د. حسام الدين فياض
قسم علم الاجتماع كلية الآداب جامعة ماردين (جامعة حلب سابقًا)
تتضمَّن الثورة البيولوجيّة التَّجديد؛ شأنها في ذلك شأن جميع الثورات العلميّة والتقنيّة. إنَّها تدفع بفيْض من الجدَّة إلى حياة ملايين من الأفراد، وتواجههم بتغيُّرات غير مألوفة، وبمواقف يعاينونها لأوَّل مرَّة، وعندما تصل التغيُّرات القادمة إلى أعماق حياتنا وكياننا، وبنائنا، ووراثتنا، فإنَّها سوف تحطِّم العلاقات التقليديّة، وسوف تعصف بقيمِنا، وبتصوُّراتِنا لكلِّ شيء. فإذا كان الزَّوال هو أوَّل المفاتيح لفهم اﻟﻤﺠتمع الجديد، فإنَّ الجدَّة هي المفتاح الثاني.
شهدت العقود الثلاثة الماضية طفرة هائلة في مجال العلوم البيولوجية والتقنيات الحيوية وتطبيقاتها، مما يسمح لنا بالقول إنَّ القرن الحادي والعشرين سيكون إلى درجة كبيرة هو عصر علوم الحياة والتكنولوجيا الحيوية (Biotechnology)، حيث من المتوقَّع لهذه التطبيقات أن يكون لها تأثير اقتصادي واجتماعي كبير على أوجه الحياة كافة في معظم مجتمعات العالم، وهذه الثورة في العلوم البيولوجية خطفت الأنظار عن علماء الفيزياء وحولتها إلى علماء البيولوجيا في الوقت الحالي وربما في المستقبل أيضًا. إنَّ التطورات الأخيرة في علوم الحياة كالاستنساخ وغيره من الطفرات يشير إلى قدرة هذه العلوم على إحداث انقلاب خطير، لا يقتصر على الصعود بعلوم البيولوجيا إلى مركز الصّدارة فحسب، بل يمتد إلى ما هو أكبر وأخطر من ذلك بكثير إلى حدود تصل إلى صعوبة التمييز بين العلم والخيال(1).
إنَّ الثورة البيولوجية المتسلحة بالمعرفة والتكنولوجيا الإحيائية، تهدف في الواقع إلى أن تصنع مجتمعًا جديدًا، لا مجتمعًا معدّلًا، مجتمعًا ليس مجرّد صورة مكبَّرة من مجتمعنا الراهن، وإنَّما مجتمع جديد. هذه الفرضية المنطقية البسيطة لم يُهيّأ لها بعد أن تبدأ في صبغ وعيِنا، ومع ذلك، فإننا ما لم نفهمها، فإننا حريّون بأن ندمِّر أنفسنا في محاولتنا التكيُّف مع الغد. فالإنسان المعاصر يحتاج إلى الخيال عندما يواجه ثورة، لأنَّ الثورة لا تسير في خطوط مستقيمة فقط، ولكنها أيضًا تلتفّ وتنثني، وتتراجع. إنها تُقبل في شكل قفزات كميّة، ودون تقبُّلنا للمنطق الثوري فإنَّنا لن نستطيع أن نحرِّر خيالنا لينطلق إلى آفاق مستقبل هذه الثورة البيولوجية الخطيرة ومنجزاتها وأحلامها(2).
كما تتضمَّن الثورة البيولوجية التَّجديد شأنها في ذلك شأن جميع الثورات العلمية والتقنية. إنها تدفع بفيض من الجدّة إلى حياة ملايين من الأفراد، وتواجههم بتغيرات غير مألوفة، وبمواقف يعاينونها لأول مرة، وعندما تصل التغيرات القادمة إلى أعماق حياتنا وكياننا، وبنائنا، ووراثتنا، فإنها سوف تحطم العلاقات التقليدية، وسوف تعصف بقيمنا، وبتصوراتنا لكل شيء. فإذا كان الزوال هو أول المفاتيح لفهم اﻟﻤﺠتمع الجديد، فإنَّ الجدّة هي المفتاح الثاني.
سوف يتكشَّف مستقبل الثورة البيولوجية عن متوالية لا تنتهي من الحوادث العجيبة، والاكتشافات المثيرة، والمآزق المستحدثة، بحيث إنَّ الإنسان بالنسبة لذاته يصبح كالرحّالة الذي يسكن بلدًا معاديًا، ليجد نفسه -ولمّا يكَد يستقرّ- مضطرًا إلى الرحيل إلى بلدٍ ثانٍ، ثم ثالث وهكذا... فيصبح الفرد تجاه المنجزات السلبية للثورة البيولوجية أشبه بغريب في بلد غريب. إنَّ الجوانب الوظيفية والنفسية الأساسية لحياة الإنسان تتغيَّر اليوم، وسوف تتغيَّر غدًا أكثر فأكثر أمراض الماضي الخطيرة التي ستختفي، بحيث يرجع الموت أساسًا إمّا لحادثة أو لإنهاك، وبلى الأعضاء الحيوية، فالثورة البيولوجية قد هيّأت في إيجابياتها فرصًا جديدة بدأت تظهر أمام الإنسان لإطالة العمر، وذلك بفضل التطور السريع لعلم زراعة الأعضاء، وبعده وشيكًا تجديد الأعضاء(3). وميادين هذه الثورة كثيرة يمكن لنا أن نلخص أهم مجالاتها، وهي كالآتي:
1- هندسة الجينات:
بدأ مفهوم هندسة الجينات عندما توصَّل العالم الأميركي "جيمس واطسون"، وعالم الفيزياء الحيوية البريطاني "فرانسيس كريك" عام 1953 إلى تركيب جزيء الـ(DNA)(*) من خلال النموذج الحلزوني، ومنذ ذلك الحين تجتاح العالم ثورة بيولوجية جزيئية هائلة تأخذنا من اكتشاف علمي إلى آخر(4). وبذلك يعتبر هذا الحدث المهم إيذانًا بمولد علم البيولوجيا الجزيئية Molecular Biology الذي حمل في طيّاته آثارًا بعيدة المدى، سواءً على النبات أو الحيوان أو الإنسان، حيث بدأت الاستفادة من الدراسات الجينية في علم الطب، وأصبح هناك ما يعرف بالعلاج الجيني وعزل الجينات وتطويعها لدراسات التشخيص الجيني للأمراض الموروثة حتى في المراحل الأولى من التكوين الجيني(5). حيث اتَّصف العقد الأوَّل من القرن الحادي والعشرين بتسارع يخلب الألباب في علوم الجينات. فبفضل تطورات تكنولوجيا القراءة التسلسلية للـ(DNA)، والتي خفضت كلفة هذه العملية 14000 ضعف في الفترة 1999- 2009، وتوفّرت الآن السلاسل النهائية لـ(14) حيوانًا في الثدييات ومسوّدات أو نسخ كاملة للعديد من الفقاريات واللافقاريات والفطريات والنباتات والأحياء الدقيقة. كما برز علم الجينات المقارن كمنهج متين لدراسة التطور ووظيفة الجينوم(**)على مستوى تفصيلي لم يكن يتخيّله أحد قبل عدة سنوات(6). وبمعنى آخر؛ فإنَّ التقدُّم المتزايد الذي حقّقه وسيحقّقه الإنسان في مجال بحوث الوراثة والجينات سيفتح له الآفاق للاقتراب كثيرًا من العصر الذي يستطيع فيه أن يؤثر على صورة أو هيئة سلالته ليخرج إلى الوجود على الصورة التي يريدها، بل وربما ينجبهم بطريقة التحكُّم أو ما يسمّى حاليًا (التخليق الجيني) Ectogenetical وهو أمر اعتبره بعض الباحثين تهديدًا للبيئة البشرية، أو أنه ضرب من ضروب موت الفجأة، ويتعلق بتغيرات محتملة في "الجينات" Genes نذكر على سبيل المثال، أنَّ العلماء في كلية الطب بجامعة "ستانفورد" استطاعوا حديثًا أن يجمعوا "تكوينًا جينيًّا" من مصدرين مختلفين، ويشكّلوا منهما جزيئًا واحدًا فعّالًا من الناحية البيولوجية هو جزيء (DNA). بعبارة أخرى، إنهم حققوا بنجاح "هندسة ومعالجة جينية" متقدمة جدًا تنبئ بإمكانيات فعالة ومهولة. لقد استطاعوا في واقع الأمر أن يوحِّدوا جزءًا من جينات واحد من البكتيريا مع جينات ضفدع، وأطلقوا على الكائنات التي توصّلوا إليها اسم "الكمير" لأنها بحسب تصوُّرهم لها، تشبه الكائنات الخرافيّة المسماة بهذا الاسم، وهي مخلوق له رأس أسد وجسم عنزة وذيل ثعبان، ولقد فزع هؤلاء الباحثون وغيرهم فزعًا شديدًا بسبب نجاحهم إلى حدّ أنهم شكلوا جماعة في الأكاديمية القومية للبحوث، وتدارسوا إمكانية إرجاء كل التجارب التي تنطوي على مخاطر، ومنها إعادة تركيب جزيئات (DNA) إذ قد يستطيع المرء على سبيل المثال، أن يطور جرثومة تسبب مرضًا لا نعرف له مضادًا لعلاجه، ممّا يؤدّي إلى كارثة تهدد الحياة، مثل هذه البحوث يجري حقًا في إطار الحرب البيولوجية، ولكن وفق معايير صارمة تكفل الأمن البيئي(7). وفي النهاية تُوِّج ذلك كله بمشروع الجينوم البشري أو الطاقم الوراثي وأثارت هذه الاكتشافات تطبيقات كثيرة تحمل العناوين التالية: هل الجنس ضروري للإنجاب؟ المبيض الصناعي- تخزين البويضات- أطفال الأنابيب- مصانع لإنتاج الأطفال- الشباب الأبدي- عقول جديدة للشيوخ- السيطرة على المزاج- شباب الذاكرة- الذكاء للجميع- السيطرة على الألم والعقل- هندسة الوراثة- اللعب بالوراثة- الجراحة الوراثية- تحسين نسل البشر- صناعة وإكثار الخلايا الحيّة. وبالطبع فإنَّ هذه القضايا تثير جدلًا قانونيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا(8).
2- الاستنساخ في الثدييات:
هو عملية يتم فيها استهداف الوصول إلى كائن حيّ مكتمل باستخدام خلايا جسديّة مأخوذة من أنسجة الجسم العاديّة، والمقصود هنا بالخلايا الجسديّة (غير الجنينيّة)، وتختلف عن الخلايا الجنسية وهي الحيوانات المنوية للذكر والبويضة للأنثى التي تنقل الصفات الوراثية. ويكون هذا الجنين المتكون متطابقًا من حيث الجينات الموجودة بنواة الخلية الأوليّة مع الشخص الذي أُخذت منه الخلية الجسدية، بمعنى أننا لو أخذنا خليّة من شعر رأس رجل واستخلصنا الشريط الوراثي من الخلية سيكون الجنين حاملًا للجينات نفسها بالضبط. أمّا عن عملية الاستنساخ(9)، فإنها تتم بالبداية من خلال أخذ خلية جسدية من الكائن الحيّ الذي نريد استنساخ جنين يحمل صفاته الوراثية والجينية نفسها، ثم يقوم العلماء بتفريغ هذه الخلية وفصل نواتها التي تحتوي داخلها على الشريط الوراثي المحتوي على الجينات DNA))، والمادة الجينية المستخلصة من داخل النواة عبارة عن 46 كروموسومًا. ثم يقوم العلماء بإدماج النواة التي تنتمي للكائن الحيّ الأول داخل بويضة مفرّغة النواة كحافظة لها. ثم يعرِّضون البويضة لشحنة كهربائية بحيث تبدأ بالانقسام، وبالتالي تُزرع الخليّة الشارعة بالانقسام في رحم الأنثى، حتى تكوّن جنينًا طبيعيًا يفترض أن يولد بشكل طبيعي(10). ففي فبراير/ شباط 1997، أعلن معهد "روز لين" بأدنبرة "اسكتلندا" عن ولادة النعجة "دوللي" في يوليو/ تموز 1996، بعد أن أخذ العلماء خلية من ضرع نعجة بالغة تمَّ إدماجها مع بويضات غير مخصبة لنعجة أخرى، وبعد فترة وجيزة أعلن الباحثون في مركز "أوريجون" لأبحاث الرئيسيّات بأميركا أنهم أنتجوا قردين "ريساس" ذكر وأنثى من أجنة مستنسخة. ولم يتوقف اللعب والتلاعب بالاستنساخ على مستوى الحيوانات(11)، "بل تعداه إلى الإنسان، حيث قام العالمان الأميركيّان "جيري" و"روبرت" عام 1993 بعملية استنساخ لأجنة بشرية. وتعتمد الفكرة على أنَّ أصل أيّ كائن حيّ هو خلية واحدة تنقسم إلى اثنتين ثم أربع وهكذا. بمعنى أنَّ الجنين يمرّ خلال تكوينه المبكر بخليتين فأربع فثماني خلايا... وهكذا. فإذا تمَّ فصل الجنين ذي الخلايا الأربع كيميائيًا -وهذا يتم بصورة طبيعية أثناء تكوين التوائم في رحم الأم- يمكن الحصول على أربعة أجنّة، ويمكن أن نجعلها تستمر في النموّ لفترة خارج الجسم لمرحلة معيّنة ثم يتمّ زراعتها في رحم الأم. وفي الوقت نفسه يمكن تجميد بعضها وزرع جنين واحد. وفي جميع الأحوال النتيجة واحدة. إنه عصر الاستنساخ البشري"(12). "والنتائج الأوليّة لهذه التجربة مثيرة وخطيرة في آن واحد وتتلخص في أنه يمكن استنساخ أيّ عدد من الأجنّة من أصل خلية واحدة؛ أنه يمكن الاحتفاظ بأيّ من هذه النسخ المتطابقة وراثيًّا مجمّدة لأيّ فترة ثم يسمح لها بالنموّ مرة أخرى، ممّا يؤدّي إلى نمو جنينين متطابقين وراثيًا ومختلفين عمرًا، ولأيّ فترة مطلوبة بحسب طول أو قصر فترة التجميد"(13).
إنَّ مثل هذه التقنيات المتطورة في التلاعب في الخلايا والوصول إلى الاستنساخ يحمل في طيّاته الكثير من المخاطر المستقبلية، فقد أصبح جسم الإنسان في وقتنا الراهن محلًا للتجارب العلمية وللتلاعبات الوراثية والتقنية بشكل لم يُعرف له مثيلٌ في تاريخ البشرية. ويبدو من كل ذلك أنَّ هدف الأبحاث الطبية والعلمية، وعلى أقل تقدير موضوعها، أصبح إعادة تكوين الإنسان وليس معالجته. والأبحاث والتجارب التي تتم في مجال الاستنساخ والعلاج الجيني والإنجاب المساعد طبيًّا والتشخيص قبيل الزرع خير مثال على ذلك(14)، ممّا يثير الكثير من القضايا الاجتماعية ويمسّ بكرامة الإنسان، وهذا ما دعا أحد العلماء للقول إنَّه إذا لم نجرِّم استنساخ الإنسان، فإنه سيظهر رأي عام بتجريمه، لذلك يجب أن نضع حدًّا لهذا الاستنساخ، وعلى الرّغم من الفوائد العديدة التي يذكرها المدافعون عن الاستنساخ والتي تتعلق بالحيوان والإنسان، إلا أنَّ أحد العلماء قال: "نحن غير مهتمين أن نلعب دور الإله، ولكن يجب أن نركّز اهتمامنا في أن نقوم بدورنا كأطباء". ونتيجة لهذا التطور في علوم الحياة بدأت الأصوات ترتفع محذرة من عواقب هذه التطورات، وضرورة الالتزام بأخلاقيات العلم، خاصة الأخلاق البيولوجية التي تتمثل في المعرفة البيولوجية المثيرة لمجموعة من القضايا المتعلقة بتطبيقاتها العلمية البيولوجية والطبية، وهي دائمة الإثارة للآراء الجدليّة، وذلك لتباين الأطر الأخلاقية والمعايير الثقافية والدينية والعرفية والقانونية المحدّدة وما لا يجب فعله من تلك التطبيقات(15).
3- توصيل جينات بشريّة إلى أجنّة الحيوانات:
كشفت صحيفة "ديلي ستار" البريطانية عن تطوُّر يشبه الخيال العلمي تقريبًا، قام فريق من الباحثين بتوصيل جينات بشرية إلى جنين قرد في العام الماضي (2020)، ما أدّى إلى نموّ حيوان بدماغ أكبر بكثير وأكثر تقدُّمًا.
ويعمل الباحثون من معهد "ماكس بلانك" الألماني لبيولوجيا الخلايا الجزيئية وعلم الوراثة في ألمانيا، مع فريق من المعهد المركزي الياباني للحيوانات التجريبية، على نسخ مزروعة من جين ARHGAP11B البشري في جنين قرد القشة الشائع. حيث أفاد العلماء أنَّ القشرة المخيّة الحديثة للقرد، الجزء من الدماغ المعني باللغة والتعلم، تضخّمت بشكل كبير من خلال هذا الإجراء. وتؤكد النتائج البحث السابق الذي يشير إلى أنَّ جين ARHGAP11B هو عامل رئيس في تطوير الذكاء.
ويُلقي البحث الجديد، المنشور في العدد الحالي من مجلة "ساينس"، الضوء على كيفية تطوير قدرات التفكير التي حوّلتنا من مجرّد أسلاف بشرية بسيطة إلى مخلوق طوّر الحضارات والمدن والمركبات الفضائية. وفي هذا السياق قال "مايكل هايد"، المؤلف الرئيس للدراسة، في بيان صحفي: "وجدنا بالفعل أنَّ القشرة المخيّة الحديثة لدماغ قرود القش تضخّمت وانثنى سطح الدماغ. صفيحتها القشرية كانت أيضًا أكثر سمكًا من المعتاد.
وشدَّد المؤلف المشارك في الدراسة "ويلاند هوتنر"، على أنه لم يُسمح للأشخاص الخاضعين للاختبار على الحيوانات بالتطوُّر إلى ما بعد مرحلة الجنين بسبب مخاوف أخلاقية. لأسباب تتعلق بالعواقب المحتملة وغير المتوقعة فيما يتعلق بوظيفة الدماغ بعد الولادة، اعتبرنا أنه شرط أساسي وإلزامي، من وجهة نظر أخلاقيّة، لتحديد آثار ARHGAP11B على تطوُّر القشرة المخيّة الحديثة للجنين(16).
هكذا نجد أنه منذ الإعلان الرسمي لاستكمال الخريطة التقريبية للأطلس الوراثي "الجينوم" صدرت ردود فعل وتحذيرات من مخاطر استغلاله باعتباره محاولة أوليّة لانتهاك جوهر الحياة. ومع أنَّ فكّ رموز الجينوم البشري يمثل ثورة علمية وانقلابًا اجتماعيًا سيغير كثيرًا من المفاهيم والقيم الاجتماعية والأخلاقية حول أصل الجنس البشري ومستقبله، فإنه في الوقت ذاته سيتمكن من اقتحام ميدان تطوير الكائنات البشرية، حيث يصبح بالإمكان التلاعب بالجينات والتحكم في الصفات الخاصة بالأجنة، الذي من الممكن أن يقود إلى وضعيات غير محسوبة وإلى تضارب في الاعتبارات الأخلاقية(17). والحال أنَّ هذه الثورة العلمية الخطيرة تشكل تحديًا مثيرًا ومخيفًا في آن واحد، إذا لم تخضع لمراقبة جديدة ومسؤولية عالية. وإذا حدث أن تدخَّل العلماء لتغيير الجينات البشرية والتلاعب بها فلن تبقى هناك حدود فاصلة بين العلم والمجتمع والثقافة. ولكن متى يصبح هذا التدخل تخطيًا للحدود الاجتماعية والأخلاقية؟ وما هي التبعات الاجتماعية والأخلاقية، التي ستترتب على إنتاج كائن حيّ مُصنَّع أو إنتاج مخلوقات جديدة ذات تشوُّهات خلقيّة، أو حين يفقد الإنسان خصائصه المورفولوجية والانثروبولوجية؟(18) هذه التساؤلات دفعت بعدد من المفكرين والفلاسفة إلى التساؤل عن مستقبل الطبيعة البشرية والتحذير من التلاعب بها، "إلى دقّ ناقوس الخطر بشأن تدخُّل أطراف مستفيدة من هذه الثورة لتحريف إنجازاتها واستغلالها لأغراض لا إنسانية أو على الأقل ستنطوي على تهديد لحميميّة الكائن البشري وكرامته وخصوصيته"(19). كان أوَّل مَن تأثَّر نسقه الفكري بهذا الحدث "يورغن هابرماس"، حيث اتَّخذ منه موقفًا صريحًا وواضحًا في كتابه "مستقبل الطبيعة البشرية نحو نسالة ليبرالية"(*) الذي صدر في فرانكفورت عام 2001، منطلقًا من العلاقة الجدلية بين أخلاق الفرد وأخلاق النوع، بعد أن أصبح للتطور التكنو- بيولوجي انعكاسات أساسية في الأخلاق الفلسفية، "إذ يخشى هابرماس أن يؤدي الخلط بين الطبيعي فينا و"المُعالَج" إلى تشويش فكرتنا الأخلاقية عن أنفسنا، إذ لا يمكن للإنسان بأن يتحمّل أن تكون حياته ومستقبله محدَّدين جينيًّا، مع ما نعلم من مدلول ذلك بالنسبة إلى حريّته، حيث لا يمكن للفرد أن يظل مؤمنًا بحريته إذا كان مستقبله ومآل أفعاله معلومين له من قبل. فثمّة ضرب من الحق الأساسي لكل فرد في أن يكون مستقبله غير محدَّد"(20). ولكن "هابرماس" لم يتناول هذه القضية من وجهة نظر الخبير، بل الفيلسوف، فيقول إنَّ ما أثار اهتمامه قبل كل شيء، هو إيجاد إجابة عن السؤال التالي: "كيف يمكن لنا أن نغيِّر من رؤيتنا لأنفسنا كبشر، يعيشون ويتحمّلون مسؤولية أفعالهم، عندما يأتي اليوم الذي نقوم فيه بالتحكُّم في طبيعتنا الجينيّة أو في كيفيّة عمل عقلنا؟".
يرى "هابرماس" أنه إذا جاء اليوم الذي يصبح فيه تطبيق التكنولوجيا الحيوية على طبيعتنا الجينيّة والتحكُّم في الأساس الذي يعمل من خلاله العقل البشري، من المسائل الطبيعية والروتينية، فإنه من المحتَّم أنْ تتغيَّر رؤيتنا لأنفسنا تغييرًا كاملًا. فإنَّ هذا التطوُّر من شأنه، بحسب قوله، أن يؤثر بالضرورة في "الإدراك الباطني" الذي يعتبر مميّزًا لكل شخص، والذي يصاحب كل أعمالنا، والذي يؤكد في النهاية أنَّ الفرد هو الذي يتحكّم ويصنع فكره. ويقول "هابرماس" إنَّ أحد العناصر الأساسية لهذا الإدراك، هو الاقتناع التام بأنَّ الفرد قادر على أن يبني أفكاره وأعماله على أساس المنطق. فإذا تهدَّم إدراكنا هذا بالحريّة في التفكير والعمل، عن طريق التحكُّم فيه عن بُعد، وتوجيهه، فإنَّ المؤسسات الديمقراطية سوف تنهار أيضًا. لذلك فإنَّ الطفل الذي يتم تشكيله جينيًّا قبل مولده، بحسب رغبة الأهل، سوف يشعر عندما يصبح في سن المراهقة بأنه سجين في تلك الرغبات السابقة ومقيّد في حريته الأخلاقية. وفي تلك الحالة فإنَّ المراهق سيشعر أنه ليس مسؤولًا عن أفعاله، بل المسؤولون هم أهله الذين اختاروا له تلك الصفات الجينية. وسوف يحمّلهم مسؤولية أفعاله. ويرى "هابرماس" أنَّ الأهل يريدون الأفضل لأطفالهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يحدّدوا الصفات الأفضل في تاريخ حياة ليست حياتهم. لذلك فإنَّ الفيلسوف الألماني يرى أنه من الأفضل الاقتصار على إجراء تغييرات جينية طبيّة، حتى لا نخاطر بإجراء تغييرات جينيّة فكرية وعقلية تأتي بنتائج عكسية. على أنْ تتمّ تلك التغييرات الطبية بين أشخاص عاقلين قادرين على إعطاء موافقتهم عليها(21).
بناءً على ما تقدَّم يصرُّ "هابرماس" على القول إنه من الخطأ الاعتقاد أن الفلاسفة ليست لديهم أسباب كافية للدخول في سجال حول موضوع خطير كموضوع تغيير الجنس البشري من قبل علماء البيولوجيا وعلماء الخيال الجامح والمهندسين المعجبين بهذا التطور، الذين لم يعودوا يفكرون بأدواتهم العلمية الخاصة واستقلالية العلم والأخلاق، وإنما أخذوا يفرضون أخلاقًا جديدة لجنسنا ومستقبله الحضاري. وإذا كانت الفلسفة الإغريقية حددت مفهوم الحياة الفاضلة بمنهجية ما بعد ميتافيزيقية وأنثروبولوجية، فإن "هابرماس" يشدد على أن تكون الأخلاق النوع امتدادًا لأخلاق المعرفة الأنثروبولوجية. فمنذ كارثة تشرنوبيل -كما يقول "هابرماس"- بتنا نرى العالم كأنه جميل ومن دون تنميط، ومع ذلك لا يترك "هابرماس" نوافذ الأمل مغلقة أمامنا، على الرغم مما يحدث في الصين، حيث بدأ العلماء بإنتاج أنسجة حية منها إنسان والآخر أرنب ما يجعلنا نشعر بالقذارة والغثيان. ويرى "هابرماس" أن هذه النظرة المسطحة للنظام الطبيعي ولأشكال الحياة الأخرى ينبغي بل يجب، أن تتغير ويبقى الإنسان هكذا بلا تلاعب في طبيعته.
أما عن موضوع استنساخ أعضاء بشرية محددة فينبغي أن يتم وفق إعداد علمي وتقني متكامل وموضوعي ومنظم فلسفيًا، وعلى أسس علمية نقدية، وأن لا تكون الأفكار ذات طبيعة مقدسة وغير ملموسة، إذ ينبغي لـ"علم تحسين النسل" -بحسب "هابرماس"- أن يكون إيجابيًا وأن يتخطى قذارة الإنسان- الأرنب في كل الأحوال.
وهكذا نجد أنَّ "هابرماس" قد حذَّر مرارًا من تبعات التلاعب في الجينوم البشري، ودعا المؤسسات السياسية والقانونية إلى إنعام النظر في التقدم البيولوجي للعلوم البيولوجية منذ الآن حتى لا تكون التبعات باهظة الثمن، واستشهد بقصة الأرنب المغلوب على أمره في السباق الذي جرى بينه وبين القنفذ. الأرنب المسكين لم يلاحظ أنَّ في الملعب قنفذين هذا من جهة(22)، ومن جهة أخرى يجادل "هابرماس" في هذا الصدد حول مشكلة تحسين النسل الليبرالية، التي تقوم على تحسين جنس الفرد بإرادته، لكن المشكلة أن من ممكن أن يغير هذا التحسين طبيعة الجنس البشري، الذي ما زلنا نتعايش معه في صورة طبيعية، فجسدنا المعطى بهذا الشكل لم يصنعه أحد، ولكن عندما يتدخل بعضهم في تقرير الأسس البيولوجية لأطفال مصنّعين من قبل الآخر، فهذا يعتبر اعتداءً على الأجنّة البشرية ويجعل الحياة الإنسانية مجرد أداة لتحقيق أغراض اقتصادية، كما يحوّل السيطرة على الذات البشرية، بشكل مغاير لفهمنا لأخلاقية وعينا الإنساني، وهو في الأخير يقودنا إلى حياة مستقلة ذاتيًا، ما يؤدي إلى إساءة الفهم العالمي للأخلاق، بحيث تنمحي الحدود الفاصلة بين ما هو أصيل وما هو أو مصمم من قبل الآخر. "فإن ذلك يفرض علينا أن نعالج بهدوء المسائل التي تطرح اليوم علينا؛ بحيث يجب علينا أن نكون أكثر تهيؤًا لنعترف بأنه ليس من السهولة بمكان مواجهة ردّات الفعل التي تثير الخوف بواسطة حجج أخلاقية نقيضة. أعني بذلك الحجج العلمانية التي عليها، في إطار مجتمع يتسم بتعددية رؤاه للعالم، أن تحسب حساب إمكانية القبول عند الجميع"(23).
إلا أنَّ "هابرماس" على العموم حذَّر من تبعات التلاعب بالجينوم البشري الذي من شأنه "أن يزعزع الفوارق الحادة بين الذاتي والموضوعي، بين ما ينمو طبيعيًا وما هو مفبرك في أماكن لم تكن حتى الآن تحت تصرّفنا.... إن ذلك يمكن أن يعدل من فهمنا لأنفسنا من منظور أخلاقيات الجنس البشري وهذا قد يؤثر على الضمير الأخلاقي- فإنّ ذلك والحالة هذه قد تمسّ شروط النمو الطبيعي التي لا بد منها لنا حتى نستطيع فهم أنفسنا بوصفنا صانعي حياتنا الشخصية وكأعضاء متساوين في الحق بالجماعة الأخلاقية"(24). لذا يرى "هابرماس" ضرورة إبداء الرأي في تحفيز المؤسسات السياسية والقانونية لوضع تصورات وأفكار حقيقة حول ما سمّاه "سيناريو تحسين الأجنة" لخلق الأرضية الأخلاقية التي من الممكن أن نقف عليها تحت أقدامنا حينما تطرح قضية تكنولوجيا الجينوم بين أشخاص مؤسسات لها قابلية على الفعل والاتصال"(25).
فرضت أبعاد هذه القضية المثيرة للجدل على "هابرماس" أنَّ الحل يكمن في ضرورة تفعيل مبادئ وأسس فلسفة التواصل بمعنى أنه لا بد من الاعتماد على القوى العقلانية التواصلية لتبادل وجهات النظر حول مواضيع تخص المصالح العامة ممّا يتيح انبثاق رأي عام حولها، وذلك وفقًا لشروط وقواعد أخلاقية تنفي قهر الذوات أو السيطرة عليها أو خداعها ممّا يتيح لهم الفرص بالتساوي للمشاركة في الحوار والنقاش، كما أنّ الإجماع لن يتم الوصول إليه إلا عن طريق قوة الأطروحة الأفضل. بذلك تشكل هذه التطورات دافعًا قويًّا لتمسك "هابرماس" بقوى العقلانية التواصلية لإنجاز عملية التحول الاجتماعي، التي تعتبر إحدى القضايا المهمة التي تسعى العقلانية التواصلية إلى إيجاد حل لها ضمن إطار الحوار والمناقشة بعيدًا عن ممارسات العنف والقمع، التي تفضي لا محال إلى قمع آراء الآخرين باغتصاب حقهم في المشاركة الفاعلة في بناء مجتمعهم. وفي هذا الصدد يقول "هابرماس": "أودُّ انطلاقًا من مقدمات دولة القانون الدستوري الصارمة، في إطار مجتمع تعددي، تقديم مساهمة تهدف من خلال النقاش، إلى تحديد النقاط على هذه المشاعر الأخلاقية التي أيقظها الموقف فينا"(26).
وإذا كان من المسلَّم به ضمان حرية البحث والابتكار للعلماء والباحثين، فإنَّ ذلك يجب أن يقترن بمسؤولية أكبر من جانب العلماء أنفسهم، إذ شتّان بين باحث أو عالم يجري أبحاثه وتطبيقاته كيفما شاء، أو بإيعاز من جهات رسمية، لا تضع في اعتبارها مصلحة الإنسان، وباحث آخر يلتزم أبعادًا أخلاقية في إجراء تجاربه وتطبيق نظريّاته. والفرق بين عالم لا مسؤول وعالم ملتزم ومسؤول كالفرق بين آلة ميكانيكية تؤدي عملها بلا إحساس أو شعور، وإنسان يؤدي واجبه بوحي من الأخلاق الرفيعة والمسؤولية تجاه الآخرين.
والنتيجة الأخيرة التي نودُّ أن نؤكد عليها هي أنَّ ما هو في صالح البشر يجب تشجيعه، وما هو ضد صالح البشر يجب إيقافه، ولذلك ستكون هذه الثورة محط اهتمام كل المجتمعات الإنسانية، لأنها تختص بمادتنا الوراثية وإرثنا البيولوجي نحن كبشر. وقد غدا من الضروري أن يعرف كل مثقف ومسؤول في عصرنا هذا تفاصيل وخبايا هذه الثورة، والقضايا التي تعالجها والتي ستفجرها، فنتائجها تهمّنا جميعًا، وهذا الموضوع بلا شك يمسّ حياة كل منّا، لأنه يطلُّ إطلالة واضحة على مستقبل الطب والعلم والأخلاق والحياة في هذا العصر(27).
• الهوامش:
(1) جمال عبدربه الزعانين: التغيرات العلمية والتكنولوجية المتوقعة في مطلع القرن الواحد والعشرين في المجتمع الفلسطيني ودور التربية العلمية في مواجهتها، مجلة الجامعة الإسلامية، غزة، المجلد10، ع2، 2002، ص79.
(2) سعيد محمد الحفار: البيولوجيا ومصير الإنسان، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع38، نوفمبر، 1984، ص18.
(3) المرجع السابق، ص18-19.
(*) أي بنية الحمض النووي منقوص الأوكسجين.
(4) فواز صالح: المبادئ القانونية التي تحكم الأخلاقيات الحيوية، دراسة مقارنة في القانون الفرنسي والاتفاقيات الدولية، مجلة الشريعة والقانون، ع22، ذو القعدة 1425- يناير 2005، ص151.
(5) جمال عبدربه الزعانين، مرجع سابق، ص79.
(**) الأطلس الوراثي (الجينوم).
(6) فرانسيس كولينز: هل بدأت ثورة الجينوم؟، ترجمة: علي الحارس، مجلة نيتشر، (1 أبريل 2010)، ص3.
(7) سعيد محمد الحفار، مرجع سابق، ص19.
(8) جمال عبدربه الزعانين، مرجع سابق، ص79- 80.
(9) لمزيد من القراءة والاطلاع انظر: تشارلز باسترناك: جوهر الإنسانية سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف، ترجمة: زينب عاطف، مراجعة محمد فتحي خضر، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2018، ص375 وما بعدها.
(10) الاستنساخ-البشري-وتطبيقاته www.ts3a.com
(11) جمال عبدربه الزعانين، مرجع سابق، ص80.
(12) أسامة أبوالوفا: الطريق إلى دوللي، قراءة في كتاب: الاستنساخ.. الطريق إلى دوللي، للكاتبة جينا كولانا، مجلة أفق الثقافة، (السبت1فبراير2003).
(13) محمد علي بدوي: استنساخ الأجنة ثورة علمية أم كارثة إنسانية، مجلة العربي، ع454، (9/ 1996).
(14) فواز صالح، مرجع سابق، ص165.
(15) جمال عبدربه الزعانين، مرجع سابق، ص81.
(16)
https://www.dailymail.co.uk/sciencetech/article-8969729/Scientists-insert-human-genes-monkey-brains.html
(17) إبراهيم الحيدري: النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة، دار الساقي، بيروت، ط1، 2012، ص278.
(18) المرجع السابق نفسه، ص278-279.
(19) عبدالمجيد السخيري: العلم والإتيقا: رهانات السوق، مجلة فكر ونقد (ثقافية، فكرية)، ع55، (يناير 2001).
(*) يورغن هابرماس: مستقبل الطبيعة الإنسانية نحو نسالة ليبرالية، ترجمة: جورج كتورة، مراجعة: أنطوان الهاشم، المكتبة الشرقية، ط1، 2006.
(20) عصام عبدالله: مستقبل الطبيعة الإنسانية، صحيفة إيلاف الإلكترونية، (الأربعاء 20 ديسمبر 2006).
(21) عصام عبدالله: رهان الحداثة وما بعد الحداثة، الدار المصرية السعودية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2006، ص50-51.
(22) إبراهيم الحيدري، مرجع سابق، ص279- 280-281.
(23) يورغن هابرماس، مرجع سابق، ص29.
(24) المرجع السابق نفسه، ص55.
(25) إبراهيم الحيدري: هابرماس يحذر من سيناريو الجينوم البشري، صحيفة الحياة، ع14022، (6/8/2001)، ص13.
(26) يورغن هابرماس، مرجع سابق، ص32.
(27) نعيمة علي صالح الفارسي: الثورة الجينية والأخلاق، رسالة ماجستير، جامعة بنغازي، كلية الآداب، قسم الفلسفة، 2012، ص54- 152.