د. نبيل سليم علي
أكاديمي وباحث مصري
فنُّ "رثاء الموتى" أو "النواح" أو "العديد"، كلُّها أسماء لرثاء فقيد اختطفه الموت أو رثاء أو نداء لِمَن رحل، وبكاء على حميدِ صفاتِه، ويُدرَّس هذا الفنّ في المدرسة والجامعة على أنه "قصائد الرثاء" وشكوى إلى الله من نار الفراق. مع ذلك، أصبح هذا الفنّ غير مُحبَّب في مآتم الصَّعيد، وقلَّ وجوده في ظلِّ غياب الاهتمام الرَّسمي بمحاولة توثيقِه، وعلى الرّغم من ثرائه ودوره في توثيق جزء من تاريخ صعيد مصر، إلّا أنه في طريقه إلى الاندثار.
فنُّ رثاء الموتى في التراث المصري هو فن المرأة وحدها، هي فيه الفارسة والقائلة والسامعة، في حين أنَّ الرجال هم المتلصِّصون. وقد اختصَّت المرأة به لأنها أكثر رهافة من الرجل، وأكثر مقدرةً في العرف الاجتماعي على التعبير عنه. وفي فنّ رثاء الموتى يكون لكل فقيد بكائيّات خاصة، فمنها للابن وللابنة، ومنها للزوج، وللشاب العريس، والشيخ الكبير. ويُطلق على المرأة التي تمتهن مهنة رثاء الموتى أو العديد اسم "المعددة" أو "الشلاية"، وغالبًا ما تكون كبيرة في السن، تستطيع قيادة باقي النسوة عند إلقائها "العديد"، بإيقاع سريع وموزون. وقديمًا، كانت "المعددة" تقوم بذلك مقابل المال أو مواد تموينية أو طعام، أمّا الآن، فتقوم بذلك مجاملة وهي إمّا أن تكون قريبة للميت، أو مَن فقدت شخصًا عزيزًا لديها قبل فترة غير طويلة، فتسترجع إذْ ذاك مشاعر الأسى عند تشييع الجنازة.
من المعروف عن الشخصيّة المصريّة أنَّها تعشق الغناء دائمًا، وأنَّها أيضًا تقدِّس الحزن وتجلّه وربما تعبِّر عنه رثاءً بالغناء أيضًا، ولأنَّ المصري يغني في كل الأوقات ويقدس الحزن والطقوس الجنائزية -وربَّما يكون الوحيد على مستوى العالم الذين يغني في كل الأوقات- فهو يعبِّر عمّا يجيش في نفسه بالغناء من المهد إلى اللحد، فيغني للمولود في مهده وللمتوفى في لحده، وكأنَّ الحياة أغنية لا تنتهي!
وإذا كان الشاعر العربي القديم عمرو بن معد يكرب هو القائل: "ذهب الذين أحبهم، وبقيت مثل السيف فردًا"، فإنَّ أغاني الحزن والفراق أو ما يسمى "العديد" في صعيد مصر تبدو أحد من السيوف في تعبيرها عن فراق المتوفى العزيز وذهاب الأحبّة إلى غير رجعة!
إنَّ الغناء في مصر لا ينقطع بين كل طبقات الشعب.. فالفلاح يغني للمحصول في أغاني الحصاد، والعامل يغني للرزق والعرق وما ينجزه من عمل.. والأم تغني لوليدها في "أغاني السبوع".. وأغاني تدليل الطفل والختان، وفي الأفراح تغني الفتيات للعروس أغاني الشبكة وأغاني التفصيل (تفصيل ملابس العرس)، وأغاني الحنّة والزفاف والغزل والطحن على الرحى.. والبائع أيضًا يعلن عن بضاعته بالغناء.
وتسود هذه الأنواع من الأغاني التي يتغنّى بها المصري إيقاعات خاصة بكل منها، ففي الرثاء أو العديد تجد إيقاعات حزينة تصاحب هذا الأداء الحزين.. وحتى إنَّ بعضهم يسيطر عليه الحزن في لحظات الفرح، وقد يختلط الاثنان معًا فيُعطي هذا المزيج إحساسًا يشكِّل وجدانه عبر التاريخ.. ومن المعروف أنَّ المصري القديم كان يقدِّس الحزن والطقوس الجنائزيّة.
وفي دراسته القيمة يحدِّثنا الشاعر أحمد توفيق عن "أغنيات الفراق.. تراث الحزن في صعيد مصر"؛ والمقصود هنا بأغنيات الفراق هو "العديد" الذي استفادَتْ نصوصه من التراث العربي، وأشعار الرثاء الذي يتباكى فيه الشاعر على الميت ويعدِّد فضائله من شجاعة وجود، ولأنَّ أشعار الرثاء كان يؤلفها شعراء لهم باعهم وقدرتهم في نظم الشعر، فكانت قصائد الرثاء مطوّلة ومُصاغة فنيًّا بشكلٍ راقٍ، ومن أمثال شعراء الرثاء العربي المشاهير: الخنساء والفرزدق وابن الرومى وسواهم.
وقد تأثَّرت الأشعار العراقيّة في مقتل الحسين بـ"العديد" المصري الصعيدي، ولأنَّ "العديد" شعر تتداوله النساء اللائي لهنّ قدر متواضع من المعرفة والتعليم.. فقد صيغ بشكل بسيط، وهو يتكوّن أحيانًا من أربع شطرات تتشابه فيها قافية الشطرين في البيت الأوّل ثم تختلف قافية البيت الثاني التي تتشابه فيما بينها، وقد تتشابه قافية الشطرات الأربع، وكان الهدف الأساس منه استحضار حالة الحزن دون الاهتمام بالموضوع من ذكر فضائل الميت وتعديد صفاته أو الاهتمام بالشكل مع التنويع في الأداء.
• "أنسنة" الطبيعة
من المُلاحَظ في "فنّ النواح" أنه يعتمد على البطء في الأداء ووضوح الإيقاع الحزين الذي يلوِّن الصَّوت بما يلائم المناسبة، إذ لا يتناسب الإيقاع السريع مع هول الفجيعة أو الإحساس بها، وبهذا يوازي الأداء الإيقاع ولا يشذّ عنه.. وتُقاس قدرة المرأة "المعدِّدة" بمدى استطاعتها الاستمرار في الأداء مدة طويلة. يشكِّل هذا الفن مجالًا لتفنُّن النساء وإبداعهنّ الذي يعتمد على الارتجال أساسًا، فالمرأة هي التي تقوم بالدور في "إبداع" "العديد" وأدائه -كما أشرنا سابقًا- وقد تكون الباكية "المعددة" هي أكبر إمرأة في أسرة المتوفى أو أي واحدة أخرى تشتهر بأنها تستطيع التعبير عن الفجيعة بحماسة وإتقان.
وهناك نصوص كثيرة تعبِّر عن صورة الموت وقسوته وجبروته وذلك من خلال خطفه للأحبّه وتفريقه للشمل، وهو يصوِّر ذلك تصويرًا يخلع القلوب ويهزّ الوجدان إذا تمثَّله المستمع ملحَّنًا بالنَّغم الشجيّ المعجون بالإحساس المزلزل لصوت "المعدّدة" التي تجسِّد المعاني وتشحن المستمعات بما فيه من عمق أخّاذ وبساطة آسرة.
تأمَّل قولها: "موت الشباب يصعب على الزرزور(الطائر المعروف)"، و"بيت على ورق الشجر مغمور، موت الشباب يصعب على القمري... بيت على ورق الشجر يمري (يبكي)".
ونرى كذلك أنَّ الفنّان الشعبي "يؤنسن" الطبيعة.. ويصوِّرها في النصوص بالأم الحانية الرحيمة التي تستقبل الميت في مودّة كتعويض عن الأهل:
"لمَّن (لمّا أن) وقعت ما حد سمّى عليك جريد النَّخل طاطا (مال) يسمّي عليك... لمَّن وقعت وقلت يا سيد الله الشفاعة من جدع طيّب"، فهي صورة آسرة لامتزاج الإنسان والطبيعة.. وهناك صورة النَّخل وهو ينحني، وهي لضيق اللحود والمقابر وجزء من البيئة المكانيّة تستقبل الميت في حنوّ بالغ، ولعلّها إشارة إلى الشائع من تقدير خاص للنخلة في التراث العربي والإسلامي.
• بكاء قليل الإنجاب
المدهش في فنّ الرثاء، تلك الدقّة التي يعبِّر بها عامة الشعب في أدبهم المتوارث، فلم تطلق المرأة على هذا اللون أو الصنف من العديد اسم "عديم الخليفة" أي "الإنجاب" بل "قليل الخليفة"، فهى تعي تمامًا أنَّ الخليفة التي يهتم بها الناس هي الأولاد الذكور. فالرجل إذا ترك البنات قالوا عنه: "قليل الخليفة"، أمّا إذا لم يترك البنات أو الأولاد فيُقال عنه: "عديم الخليفة".
والولد ذكر لأبيه واستمرار للعائلة، وعمار لبيت أبيه، وهو ذراع القبيلة عند النِّزال وسيفها، وهو المكلّف برفع رأسها وصون شرفها. وهو الذي يكدّ على الأسرة الصغيرة. وهو العاصم من تقسيم الميراث بين الأقارب. والنائحة المدركة لهذا تُخاطب الميت "قليل الخليفة" قائلة:
"طينك كتير والنخل كالبرسيم
لو ليك ولد كان وقف التقسيم".
وجنازة "قليل الخليفة" تكون جنازة "حامية" بالتعبير الشعبي، ولكنَّ جنازة "عديم الخليفة" فلا يتحمَّلها إلّا مَن أوتي من الصبر ما يكفي.
فالنساء قادرات على إبكاء الرجال عندما يبتدعن صورهن التي تذيب القلوب وتصل إلى أسماعهم:
"حزني على اللّي راح ما خَلَّف
كأنه حمام غيه (جاء) وما وَلَّف
حزني على اللي راح ما خلفشي
كأنه حمام غيه ما ولَّفشي
حزني على اللي راح بلا خلفة
كأنه حمام غيه بلا ولْفة".
ليس هناك من الكائنات التي تعيش حول الإنسان في الصعيد، أكثر إخلاصًا لحبيبه من الحمام. فهذا الطائر العاشق لا يتحمَّل أن يفارق مَن أحبّ، فقد تترك الحمامة جماعتها لتفرّ خلف ذكر ولفت عليه أو لافها. ولذا في المأثورات الشعبية يأتي ذكر الحمام كلّما تحدّثنا عن الحب والإخلاص. ولكي يحدث هذا التآلف بين الزوجين الذكر والأنثى، يحتاج الأمر لبعض الوقت، ولكنه ليس بالوقت الطويل.
وحينما تشبِّه النّائحة الرجل الذي رحل دون ولد فهي تعبِّر عن قصر الفترة التي قضاها مع زوجته. والدليل على التآلف هو الولد، وطالما لا يوجد الولد فيمكن القول إنه لم يتم التآلف بين الزوجين، فالزوج الراحل كأنه ذكر حمام لم يمكث في "الغيّة" إلّا قليلًا وهو لم يولف بعد، ولذلك فإنَّ حزنها عليه شديد.
"يا ريت بيّاع الضَّنا فُقري
صبحت شمسي ع البحور بدري
يا ريت بيّاع الضَّنا فقير
صبحت شمسي ع البحور بدير".
النائحة تعلم أنَّ (الضَّنا) أو الولد لا يُباع، ومع ذلك تتمنى لو أنَّ الأولاد يمكن شراؤهم من السوق، وتتمنى لو أنَّ البائع (فُقري) أو فقير، أي يحتاج بشدّة إلى المال، إذن لبادَرَتْ إلى شاطئ النيل قبل شروق الشمس، حتى تلحق سوق الضَّنا في أوَّله.
وقد يسأل بعضهم: ما علاقة النيل أو (البحر) -كما يسمّونه في الصعيد- بالضَّنا وسوق الضَّنا؟ لقد كانت النائحة من قرية (الهمامية) وهي تقع شرق نهر النيل، بينما السوق الكبير بمدينة (طما) بمحافظة سوهاج وهي مركز تجاري كبير على الجانب الغربي من النيل. ومَن يرغب في اللحاق بالسوق فعليه أن يستيقظ مبكرًا ليلحق بالمعدِّية التي تنقله للشاطئ الآخر.
"خَدْت السعية والمال في كُمّي
طريق الخليفة منين يا عمّي؟
خدْت السعية والمال ف أكمامي
طريق الخليفة منين يا أعمامي؟".
ها هي الباحثة عن شراء الضَّنا تذهب إلى السوق، وهي تتسوَّق "السعية" -وهي كل ما يسعى من الغنم والمعيز والإبل- وجمعت كل ما تمتلك من مال وضعته في كمِّها، وراحت تسأل عن طريق تجّار الضَّنا، وتتخيَّر كبار السنّ ذوي الخبرة لتسألهم: طريق الخليفة من أين يا أعمامي؟
"ما خلّفوش ليه ولا ليهم
ولا خلّفوا عيِّل يسمّيهم
ما خلّفوش ليه ولا للناس
ولا خلّفوا عيِّل يقيم الرأس".
هنا تطرح النائحة أسباب الحزن وأهمّها من وجهة نظر المجتمع الصعيدي، فـ"الخليفة" ليس لأهلها فقط، بل هي خليفة في وجه الناس، والمشكلة أنَّ الراحلين لم يخلِّفوا لا للنائحة صاحبة الهمّ، لكي يكون عونًا لها في الحياة، ولا للناس المتربِّصين بالعائلة والقبيلة. كما أنَّهم لم يتركوا ولدًا يحمل اسمهم، وكلّما نادوا عليه ذكروا اسمهم بين الأحياء. فلا يرفع رأس النائحة ولا رأس القبيلة سوى ولد يقف في وجه الناس حاميًا.
فإقامة الرأس لا تكون إلا برفع الظلم وردّ الحقوق، فالذي يموت له رجل قتلًا، يُقال عنه: "مطاطي رأسه"، لأنه لا يستطيع الفخر والاعتزاز بنفسه قبل أن ينال ثأره، فإذا أخذ بالثأر أصبح من حقه أن يرفع رأسه، ولا يأخذ الثأر إلا ولي الدم والابن والشقيق، ولذا فهو المكلَّف اجتماعيًّا برفع رأس العائلة.
"والله البيوت تعوز ولد فيها
إن مالت الحيطان يبنيها
والله البيوت تعوز ولد معها
إن مالت الحيطان يرجعها".
والبيوت لدى المصريين في الصعيد ليست مجرَّد بناء، فالحائط ليس قوالب طوب وملاط، الحائط ستر وحماية، وواجهة اجتماعيّة يقرأ منها مَن أراد الحالة الماديّة والمعنويّة لأهله. ولذلك يحرص الناس على إقامة الأبنية العالية والرّحبة. ويحرصون أيضًا على بناء (المنادر) العائليّة الكبيرة التي تسمّى "الدواوين" و"الدوائر"، وكأنَّها مقرّات للحُكم والقيادة، وربَّما كان هذا صحيحًا إلى حدّ بعيد.
ولكي تستمرّ هذه الأبنية والحوائط عالية صامدة في وجه التحدّيات، فهي تحتاج إلى رجال. ولذلك حين تقسم النائحة أنَّ البيوت في حاجة إلى أولاد فهي صادقة، وهي تعرف أسباب تلك الحاجة. فقد يميل الحائط ويحتاج إلى مَن يعدله، وقد يتداعى ويحتاج مَن يبنيه. ولا يفعل ذلك سوى الرجال.
• المراجع:
1- Budge, E. A. Wallis, "Book of the Dead, The Papyrus of Ani
2-Papyrus of Hunefer With many scenes and their formula English translations, from the copy now in the British Museum