص
يلحُّ المكان بظلاله على مدار العمل الروائي ليصبح كأوتاد الجبال التي تقوم عليها الأرض فتثبِّت دعائمها، وتجعلها قادرة على العودة لاتزانها بعد كل هزّة تجتاحها أو عارض يعترض استقرارها، فالوطن ثابتٌ كتلك الجبال معاندٌ لأهوال الجغرافيا ومطامع الطامعين.
"الوطن عائد لأنَّ التاريخ لا يكذب وإن تحدّاه العالم، فقط هو إصرارنا وعزيمتنا، كم بقي الصليبيون وكم بقي الإنجليز هنا أو هناك، وفرنسي حاول أن يتّخذ من الجزائر ولاية فرنسية، أين الرومان، الفرس، اليونان الذين احتلوا مصر أزمانًا وأزمانًا وبقيت مصر؟ أين العثمانيون من احتلال لمصر أكثر من ثلاثة قرون وبقيت مصر؟ نحيا ونعيد تشكيل أنفسنا لنصبح جزءًا من هذا العالم، سنعود ويبقى الوطن، الكيان الصهيوني وسلب أوطان بمقولة زائفة "أرض الميعاد" والجرح ما زال داميًا، يعيش فينا من جيل إلى جيل، حتى من أجيال لم ترَ الأرض ولم تقف عليها".
فالقضية الفلسطينية لا تغيب عن وعي الكاتبة/ الساردة، بل وتربط بينها وبين كل القضايا المثارة على الساحة العربية كما أسلفنا.. والتاريخ شاهد على تلك السلسلة من الانتهاكات التي أصابت جسد الأمة العربية.. هنا تعتمد الكاتبة الجانب الإنساني المرتبط بالأرض والتاريخ وتجعله ظهيرًا لكل الأحداث التي يأتي بها السرد، على جانب كبير من الحميمية والحضور بين ظهراني المكان، وهي الفلسفة التي تحرك بها الكاتبة هذه الموجات من السرد، بتلك العقيدة التي تمكِّنها من الاستمرار في هذه المرويّات التي ترتبط بالواقع والوجدان معًا، لذا فهناك مبرر لكل تلك الانتقالات التي أشرنا إليها من مناجاة الذات ومناجاة الآخرين، ومناجاة المكان، ما يجعل الشاعرية التي تنتهجها الكتابة عاملًا مساعدًا على استمرار هذا الزخم المعنوي الذي لا يغيب..
"أحيانا ما يمر بخاطري هاجس أنَّ روح الوطن قلة مَن يستشعرونها وأنَّ الماضي دومًا إلى أفول دون عودة، لكنك تعود معي، نعود معًا نقتفي خيط النور من هناك حتى هنا، افتراض هل يصير حقيقيًّا!! حتى وإن ظلَّ على افتراضه، سنظلُّ نحن على افتراض الوجود، نحيا ونرحل ونعيد تشكيلنا من جديد، هو صبح يصل إليك من صبح لي هنا".
هنا يلتحم المكان المعنوى لروح الوطن مع المد المعنوي الذي تستقيه الساردة من علاقات المناجاة مع الطرف الآخر غير المحدد، بروح المطلق الذي يهوِّن المسيرة، وإن كان معنويَّا على درب الحب للوطن الذي يجمع الجميع بكل تأكيد، فذلك البوح الذاتي أو مع الآخر تنفيس وإفراغ نفسي، وكنوع من المهدئ أو العلاج النفسي الذي يذكي في النفس روح المقاومة والإصرار على مدى طويل وعلى الرغم من كل المثبطات وعوامل الدخول في دائرة اليأس، إلا أنَّ الوطن باقٍ في نفوس المخلصين من أبنائه بعروبيتهم وقوميتهم التي لا تهتز ولا تغيب..
"أنتظر أن تذوي المسافات ما بيننا، نحضن ترابًا اشتقنا إليه، مواقيت نتلهّف مواجعها ودمع من ياقوت فراقها، أنا وأنت يبدو أننا خلقنا في انتظار ما لا يأتي، الوقت صار عصيًّا، دفء صار منسيًّا، وطن ينداح تحت نسيان العشيرة وأحذية يهوذا، نحيا على الأمل، نحيا ننتظر لحظته ولحظتنا التي صنعناها أملًا وحلمًا وميقاتًا لن يكون عصيًّا على أن يتحقق".
فهذا النمط من الكتابة يدفع النفس لترتقي رومانسيتها التي ربما تحوّلت مع التمسك بها إلى حقيقة مؤكدة يتضافر فيها المادي والمعنوي في ثناية جديدة من ثنائيات النص الروائي الذي يعزف بغنائية على هذا الوتر على مداره الذي وإن تراوح بين اليأس والرجاء إلا أنه يعود دائمًا إلى مرفأ الأمل المستمر، وأنه ستتحق يومًا كل النتائج التي ترتب على هذه المسيرة الطويلة من العناد والصمود، وهي الحالة الوجدانية التي تبلغ شاعريتها ورومانسيتها البليغة في تلك المقاطع وردود الأفعال التي تثبت النفس والروح وتثقل فيها روح الإباء والتحقق من خلال علاقة حب شفافة تتحرك فيها الروح في مساراتها لتجسد هذه الحالة من الانعتاق والشاعرية الممتزجة، بما يحقق للشاعرية هنا ميزان وجودها:
"سيدتي.. أنتِ أنتِ ولا سواكِ، أنتِ الوطن والأرض والآتي، أنتِ ذاتي ومنك أعيشك حنانًا ونورًا وأملًا، بك أعيش "فلسطين" حلم عمري الذي عشته ولم أزل، لم تضع من أملي ولا يأس صرت إليه في حلم الحياة، أدرك حجم المؤامرة، ليست ضد أرض النبوّات، هي ضدّي أنا وضدّ كل الأرض العربية التي تبدأ من عكا، حيفا، الناصرة، غزة، قدس الأقداس، شآم شآم، أدركتُ أنها أرض حبيبة لأنَّ فيها أنت والوطن والرمز، أنت يا من حملتك الصدفة إليّ، وأهدتنا أنفسنا قبلة نور أتهجّاها وعدًا قطعته على نفسي من خيوط شعاعك، دفئك وحنانك".
حيث تتمثل الساردة هنا برمز للوطن تتجسَّد فيه كل الآمال القابلة للتحقيق، لتنهض فكرة كانت قائمة من الأساس، وهي الشخصية الرمز التي تمثل الوطن وتتجمّع حولها كل الأصوات المُناجية أو المتحدثة أو المشتركة معها في الهمّ الإنساني والهمّ الوطني وهمّ الوجود على خارطة للعالم اتَّسعت لتستوعب كل القلوب والأرواح المشتتة عبر فضاء أثيري يمثل الحداثة على مستوى التقنية والمواكبة؛ ممّا قد يحقق من التواصل ما فرّقته الجغرافيا وشتّتته الاحتلالات الغاصبة والمغتصبة، وما يعطي النص الروائي الجديد براءة وجوده وفلسفتها، في توجُّهه الشعري الوجداني غير النَّمطي، ليقدِّم لوحات إنسانية لشخصيات عامة ومغمورة على حد السواء يمثلون عالمًا عربيًّا جزّأته الجغرافيا وجمعه التاريخ وروح المقاومة وإثبات الوجود دائمًا من جديد.
- - - - - - - - - - - - - - - - -
(*) تاج الياسمين، رواية، بشرى أبو شرار، روايات الهلال، تموز/ يوليو 2017.