علي شنينات
كاتب وشاعر أردني
في المجموعة القصصية "جاليريا" بدا تأثّر السّارد بالمكان واضحًا في أغلب القصص؛ حيث يسكن السارد أمكنة لها قيمة نفسيّة كبيرة ساهمت في تشكيل شخصيّته، ويمكن تسميتها "مهد الطفولة المُترع بالحنين"، والذي يؤشِّر إلى علاقات متشابكة العواطف، وحميميّة عالية مرتبطة بالمكان بكل جزئيّاته، كما استخدم الريماوي أسلوبًا سرديًّا يكرّس الفانتازيا والغرائبيّة، هذا الأسلوب الذي يترك متَّسعًا للتأويل ويحثّ الذائقة على التقصّي والتفسير للحالات المُدهشة وغير العاديّة في بناء السَّرد.
جاءت المجموعة القصصيّة "جاليريا"(*) للقاص ناصر فالح الريماوي في مئتين وخمسين صفحة من القطع المتوسط، وحمل الغلاف لوحة تشكيلية تعبِّر عن مجموعة من الاستشعارات البصريّة التي تداهم مخيّلة الناظر من نافذة تطلُّ على عوالم جميلة في جزئها الظاهر من اللّوحة التي يؤطِّرها سواد قاتم؛ يشير إلى فجائعيّة الواقع المحيط بأشيائنا الجميلة التي نحملها في ذواتنا الحالمة بالجمال والحب. وقد بدأت المجموعة بإهداء إلى مجموعة من الأدباء الأردنيين والكتّاب العرب وإلى جميع أصدقاء الكلمة، كما يقول الكاتب في الإهداء.
يُشيرُ القاص ناصر فالح الريماوي في تقديمه للمجموعة (على أنَّها انعكاس للمُشاهدات أو اللّحظات المُعاشة)، وفي ذلك تلميح لواقعيّة النص وتيقُّظ الكاتب لحالة الوعي الكامل بالأشياء في لحظة الكتابة، وهو تميُّز ظاهر في هذه الجزئيّة المهمّة في تكوين النص من حيث الارتباط الشديد بين الكاتب وبين المكان والزمان كعنصرين مؤثرين في إنتاج النص. هذه الجزئيّة التي تبدو مُهمَلة عند الكثير من كتاب الحداثة الذين أخذوا منهج اللاوعي في الكتابة، حيث المكان لا حدود له، ولا يمكن حصره في مدينة أو قرية أو شارع، والزمان غير مؤطَّر بوقت ما أو فترة زمنيّة بعينها. ويقول الكاتب في تقديمه: "إنَّ هذه المشاهدات لها مدلولات نفسيّة غير واضحة لارتباطها بالعقل الباطن، حيث تطفو بغتة على سطح الذاكرة ليبدأ عالم حُرّ بالتشكُّل من غير ملامح واضحة، ثم ياتي دور اللغة والثقافة وتراكم التجربة في تفكيك هذا العالم إلى قصص قصيرة".
هذا التقديم الذي عمد إليه الكاتب على غير عادة، هو باعتقادي تفسير للحالة المشهديّة الشعريّة التي برزت في معظم قصص المجموعة، والتي انحازت إلى وصف دقيق الملامح للأمكنة والأزمنة التي يعايشها السارد ويذوب في تفاصيلها، مكرِّسًا حالة متفرِّدة من العشق للمكان والذي هو في الغالب مكان مُعاش وشغل جانبًا مهمًّا من السَّرد.
إنَّ التعالق الظاهر الملامح بين الكاتب والمكان وتميُّزه في إظهار هذه الثيمة، من خلال إشراك القارئ كعنصر فاعلٍ في تحريك النص نحو مدلولاته الكامنة، يترك في نفس القارئ تساؤلات كثيرة عن المكان وخصائصه المتفرِّدة والكيفيّة التي دفع بها الكاتبَ إلى الارتقاء ببعض مفاصل النص إلى مستوى شعري فريدٍ، قابل للتأويل المنفتح والذي يُبنى على أكثر من حالةٍ نفسيّةٍ، بدا تأثّر السارد بالمكان واضحًا في أغلبها، كما في القصص الخمس الأولى والتي حملت عنوان (طفولة مزمنة)، حيث يسكن السارد أمكنة لها قيمة نفسيّة كبيرة في تشكيل شخصيّته، ويمكن تسميتها "مهد الطفولة المُترع بالحنين"، والذي يؤشر إلى علاقات متشابكة العواطف، وحميمية عالية مرتبطة بالمكان بكل جزئيّاته، من الحارات القديمة والزّقاق والنّوافذ الضيّقة التي تُطلُّ على أحلامٍ طفوليّةٍ تدلُّ على يقظة مبكرةٍ تجاه الأشياء، وترسم ملمحًا للشخصيّة مرهونًا بمكان وزمان معيَّنين.
ولعلَّ التَّبويب الذي عمد إليه الكاتب في وضع هذه القصص تحت عنوان (طفولة مزمنة)، كتأطير للنص في حقبة زمنيّة يجعل القارئ يدخل في جوّ النص منذ الوهلة الأولى، مستلهمًا المكان من خلال العنوان أيضًا، حيث أنَّ الكاتب لا يقصد تأريخ هذه الحقبة أو تلك بالتأكيد، بل أراد إشراك القارئ في عملية الوعي وإغوائه في متعةِ الانصهار في جوّ النص ضمن فكرة محددة، لكي ينتقل إلى أفكار أخرى فيما يتقدم من نصوص مرتبطة فيما بينها بخيط رفيع يكرّسه الزمان تارة أو المكان تارة أخرى، ويستطيع القارئ تلمُّس هذا الخيط بحدسه العالي ومتعته في قراءة النصوص. هذا الأسلوب ينطبق أيضًا على عنوان (الغرباء) الذي ضمَّ ثلاث قصص هي: "الرحيل"، "على هامش الحب"، "موت لم يكتمل"، الذي انتقل به الكاتب إلى مرحلة نضوج الفكرة واختمارها من حيث بلوغ الشخصية سنًّا متَّقدًا بالأحلام، فها هي الشخصيات تحب وتكره وتتخذ القرار الذي تراه مناسبًا.
استخدم الكاتب في كثير من قصص المجموعة أسلوبًا سرديًّا يكرّس الفانتازيا والغرائبية، هذا الأسلوب الذي يترك متَّسعًا للتأويل ويحثّ الذائقة على التقصّي والتفسير للحالات المدهشة وغير العاديّة في بناء السرد. وتبدو الفانتازيا أكثر وضوحًا في قصة "جاليريا" التي أخذت اسم المجموعة، حيث استخدم الكاتب أسلوب التصوير المشهدي، وصهر الشخصيّات في لوحة تشكيليّة وشحنها بالروح والانفعالات لكي تبدو كشخصيّة رئيسة في القصة، وبدت اللوحةُ وطنًا وحبيبة في مرحلة ما من مراحل الحبكة، فاللوحة تمدّ يدها نحو السارد وتشدّه إلى داخلها، ويتوحّدا في مجموعة من الانفعالات التي تضفي الدَّهشة وتُبقي القارئ متيقّظًا لما سيأتي من مشاهد.
تحت عنوان "انكسارات صباحيّة" وضع الكاتب إحدى عشرة قصة من نوع القصص القصيرة جدًا التي تعتمد على الإدهاش والمباغتة في اقتناص الفكرة، وعلى الإيجاز والتكثيف في بنائها، معتمدًا على أسلوبه الشعري المتميز في السرد الذي يحمّل المشاهد طاقة إبداعية هائلة، ترمي إلى منح القصة تأويلاتها المبتغاة، وإضفاء الحيوية الجمالية على التفاصيل الدقيقة والهامشيات التي يبني عليها القاص الريماوي رؤاه الخاصة، فيما يخص الواقع من انهزام وغياب كما في "زمن الرماد" و"رشفة طائشة" و"انكسار الآخر"، وما في الحياة من انكسارات بعد طول لهفة وحنين كما في "انكسار في الذاكرة" و"قبل الرحيل" و"طوق اليدين".
وتحت عنوان (ومضات هامشية برفقة نصوص ماجدولين الرفاعي)، كتب القاص ناصر الريماوي مجموعة من النصوص، متأثرًا بقراءة نصوص الكاتبة السورية ماجدولين الرفاعي -كما يقول في تقديمه لهذه النصوص- وأعتقد هنا أنَّ الكاتب أراد بها نصوصًا نثرية ومحاكاة لما قرأ، لأنها لم ترْقَ إلى مستوى القصة من حيث الحبكة والنهايات التي تفضي إلى فكرة بعينها، بل استخدم أسلوبًا تفكيكيًّا بلغته الشعرية لتلك النصوص، خصوصًا وأنه كتب تحت عناوين تلك النصوص نفسها.
القصة الأخيرة في المجموعة حملت عنوان (منزل الأقنان)، وفي الحقيقة وقفتُ كثيرًا عندها وقرأتها مرّات عديدة، واستهوتني ملامحها الفريدة من حيث الشكل والمضمون، وبتُّ مدركًا أنَّ الكاتب قرأ الشاعر الراحل بدر شاكر السياب قراءة معمّقة من حيث حياته وخصائص شعريّته، لكي يستطيع استنباط فكرة القصة بهذه المهارة مستحضرًا تلك الحقبة الزمنيّة التي عاشها الشاعر بكل ما رافقها من إرهاصاتٍ سياسيةٍ ومنافٍ عاشها الشاعر، ويؤشِّر إلى تجربة شعريّة فذّة أسّست لتيار شعري حداثويّ منذ منتصف القرن الفائت. القصة أخذت طابعًا تراثيًّا بالإشارة إلى الأماكن التي عاش وتنقَّل بينها السياب في بغداد والبصرة، تمجيدًا لإرث هذا الشاعر الكبير، ولبلدٍ رفد الحضارة العربية بالكثير من الأمجاد وأعلام الثقافة والأدب.
إنَّ هذه المجموعة تدلُّ على إبداع صاحبها القاص ناصر فالح الريماوي وتميُّزه في الأسلوب المنطلق من ثقافة عالية ومقدرة على قراءة الواقع والملامسة الحقيقيّة لتفاصيل المكان، وقد وجدتُ الكثير من الخصائص الفنيّة العالية التي تدفع باتِّجاه حداثة القصة القصيرة من حيث البناء اللغوي الناجز، والتكثيف في جملة الحوار الذي يأتي دون ترصّد، والإدهاش في القفلة والكثير الكثير الذي يدفع القصة لتأخذ مكانًا رياديًّا متقدمًا.
- - - - - - - - - - - -
(*) صدرت عن دار تالة للنشر والتوزيع في دمشق.